أحمد رجب شلتوت - حلقات قصصية غرائبية تدين الواقع و تحتفي بالجسد

القاهرة من: أحمد رجب شلتوت

لم يهتم عبدالنبي فرج بتصنيف كتابه "جسد في ظل"، فلم يوضح غلاف الكتاب إن كان محتواه رواية أم مجموعة قصص قصار، ولا أعتقد إن ذلك حدث نتيجة لسهو ولا لحيرة صاحب الكتاب بشأن التباس النوع الأدبي الذي ينتمي له، بل تأسيا بما فعله نجيب محفوظ مع كتابه "حكايات حارتنا" إذ كان واعيا تماما بأن محتوى كتابه ليس رواية، ولا قصصا قصارا، ولم يكن مصطلح الحلقة القصصية أو" المتوالية السردية أو القصصية" شائعا أو معروفا يومها، فلم يثبت للكتاب صفة، وعلى دربه سار عبدالنبي فرج في كتابه "جسد في ظل". والمتوالية أو الحلقة القصصية شكل فني مراوغ يقع في منطقة وسطى بين الرواية والمجموعة القصصية بشكلها المألوف. وهي مجموعة قصص تنتمي كلها إلى عالم سردي واحد، وإن اكتفت كل قصة بنفسها بوصفها تعبير عن تجربة منفردة، وأهم ما تبنى عليه المتواليات القصصية المكان كما في قسمي كتاب " جسد في ظل" الذي احتوى على الأنواع الثلاثة المعروفة للحلقات القصصية، فالقصص الأربعة الأولى تشكل حلقة مؤلفة، وهي نفسها ومعها بقية قصص القسم الأول تشكل حلقة مكملة بينما يشكل القسم الثاني بأكمله حلقة مرتبة.

الحلم والكابوس تدور قصص " عايدة يوسف" الأربع في نفس الفضاء، ويشارك في أحداثها نفس الأشخاص: الراوي وعايدة وخالها، فنجد الراوي يقول عن نفسه "أنا كاتب ولكن المشكلة أنني ليس لي سند من هذه الهواية العجيبة التي جلبت لي الشرور أكثر من أي شيء آخر، وعطلت مهنتي التي أتكسب منها ولذلك كل من فتح دكانا استطاع أن يبني بيتًا ويشترى أراضي زراعية، ويستمتع بما لذ وطاب، وأنا الوحيد الذي أقف محلك سر، بقال بلا إنجازات تذكر". يفترض أن تكون القرية فضاء للنصوص الأربعة لكنها تغيب، لا نرى منها إلا دكان الراوي ويبدو كمركز للقرية يمر به الجميع فيتيح للبقال أن يرى الجميع في غدوهم ورواحهم، فالكاتب يفتتح النص بذكر السرايا "أراها كائنًا خرافيًّا رابضًا في جلالٍ ورهبة.. هي السرايا يحيطها سورعالٍ قديم به فجوات وبوابة حديدية هائلة"، يدير ظهره للقرية ويكتفي بالإشارة إلى ناسها المؤمنين بالخرافات وبأن عايدة تخاوي الجن، عايدة أيضا وخالها نراهما من منظور الراوي المهيمن الذي يحول بينهما وبين القارىء، فلا يصورهما ولكن يحكي عنهما، يقدم عنهما صورا ترتبط بحالته النفسية فتتغير تبعا لها، حتى تبدو عايدة وكأنها "عايدات" تتعدد صورها في كل نص، فهي في بداية النص الأول "البنت الجميلة التي ترتدي خمارًا .. تسير في مهابة وعزة"، لكنه في منتصف النص يتوجس من دعوة خالها له، فيشتمها ويشكك في عذريتها، وفي الختام حينما يدخل السرايا ويراها ترقص وجسدها العاري يكاد يضيئ. عايدة هنا تصبح هي والسرايا بمثابة حلم أسطوري يسلب لب الراوي، فلما يقترب منه يجده كابوسا، كان يحلم بدخول السرايا، فلما دخلها "توقفت وأنا أرى السرايا تتفكك وأنا أهم بدخول الممر الذي يؤدى إلى الباب وخرجت منه جنيات مسحورات"، في النص الثاني تصبح عايدة فخا منصوبا للراوي، يندفع بإرادته نحوه ليكتشف أنها " ليست خيالاً بل لحمًا يغريك بالدوران حوله"، وفي النص الثالث "تبدو عدائية حتى إنني خِفت وهي تنظر إلى في قسوة وبرود‏" ‏، هكذا يصبح الحلم كابوسا، فيسحب الحالم الحياة من الجميع، وينتهي النص الثالث مأساويا "كانت كاميرا سينمائية تدور موجهة أضواءها على جثث نحو الخال‏,‏ الأم‏,‏ عايدة‏. ‏ وقد تعفنت‏,‏ وديدان صغيرة عيونها زجاجية تخرج من الجثث‏,‏ بحزمة ضوء قوية نحوي‏,‏ لتبعدني شيئًا فشيئًا‏". ‏ويستمر الكابوس في النص الرابع، فتصبح السرايا مرتعا، "سرب من النساء المنقبات يمر من أمامى.. أنا الواقف في الدكان أنصت لشوبان متعة أو رغبة فى التمايز, لست متيقنًا من شيء؟" وتجيىء النهاية أيضا كابوسية، فيحضر الموت كما في النص الثالث. هكذا يغزل الكاتب خيوط أسطورته مستفيدا من وقائع حياتية أكثر غرائبية من الأساطير نفسها. وهي الأسطورة نفسها التي يكملها في بقية قصص القسم الأول، ففي زفرة المحب الأخيرة، يبدو الراوي وهو بدون إسم أو صفات جسدية لكن صفاته النفسية التي يشي بها النص هي نفس سمات الراوي في نصوص عايدة يوسف الأربعة، فيبدو النص وكأنه رابط بينها وبين نصي رامة والتنين فتتواصل أجواء الدم والموت، وتعود عايدة في هيئة جسدية ثانية لكن بذات الإسم والصفات النفسية، وتسكن أيضا السرايا، سجنها وحلم الراوي، وتنتهي بتحررها "فتحت غرفتها وحملت الوليد بين ذراعيها وخرجت". فكأن كل الدم المراق كان ثمنا للخلاص من تلك الأجواء المقبضة. هكذا تتكامل نصوص القسم الأول لنجد أنفسنا أمام رواية قصيرة حداثية حيث تتوحد التيمات الفنية بشكل أخر فيها ومن ملامح التوحد عايدة يوسف كشخصية محورية، ونفس الراوي المراقب من الخارج، والملامح الكافكاوية برؤاها العبثية والكابوسية، ثم المبالغة الفانتازية التى وصلت مشارف الأسطورة .

جسد في ظل

الجزء الثاني يضم عشرين نصا قصصيا قصيرا، يشكلون النوع الثالث من الحلقات وهو الحلقة المرتبة وفيها يتم تجميع وإعادة ترتيب القصص بما يشكل نسقا ما واحدا، مركزه النص الأول، فالفتاة التي تتشابه نفسيا مع عايدة يوسف ولا يمنحها النص اسما، تتعرض لمؤامرة حاكها الرجل المعطوب الذي ضربه الجرب، يصرخ "إيه رأيكم ندلق عليها مية نار"، يريد أن يصيب جسدها بالعطب، وأن يشدها إلى منطقته لتصبح ظل امرأة كما هو ظل رجل، لكنه كان قد فقد تأثيره، فلم يأبه أحد بكلامه، بينما هي أزاحت الواقفين وسارت. فقسوة الرجل وحقده قرينة عجزة، تعرض هو لقهر وجودي نتيجة المرض الذي أعطب جسده، فحاول أن يمارس قهرا اجتماعيا ضد الفتاة، ونلاحظ أن تيمة القهر هى التيمة الجامعة بين أغلب هذه الشخصيات سواء كان قهرا اجتماعيا أو وجوديا . كذلك يجثم العنف و الموت والمرض على فضاءات القصص كما في " ورد النيل" و"الموت في يدي". ويتجلى الاهتمام بالجسد في المجموعة التي صورت جسد الرجل معطوبا على العكس من جسد المراة تأكيدا للنزوع الإيروتيكي في النصوص، فقام السارد بذكر فقرات سردية في العديد من النصوص لوصف جسد المرأة خائضا في تفاصيله، كما صور رغبات الكثير من الشخصيات، لكن الرغبات كثيرا ما يتم احباطها، والأجساد تتعرض للعنف وربما القتل، فكأن الجسد يواجه قمعا وتنكيرا وتهميشا كالذي تواجهه ذواتنا في مجتمع ضاغط، فكلما ضاقت مساحات العدل والحرية كلما زاد الاهتمام بالجسد، وكلما زاد انتهاكه.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى