شهادات خاصة شعبان يوسف - محمد عيد إبراهيم.. ( الشاعر المؤتلف والمختلف) شاعرنا غامض لا لأنه يخاصم الواقع، ولكن لأنه على مستوى الحواس كلها

من العبث أن يقرأ الباحث أو المتابع تجربة الشاعر الراحل محمد عيد إبراهيم، دون الإلمام بالظروف والملابسات الثقافية والفكرية والسياسية التى كانت تحيط بالفترة التى بزغ فيها نجمه، ورغم أن محمد عيد كان منضمًا إلى جماعة "أصوات"، في أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي، إلا أنه كان الصوت الأكثر تفردًا أو غموضًا أو غرابة أو اختلافًا، ولم تمنعه حالة الانتماء العضوي إلى "جماعة" ما، من ممارسة تلك الفرادة الفنيّة والفكرية الخاصة به، والتي كان عيد يعمل على تطويرها يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، وتجربة بعد أُخرى، ويفاجئ الزملاء بجديده الدائم.
ففي النصف الثاني من عقد السبعينات، والشعراء الجدد الحداثيون السبعينيون كانوا مشغولين بأُطروحات أدونيس فى كتابه|بيانه : "زمن الشعر"، كان محمد عيد إبراهيم يبحر في أزقة وشوارع ودهاليز أُنسي الحاج، وكان مفتونًا به وبأشعاره، للدرجة التي دفعته لنفي شعراء آخرين بكامل تجاربهم.
دعنا الآن من حالة النفي الدؤوبة التي كانت تنتاب غالبية شعراء السبعينات لمن سبقوهم من الشعراء والأجيال إلاّ قليلاً، إلا أن محمد عيد كان أكثر تطرفًا وجنوحًا إلى حالة النفي هذه، قولاً وممارسة، وأعتقد أنه كان أكثر المعجبين بالشاعر أُنسي الحاج، ويكاد يكون محمد عيد امتدادًا جدليًا له بشكل أو بآخر، وهو أحد أعمدة مدرسة "شعر" اللبنانية، تلك المدرسة التي حرّكت مياه الشعر "الصاخبة" في عقدي الخمسينات والستينات، وتركت أثرًا واسعًا وعميقًا في عقد السبعينات، ولذلك جاءت كتابات محمد عيد، الشعرية الأولى، غرائبية إلى حد بعيد ومثيرة للدهشة، وغامضة، ذلك الغموض الفني الباحث عن جزر أُخرى، جزر تكمن في الدهشة والإبهار، وربما اللغة.

في ذلك الوقت الذي التقيت به في "قصر ثقافة الريحاني"، ثم في منزل الشاعر أحمد طه، لم يكن مألوفًا، كان دائمًا مثيرًا لإشكاليات لغوية في بناء القصيدة، بالدرجة التي تجعله شاعرًا مارقًا، أو متمردًا على الجماعة، رغم أنه ينتمي إليها، وكانت جماعة "إضاءة 77" تتصدر المشهد في ذلك الوقت بقوة، وكان شعراء "إضاءة" غير متصالحين مع اللغة الشعرية الموروثة، ولكن محمد عيد كان أبعد من شعراء "إضاءة" في التمرد، وعندما نشر قصيدته الأولى في العدد الخامس من "إضاءة"، بتاريخ يوليو 1979، وكان عنوانها "أفتح وقتًا من الغربة الآخرة"، وقدمها بجملة من "الشبلي" تقول:
"هو ذا الوقت، ولا تغرنكم الأشباح"، أثارت القصيدة ذلك الجدل الذي تعودنا عليه من قصائد محمد عيد، بداية من العنوان الذي لم يندرج تحت التركيب المألوف للجملة، أي أنه جعل تعبير "الغربة الآخرة"، بديلاً عن "الغربة الأُخرى"، وأتذكر أني ناقشته فى القصيدة -آنذاك- طويلاً، وكان يملك الحجج الكثيرة والأفكار المنطقية، والتي تعطي ملمحًا مختلفًا لكل ما كان يكتبه في ذلك الوقت.
وعندما صدر ديوانه الأول "طيور الوحشة"، في ديسمبر 1980، عن جماعة "أصوات"، كتب الشاعر عبد المنعم رمضان مقدمة نقدية له، وحاول رمضان أن يكتشف بعض أسرار لغة "عيد" الشعرية، ويلقي كثيرًا من الأضواء حول التجربة المختلفة، ومما لا شك فيه أن عبد المنعم رمضان كان ناقدًا ومنظّرًا بدرجة ما لرفاقه الشعراء، ومن ثم كانت كلمته النقدية الأولى في ديوان محمد عيد بمثابة تدشين واكتشاف وبيان واضح لمعالم تجربة شعرية جديدة ومختلفة.
بينما يقدم عيد ديوانه الأول قائلاً:

(إن ماهو بالأمس طبيعي
يأتيه الدور
ونحن أيضًا معه
نتكسر على العالم ندمًا وخلاصًا
يجب أن يبقى
بعض الهواء بشكل مشرق
إنه الخروج...!
صالح، وضروري
إذا : إلى العمل)

ثم يردف "ضد الناموس البشري"
يكتب عبد المنعم: (.. يجب أن نحاول الحياة كلامًا كلامًا، الهاجس الذي نصلّي له، هو هاجس الكشف لا التنسيق، التنسيق الذي ينبني بالتناظر والإيجاز أو ثمة وسائل أُخرى بغية التوصيل، هاجس الإبداع لا التعبير، حيث في التعبير تنتج الفكرة كلامًا يعبر عنها، يصوغها ويقولبها، بمعنى أدق - يترجمها، الفتنة الناشئة هنا فتنة صياغة تؤلف وتؤالف، وظيفة الكلمات محت كثافة الكلمات، الكلمات محض أداة، فتنتها المؤقتة العابرة التي سرعان ما تزول تنبع من العطاء الإجمالي لها..).
ويستطرد رمضان بعد هذا التقديم العام الذي طال قليلاً -كما يليق بتيار جديد يسعى لتأسيس مرتكزاته- قائلاً:
(.. وفي "طور الوحشة" (القصيدة) تتركز الوحشة كفضاء لا نهائي حول رؤوس مدببة تهتدئ لحظة الميلاد وتتكثف عبر افتقاد الطفولة..)
ثم: (.. هل يبحث الشاعر عن السر - الحقيقة ليستند إليه رافضًا التراث بعد أن تعمّد في معمودية الإسراء ضمنه، دليله في الرحلة عبد، مؤكدًا انحيازه حيث يسمي الرحلة هبوطًا..)

هكذا تحدث عبد المنعم رمضان، أحد أعمدة الجماعة الجديدة والطالعة والمنبثقة عن تجارب لغوية وصورية شتى، رغم أن عبد المنعم يعتمد هذا الديوان باعتباره ابن تجربة حياتية، حيث أن تجارب محمد عيد الأكثر قدمًا من الديوان، كانت تجريدية، وحسب عبد المنعم ".. لم يكن التجريد فيه تجريد إيحاء أو رؤيا، ولا كان تجريدًا وصفيًا زخرفيًا متصلاً بالمرئيات، ولكنه كان تجريدًا لفظيًا ينبع من الهوس بالمفردة والانسياق خلفها..)
ورغم كل النظرات النقدية التي قدمها عبد المنعم رمضان في مقدمته كتدشين أولي لشاعر حداثي جديد، إلا أنه يقرّ، في نهاية التقديم، بقوله :
(شاعرنا غامض لا لأنه يخاصم الواقع، ولكن لأنه على مستوى الحواس كلها).
من الطبيعي أن يبحث الشعراء الجدد ومنظروهم المنحازون بالضرورة عن مخارج وقواعد لتدشين تجربة جديدة تبحث عن ملامحها، حيث أن المقالات والدراسات التي كتبت في ذلك الزمان، لم تكن سوى بيانات أُولى لحركة فائرة تنطوي على جموح لغوي وفكري ونقدي، ذلك الجموح الذي شطح فيه الشعراء كثيرًا نحو مناطق بعيدة في التجريب، وربما عادوا فيما بعد ليتأملوا تلك المساحات المغامرة في تريث، والتأمل ليس بمعنى التراجع، ولكن بمعنى الاستفادة من كل تراث التجربة، بعد المعارك التي خيضت، والأفكار التي سالت هنا وهناك، وبات من المعروف أن هناك ثلاثة تيارات شعرية ملأت عقد السبعينات:
•"إضاءة 77" وتضم الشعراء: حلمى سالم، وجمال القصاص، وماجد يوسف، وحسن، وأمجد ريان، وغيرهم.

•"أصوات" وتضم: محمد سليمان، وأحمد طه، وعبد المنعم رمضان، وعبد المقصود عبد الكريم، ومحمد عيد إبراهيم.

وهناك فئة التي لم تجد نفسها هنا أو هناك، وهؤلاء كثر ولهم حضور آخر، ولكن لا تحيطهم رعاية جماعة، ولا تشملهم دراسات نقدية من نقاد كبار مثل إدوار الخراط، وعبد المنعم تليمة، وهما ذراعان استطاعتا أن تمدا يد العون بقوة للتيارين الأولين.
وأصدر الناقد والشاعر والروائي إدوار الخراط كتابًا ضخمًا عن شعراء السبعينات وأسماه "شعراء الحداثة".

محمد عيد إبراهيم، الذي بدأ مختلفًا بتجربته، ومفرداته، وعناوينه رغم ائتلافه أو انتسابه لتيار أو جماعة أو مدرسة "أصوات"، ظل مختلفًا كما هو، حريصًا على إبراز فرادته، بل منغمسًا في تجريبيته حتى النهاية، دون أي تصالح مع الواقع السائد أو -ربما- المفروض لأسباب جماهيرية، فلم نلحظ على دواوينه اللاحقة: "قبر لينقض، و"تراب المحنة" -على سبيل المثال- أنه انزلق لمغازلة الأحداث السياسية، أو ملاعبة الزخم الجماهيري الذي كان يحدث ومازال حتى الآن، في حين أن شعراء آخرين كتبوا منشورات سياسية، وبعضهم تحولوا إلى هتيفة وزجالين.

وربما يكون اتجاه محمد عيد، في مسيرته نحو الترجمة، اتجاهًا للبحث عن أصوات سردية وشعرية ونقدية تشبه صوته، وانحيازه لترجمة الناقد الأمريكي إيهاب حسن، المنظّر الأقصى لما بعد الحداثة، وكذلك ترجمته لبورخيس ومتاهاته، ولا بد للنظر لتلك الترجمات، أو بعضها على الأقل من زاوية انشغال عيد بذاته الفكرية والشعرية، أكثر من انشغاله بآخر غيره.
ربما رحيل محمد عيد، على وجه الخصوص، يفتح نافذة لتأمل كل ماحدث فى العقود الأربعة السالفة.


.................................

• شعبان يوسف - ناقد مصري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى