عبد الرحيم التدلاوي - قراءة في رواية ( صرخة المصابيح ) للروائي حسن إمامي

  • صرخة المصابيح مقاومة ضد سياسة محو الذاكرة:
    تروم الرواية قراءة الواقع عبر مساءلة لحظة اختفاء المصابيح، و لتفعل، تقوم برحلة في أغوار المسارات، و ما يجري خلف الكواليس، تريد تسليط الضوء على الأماكن المعتمة، وتسعى إلى تحريك أمواج البركة الراكدة، تبغي استنهاض الهمم، فسرقة المصابيح هي سرقة للتاريخ، و تعويم للذاكرة، و نداء للنسيان بل للمحو. بيد أن الشخصية الأساس، و قد ظلت لفترة تحمل مشعل الرغبة متقدا، ستصاب ببعض رجفة البرودة، لتفكر في مواصلة البحث لا للكشف، بل لهز الضمائر حتى تقوم بواجبها. و بذا، تتجنب السقوط فريسة سكين حمقاء، قد تحركها يد متنفع أو متنفذ، خاف التعرية فرام الإسكات.

    و في رحلتها البحثية تلك، حصلت تطورات كثيرة توجت بقتل عتم مسار الكشف، و أبهم طريق بلوغ النتيجة. لقد بذل الرجل، سعيد الحاكي، مجهودات كبيرة صحبة رفيقة دربه وإحدى المولعات بالروايات البوليسية ، بغاية بلوغ طريق توصل إلى الكشف و التعرية، لكن النهاية أتت بما لا تشتهيه رغبات الشخصيتين، فقد صارا محط شكوك، و في الوقت نفسه مساءلة و تحقيق، لأن الهدف صار بلوغ مَنْ القاتل، ومعرفة أهدافه؟ و بذا، تحول مجرى معرفة سارق المصابيح إلى معرفة القاتل الحقيقي، و تكون الرواية قد وضعتنا في فراغَيْن اثنين، الكشف عن أحدها قد يؤدي إلى معرفة الثاني. بيد أنه يمكن القول: إن القتل كان بغاية تعتيم الخيوط، و تغميض مسار القبض على القناديل.

    لقد ارتبط العثور على المطلب بلحظة اكتشاف آثار دم عليها. وفي رحلة البحث ستتكشف الكثير من القضايا، تقف وراء السرقة، منها الجهل والفقر و الشعوذة، مع إشارات إلى بعض الطقوس الاحتفالية المعبرة عن كوامن النفس البشرية، هذا فضلا عن الشذوذ الجنسي الذي يكتنف الاحتفال بتلك الطقوس. كما أن الرحلة كشفت عن وجود مافيا شديدة البأس تتخذ مدنا بذاتها مراكز لسرقة و بيع الآثار. و يمكن عد مراكش عاصمة لهذا الفعل، إذ بها و فيها تتم الصفقات، و تحرر الشيكات، وتتم المبادلات. وإرادة البحث والتنقيب تستدعي القيام بالتنقل بين الأمكنة، ولذا نجد حضورا لافتا للمدن العتيقة، ذلك أنها محطات بازارات تتاجر في التحف والآثار. بيد أن عملية الكشف تعترضها إرادة الحجب، الأمر الذي يولد صراعا بين إرادتين. فما أسباب نجاح إرادة الحجب باعتبارها رغبة تعتمد التخفي والتستر لمزاولة أنشطتها، أو بالحري، ما العناصر التي تساعدها في إنجاح مهمتها؟

    ترصد الرواية الكثير من العوامل المتشابكة التي يسرت أمر التهريب، وساهمت في تفاقم أزمته، وتهدد بمحو الذاكرة إن لم تتخذ تدابير كفيلة بالحد منه، وينهض بهذه المهمة الدولة والمجتمع المدني كل من جهته، إننا جميعا معنيون بالقضية، ولا أحد ينبغي له أن يترك الحبل على الغارب. من بين تلك العوامل:

    1_ الرشوة: هي الداء الفتاك، وأس المشاكل، وبوابة الخراب، بفضله يصير كل شيء ممكنا. ص 45.

    2_ الفساد: وهو صنو الرشوة وقرينها، هما معا يسيران جنبا إلى جنب، فحيثما حل الأول حضر الثاني، لا يمكن أن ينفصلا عن بعض. ص 54.

    يقول السارد:

    ( فحيث الفساد والرشوة يسهل على كل مافيا منظمة القيام بعملها واستثمار أموالها وتطوير مشاريعها. خصوصا وأن الأفراد يسهل تهديدهم وابتزازهم سواء داخل مناصب المسؤولية أو في حياة السمسرة والوسائطية. هكذا نجد ان الثنائي القاتل قادر على صنع الطريق السالكة لنجاح تجارته المهدد لأمن وسلامة الأمم، ومدمر لذاكرتها وخصوصياتها، ومن ثم حاضرها ومستقبلها).

    3_ الاستبداد: إنه العنصر المدمر لكرامة الإنسان، والمسهم في مسخه، لقد أدرك سي سعيد هذه الحقيقة وهو يتابع الشيخ المسن، هذا الرجل الهم والمنحني الظهر بفعل القهر والمعاناة، يقول: إذا كان هذا وضع الإنسان بالبلاد، فما بالنا بوضع الآثار به؟ ص 173، وهو سؤال وجيه، إذ إن الآثار لا يمكن الحفاظ عليها إذا كان يعيش القهر والذل، وإذا كان وضع الصحة والتعليم في البلاد في الحضيض. لذا، فالأولوية في الحقيقة، كما يقول سي سعيد: ( للحي في الدفاع عن كرامته وحقوقه. لكنها قصة نضال أجهض عند الجل من جيلنا. للأسف). ص 173.

    4_ الخرافة: وهي العنصر الآخر المساهم في الخراب، فهي لا تساعد على طرح السؤال، والبحث عن أجوبة، فأجواؤها تغيب العقل، وتقتل النقد، وتسهم في سيادة سلطان الاستبداد. ص ص 120 و129. وقد سعى سي سعيد الحاكي إلى إلقاء أضواء على طقوس الاحتفال الذي تشهده منطقة سيدي علي احتفاء بالمولد النبوي الشريف، ومحاولة فهم لها، كما في ص 140 وما يليها. وبعد تفكير طويل، توصل سي سعيد بحدسه: ( أن القضية ثقافية أكثر منها جنائية وقضائية، فأن تستفحل الظاهرة داخل المجتمعات، فإنها سترتبط بعوالم لابد من محاربتها. أولها الفقر المستشري بين الفئات المعدومة من الدخل القار الذي يساعدها على العيش الكريم. ذلك أن المتاجرة في القطع الأثرية يأتي عالميا من خلال الدراسة بعد الاتجار في المخدرات). ص 177.

    وما الفقر إلا من نتائج التسلط والتهميش والأمية. ولكي يحارب الفقر لابد من الوقوف في وجه الاستبداد، ومن هنا تلك الأسئلة التي طرحا سي سعيد على نفسه: ( ما هي درجة استعداد المواطن البسيط في معارضة قدر السياسة الذي أصبح مسلطا على الرقاب؟ من يستطيع الدخول في التحدي؟). ص 164

    ثم لقد أدرك بعد طول تأمل، ومن خلال الشواهد الحيانية أن: ( الموضوع ليس مجرد آثار. هو موضوع طبقي وقضائي وسياسي بامتياز. أما الاقتصادي فهو الوقود المحرك لكل الثلاثة). ص 173. الأمر الذي يجعلنا ندرك أننا إذا لم نسارع فى محاربة كل هذا الأدواء سنغرق لا محالة: ( لم يعجبني تخالط الموضوع وتخالط هذه القيم. لم يعد للحياة طعم داخل حقائق الخيانة والغدر والاستغلال. رغم أن الناس هم من وضعوا أنفسهم واقتادوها إلى هذه الهاوية فإن الواقع يشهد بأنه مجتمع يغرق وينهار. صحيح أننا نبحث عن تحرر، لكن البعض يراه فرصة للأعمال البشعة من أجل المادة والمتعة. هو كبت مركب يتفجر بأشكال بشعة). ص 160.

    ومن هنا نفهم رمزية المصابيح كما قدمها سعيد الحاكي، فهي ليست: ( سوى ورقة توت صغيرة متساقطة من شجرة الإنسانية، والتي تكشف عريها البشع وسخافة وتفاهة لهثها الأعمى وراء اللاشيء، وراء العدم والفناء). ص 21.

    وعليه، ينبغي أن تكون تلك المصابيح: ( لعقولنا كمجتمع ما يزال يؤمن بمثل هذه الخرافات التي يغيب عنها نور العقل والعلم). ص 133.

    إن المصابيح ستتخذ لنفسها رمزية النور الطارد للظلمة المتشكلة من الخرافة والتسلط والفقر والأمية. ستكون صرخة ضد الظلام ورغبة في معانقة النور. ترى، ما أسباب انشغال سعيد الحاكي بقضية المصابيح؟ صحيح أن سعيد الحاكي قد استرعت انتباهه وهو تلميذ في الباكالوريا، سيارة وعلى متنها أربعة موظفين بإدارة الموقع الأثري لوليلي، وعودتهم على غير العادة، وبعدها أعلن عن سرقة لتمثال إله الخمر باخوس. لكن علي هو من حفزه على الاهتمام بقضية المصابيح بخاصة، وسرقة الآثار بعامة. ص 175. ولم يكن مدركا ما سيخلفه ذلك البحث من أثر سلبي في نفسيته. ففي عملية بحثه :( شعر بحالة مرضية نفسية تتعقد في دواخله. هوس بموضوع أراد له نهاية جميلة. لكنه لم يكتشف معه إلا سياسة غير شرعية ولا أخلاقية). ص 188.

    ونظرا لصعوبة القضية وملابسانها وخطورتها، فقد قرر سعيد أن يكون دوره مقتصرا، فقط، على:( تقصي القناديل الموجودة والقائمة اليوم، والتي يعود تاريخها إلى عهود المغرب القديمة. سأحصي المتاحف التي تحتضنها والمستودعات التي تنام في عتماتها. ربما بهذه الطريقة سأعمل على تغطيتها إعلاميا بالتعريف بها وبهويتها وعمرها ومكانها. حينئذ سألقي المسؤولية على المجتمع لكي يعمل على حماية ما تبقى في انتظار استرجاع ما سرق. هكذا سأستريح). ص 194.

    ستلومه صديقته لبنى على هذا الموقف معتبرة إياه استسلاما. لكنه سيحاول إقناعها بعدم قدرته فردا على مواجهة لوبيات وأيادي ومافيات وأسرا فيلات وقصور، لكونه ليس بطلا ولا يريد أن يكونه.



    جانب التقنية في الرواية:

    تنضبط الرواية لإيقاع ثنائية الكشف والإظهار، وإذا كانت قد مست بعمق الدائرة الكبيرة، والمتحكمة في مجمل النص؛ ونقصد بها دائرة البحث عن سرقة المصابيح في إطار الكشف والتعرية ضدا على حركة الإخفاء والتعمية، فإنها قد مست دوائر صغرى، كمثل كشف ما تخفيه مذكرات الصديقة، ص 84، ومحاولة معرفة أسباب إخفاء سي سفيان محاولة قتله، وسعيه إلى التكتم، إذ إن فعله مثير للفضول، داع إلى الكشف بغاية المعرفة، ص 94. وكشف ما يجري في الحانات، وكشف العوالم الخفية لاحتفالات عيد المولد النبوي بمولاي علي.

    إن هم المعرفة يشكل حجر زاوية الرواية، فهو عطش ينبغي إطفاؤه، وجوع ينبغي إشباعه. هكذا نعثر على أن أهم عنصر مشكل لنغمة الرواية هو جدلية الإخفاء والتعرية، وحتى قضية القتل التي حولت مجرى الأحداث من البحث عن القناديل إلى السؤال عن القاتل، نجد أنها تتوافق والثنائية البانية. إلا أن ذلك يظل محفوفا بمخاطر، فالنبش والبحث والتعرية ليست أمورا هينة وسهلة، فهي قد توقظ الغول من نومه، وبخاصة حين يشعر بتهديد يمس مصالحه، بل وجوده. ذلك ما تخبرنا به الرواية في صفحتيها 41 و42، إذ نستشف من الحوار الذي جرى بين المحامي والشخصية الرئيسة، أن التنقيب غير قانوني، وأن سعيد الحاكي ليس طرفا في القضية. وقد أدرك ذلك حين قال السارد: ( ها هو قد أصبح يبحث داخل الممنوع عن الممنوع).


    تعدد السراد:

    اختارت الرواية عن قصد وسبق إصرار أن تكون رواية بوليفونية، وأعرضت عن الرواية المونولوجية، حيث نعثر على سراد كثر يقومون بمهمة الحكي داخل النص بشكل ديمقراطي ينحو باتجاه التنويع والتغيير، ويمنحنا فرصة الإطلال على الموضوع المعالج من زوايا عدة ومختلفة.

    وإذا كان السارد الأساس هو الشخصية المحورية في النص، فما ذاك إلا لعبة سرد طريفة اعتمدها الراوي الأكبر، ألا وهو الكاتب حسن إمامي، تجعلنا ننتقل من السارد إلى الشخصية المحورية بيسر وليونة ومن دون أن نشعر، لنطرح سؤال السارد، في نهاية القراءة، من هو؟ ثم نعود إلى النص من جديد باحثين عن جواب مقنع، ونرى أن السارد يتخفى وراء الشخصية، كما تتخفى الشخصية وراء السارد، في لعبة تبادل الأدوار. هكذا، يذيب حسن إمامي النص السردي في الناص؛ فإذا القارئ ينسى السارد، الذي يستحيل إلى مجرد واحد من الشخصيات التي لا تعرف من تفاصيل السرد المستقبلية وأسرارها إلا بمقدار ما تعرف الشخصيات الأخرى. هذا ما يصطلح عليه بـ”الرؤية المصاحبة” أي أنّ الأنا الساردة تصير شخصية تمتزج والشريط السردي.

    ومن ضمن سراد النص الروائي، نجد عليا و لبنى عبر مذكراتها، من جهة، ومن خلال نقل قصتها لحظة زيارتها للولي الصالح، وسرد تفاصيل أحداثها. وهنا، يتحول السارد إلى مسرود له، لا يعرف مجريات الأحداث، ويتلقاها كما يتلقاها القارئ في الوقت نفسه، بمعنى، أن علمه بها يساوي علم القارئ بها. وحين يقوم بكشف ما تتضمنه مذكرات شخصية ليلى، نجده يتحول من سارد إلى شخصية محورية في قصتها المصوغة بإحكام.

    إن الرواية تنحو باتجاه تحويل الكتابة إلى لعبة جادة حيث مبدأ التحول هو المتحكم فيها، تحول يطال جانب السرد، وطريقة الحكي.

    وعلاقة بالسابق، نلاحظ أن الرواية تستحضر معارف مختلفة من حقول ومجالات متعددة، ثم توظفها لتشكل مجتمعة نصا روائيا مفتوحا تشكله نصوص غائبة لها مرجعياتها الخاصة لكنها تتفاعل داخل العمل الروائي مما يكسب روايتنا ثراء دلاليا وعمقا فكريا. فالرواية تستحضر نصوصا كثيرة تقيم معها حوارا بهدف تخصيبها وإثرائها، حوار نهايته منتجة للمعنى، معمقة للهدف. وهي نصوص ترتبط بمجالات مختلفة، منها السياسي، والتاريخي، والجغرافي، والثقافي، والفكري، والفلسفي، والشعري كما الديني.. فضلا عن اليومي، والمذكرات.*1

    واعتمادا على هذه الخاصية يعمد الراوي إلى تضمين عمله جملة خواطر وانطباعات ويوميات ومشاهدات ومراسلات وخواطر وإرشادات، كما اعتمد تقنية البحث عبر الاستعانة بمعرفة بعض الشخصيات الشفوية، أو اعتماد محرك البحث: غوغل لبلوغ المنشود، تصريحا وتلميحا. كما تنفتح الرواية على أجناس أدبية وفنية كاليوميات، والرواية البوليسية، والرحلة، وغيرها من الفنون التي يحاورها الكاتب ويستحضرها لتكشف عن الذوق الفني والجمالي الذي يطمح إليه السارد ويسعى إلى ملامسته تارة والقبض عليه طورا، مما أكسب النص الروائي ثراء دلاليا.

    ختاما:

    هكذا ينسج حسن إمامي عوالم روايته من الواقع والتخييل وفق مقتضيات الكتابة السردية، مع إدراكه العميق للمسافة الفاصلة بين الإبداع وشروطه الجمالية، وبين الواقع المعيش وأحداثه اليومية، إذ تبدو أغلب الأحداث البانية لمرجعيات الرواية لصيقة بالواقع في كينونته وتجلّيه الخارج نصّي لكنّها مرتبطة بسياقها التاريخي الذي أنتجها.





    *1.استفدنا في هذه النقطة من قراءة أنجزها الناقد مصطفى الشاوي في الرواية الأولى ل(حسن إمامي)، بعنوان: حوارية الرواية، قراءة في "قرية ابن السيد"، والمنشورة في الصفحة 6 بجريدة المنعطف، يومه الخميس 4 فبراير20016، العدد: 5213.
    2_ صرخة المصابيح، حسن إمامي، مطبعة ووراقة بلال، الطبعة الألى، سنة 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى