د. مصطفى أحمد علي - النقعــــــــة..

كان ميداناً فسيحاً، وكانوا يسمّونه " النقعة"، قبل أن يبدِّل الظالمون اسمه إلى " الساحة الشعبية"! كانوا صغارا. وكانوا يهبطون إلى " النقعة" صباح مساء، يمتّعون النفس بمشاهدة القوم في طربهم ورقصهم. كان مهرجاناً عفوياً يسمونه"اللعب": يُمَه.. أنا ماشي اللعب.. يُمّه.. أنا كنت في اللعب!... واللعب، قالوا، ما زال يقام في النقعة، على اختلاف أنواعه وأسمائه: " كاتم" و" سنجك" وأصناف أخرى تنسب للقبيلة، لعب هوسا وفور ومساليت وفلاتة .
كان يميل إلى مشاهدة رقص السلامات، حلقتان من رجال ونساء، تتعاوران، يحكمهما إيقاع ملتهبٌ وأصواتٌ هادرةٌ عذبةٌ. كان يأنس لفصاحة السلامات ويهوى رقص التعايشة، طبل ضخم، نقّارة تستمدّ إيقاعها من جوف الأرض، ورجلٌ قويٌّ عريض المنكبين يهوي عليها.. أكمام جبته عريضة في عرض الجبة نفسها. عرقه يسيل، والتعيشيات يرقصن ويتمايلن يميناً ويساراً في عنفوانٍ وصرامة. كان المشهد يجمع رائحة الغابة وعبق الظلال، على خلاف ما يبدو له في رقصة الكاتم الهادئة. يتذكّر أن أمّه كانت تسمّي الكاتم " هوهو" بهاء مضمومة مشبعة وممالة إلى الفتح. لم تكن أنغام " هوهو" تنقطع عن المدينة حينما يهبط الليل وتسيل أشعّة القمر على الدروب والشعاب:
اللعيبة..
أم سناً ضريبة..
السِّمعة، جارة الموت قريبة...
ساوقنا يارا
سوق الرمالة
الكي بناره
...فريع المنقة، الضارب نواره.
راءات مفخّمة على خلاف ما ألف من لهجات وادي النيل، وأزيز صدور لا تجسر على مجاراته الأوتار!
لكم استمع إلى " الحكامات"يصفن ويمدحن ويذممن. تكتمل الدائرة ويصطفّ الصبيان والشبّان في كامل زينتهم: جببٌ بيضٌ وعممٌ وعصيٌّ أنيقةٌ ومقابض من ريش النعام. تكتمل الدائرة في عقدة دائرية أصغر حجماً، ولكنها مزدحمة بالحسان، تتوسطهنّ الحكّامة، تلهب القوم وتثير العواطف والأشجان، ينطلق صوتها متوحداً ثم يختلط بأصوات الفتيات دون أن يذوب فيها. تصعد الأصوات المختلطة المتناسقة المختلفة ثم تهبط، وتتبعها الأجسام صعوداً وهبوطاً:
الماك كُلّابي،
والماك مدقابي..
أب دقنا زرقة،
كيف قصيص الدابي..
ثم لا يلبث أن يستجيب للمشهد شابٌّ من أقصى الدائرة الكبرى، ينطلق صوته عذباً مترعاً بالفرح والأشجان، مفعماً بالدعابة والسخرية، تتجاوب معه من سُرّة الحلقة زغاريد وصياح وهرج:
حمرة أم الطيمان ..
بركب فوق بلقوّى...
السمعة جارة الموت يا حوّا...
راءات مفخمة وتاءات لا تكاد تميزها من الطاءات، ثم تخلد سُرّة الحلقة إلى تناسق مفاجئ ويتمخّض جمع النسوة عن فتاتين أو ثلاثٍ، تخرج كلٌّ منهنّ بكامل زينتها، حاسرة الرأس مترعة الضفائر، يقطر الحسن منها، تقبل على الحلقة الكبرى فتستعر فيها النار ويتوتّر القوس وتبلغ المنافسة بين الشبان أوجَها كل يبغي الفوز بالقبول، تخطو الفتاة نحو من يحظى بالقبول فيبرز لها وكأنه قد امتلك ناصية الدنيا.. يتقدم الشابّ وتتقهقر الفتاة حتى يبلغا مجمع الحلقة، ثم تنطلق شحنة جديدة من المشاعر المتأجّجة تستعر في أجساد القوم، ويتبدّل الإيقاع وتصدح أصوات أخرى بأنغام أخرى، ولكنّ صوت الحكامة يظلّ متميّزا عمّا عداه، مختلطاً به، مختلفاً عنه، منسجماً فيه. وتتحرك الأبدان في اتّساق وتصل الحركة إلى الأعناق، تعلو وتهبط، وأزيز في الصدور وغنة في الحناجر وحماسة وحنين.
كان أخوه الأصغر يميل في لغته إلى تفخيم بقّاري. كان أكثر ما يخالط، أولاد عدّ الغنم ورهيدالبردي والضعين وبرام، وكان من أسمائهم السليك والساير والدقيل وعجيل، وكان أخوه يلفظها كما يلفظونها بنطق فخم على خلاف ما ألف هو من لهجة أهله في وادي النيل، ثم أتى الفتى إلى باريس، ذاكرته مختزنة بكلّ هذه الأشياء الصغيرة القديمة، وكان يأنس فيما يأنس إليه، في هذه المدينة الكبيرة، إلى أصوات أبناء المغرب العربي، فيجد فيها شيئاً غير قليل من أنغام " الكاتم" وأهازيج الرزيقات والتعايشة والهبانية وبني هلبة.

مصطفى أحمد علي،
مونت سان سافينو، إيطاليا، ديسمبر 1984

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى