عبده خال - الرائحـة قادمـة

مشهد لا يمكن أن يعود شخص لسرده.

على ضوء القمر المسترسل بفجاجة، تبزغ قامات من على جدر منخفضة وتهبط كحجارة ثقيلة - داخل السور - وتثب من مكان هبوطها عجلة ربما تنفض أرديتها البيضاء وربما لا تحرص على ذلك، تتشعّب خطواتها في سباق محموم، وتندس هناك بسرعة فائقة وكأنها تلعب لعبة الاختباء، ليعود الصمت فتيا متأهباً لاستقبال قادمين آخرين يعكّرون سكونه بطرق نعالهم ودمدمتهم الموحشة غير متهيّبين من جلال المكان.

..........

- هل جاءت المدينة بأجمعها؟

ربما كان هذا الخاطر محفزاً لي لأن أسابق تلك القامات عجلتها وأحجز مكاناً قبل أن أجد نفسي مقذوفاً في العراء.

- لم أكن متوقعاً أن أجد الجميع هنا.

بعد أن خرجوا من شقتي يرتجفون، تذكرت تصبب العرق من وجهه ويديه المرتعشتين فقفزت من جلستي مرعوباً، الآن فهمت فحوى كلامه وسر ذلك الرداء الأبيض الذي كان يتمنطق به، هببت من جلستي فزعاً حين سقطت فكرة غامضة ضاربة في قاع جمجمتي وعكرت دوائر البال، لدغني هاجس ضياع الفرصة الأخيرة، وقبل أن تنضج الفكرة التي حلت برأسي، كنت قد عبرت منحنيات الحارة كوميض جرح الأفق بلحظته وغاب، غاب مطمئناً لأنه وجد أفقاً يلحده كما يليق ببرق خاطف.

ضجيج وطرق باب لا يمل.

كان الليل مستبشراً ببدره الذي اكتمل وتدلى كقنديل متوهج قلل وطأة العتمة الرابضة بين الأزقة ومحا وحشة المنحنيات الضيقة، كان بالإمكان أن يكون ليلاً مثالياً للسهر والخروج لجذب قوارب الذكريات القديمة أو تبادل همسات عشاق أضناهم البعد، كان بالإمكان أن يكون مثالياً لأي شيء يمارس في حي ضمر ولم يعد مرتوياً بأهازيج السمار والدوران حول نار مستعرة في لعبة المزمار المهيجة للنزال والمقارعة، كان بالإمكان أن يكون ليلاً مثالياً لولا تلك الرائحة النتنة التي علقت في الهواء وتوزعت في كل جنبات الحارة لتدفع بالناس خارج بيوتهم بحثاً عن نسمة هواء يجددون بها حياتهم التي يشعرون أنها تتملص وتغور.

رائحة نتنة... (نتنة ليس وصفاً دقيقاً لتلك الرائحة).

فلم تكن رائحة خمرية لتكدس النفايات أو جريان المياه الآسنة أو سهك العمال المتجمع في ثنايا أبدانهم بعد يوم من عمل مضن وشاق، أو صننة أولئك الذين لا يعرفون نتف شعر الإبط فبقي صننهم يفوح من تحت أرديتهم الثقيلة، ولم تكن رائحة لسمك دهك تحت أشعة شمس حارقة أو شياط قطن احترق أو زناخة الدهون المنسابة على أرضية الحي من صاجات الباعة، ولم تكن رائحة مروحة للحم فاسد أو مذر بيض فقص قبل الأوان أو حامضة كخبز تخمر فأعطى رائحة جمعت كل تلك الروائح وساحت في الأمكنة ولم تمكن أحداً من استنشاق الهواء بيسر، فغدت هاجساً يحرّك كل الألسن بسؤال يرف كجناح عصفور:

- من أين تأتي هذه الرائحة؟

لم يعد أحد قادراً على التنفس.

خرجت الحارة عن بكرة أبيها للبحث عن مصدر تلك الرائحة التي أحالت حيهم إلى فضاء خانق ولم يخرجوا إلا بعد يأس قانط من أن يجدوا حلاً لدى الجهات الحكومية التي انقلبت على أعقابها بعد محاولات بائسة لاكتشاف مصدر تلك الرائحة.

ففي البدء، اتهمت البلدية لسوء خدماتها وتقاعس عمالها عن حمل حاويات النفايات وقذف محتوياتها بعيداً عن الأحياء المزدحمة بالناس، وقد تعددت الشكوى وتبرع أحد رجالات الحارة المرموقين بإيصال شكوى تلك الرائحة إلى مدير فرع البلدية المسئول عن هذا الحي ولم يبادر للاستجابة إلا حينما نشر خبر صغير في جريدة الحوار المرموقة تحت عنوان (رائحة غريبة تسرق الهواء).

في اليوم التالي، ربضت عشرون عربة من عربات البلدية وحملت جميع القمامات ونثرتها على أطراف المدينة إلا أن الرائحة ظلت رابضة في مكانها فاستبدلت البلدية بالحاويات القديمة حاويات جديدة، وعندما تفاقم الأمر ووصلت الشكوى لجهات متعددة، تحركت الصحف لمتابعة تلك الرائحة فنشرت جريدة الشراع استطلاعاً مطوّلاً، وقد ظهر أهل الحي مكممي الأفواه وهم ملقون على جوانب الطرقات كمن أصيب بوباء فتاك، ورافق إحدى الصور هذا التعليق (أحد مواطني الحي وهو يستجدي الهواء)، واستضافت الصحيفة في ذلك الاستطلاع مسئول البلدية الذي نفى أن يكون هناك تقصير من قبل جهته، وحاول أن يزحزح التهم في اتجاهات أخرى، فتوجهت إشارة الاتهام لمصلحة الصرف الصحي، إلا أن هذا المرفق تنصّل من التهمة بوجود مصاريف يستحيل معها بقاء أي سوائل، وليؤكد نزاهة مرفقه أنزل عشرات من عمال الصرف الصحي ليصرفوا المياه الراكدة، ولكي تنتقل إشارة الاتهام إلى جهة أخرى بعيدة عن مرفقه تعلل بغياب مركز صحي بالحي مما نتج عنه تفشي هذه الرائحة ، مؤكداً براءة مرفقه من إحداثها، فتحرّكت وزارة الصحة وأرسلت أطباءها، وضخت الأكسجين مجاناً ليومين متتاليين، وعندما لم تفلح في إحداث تغير، انقلب أطباؤها وعادوا من حيث أتوا، وصرّحت مصلحة الأرصاد وحماية البيئة بأن هناك أثراً للرائحة لا يعرف مصدرها بالتحديد نافية وجود تلوّث من أي نوع تسبب في إحداث تلك الرائحة. وإزاء هذه المشكلة التي تنصل منها الجميع، شكلت المحافظة لجنة لاستقصاء أسباب انبعاث تلك الرائحة الغريبة، وجاء في تقرير اللجنة ما يلي:

أدى تجاور البيوت وعدم نظافة أهلها وانسياب كثير من السوائل مجتمعة، لظهور هذه الرائحة. والاقتراح بث الوعي وإلزام الحي باتباع النظافة في كل معاشاتهم والإيصاء بإلصاق لوحات إرشادية لإزالة مثل هذه الروائح مستقبلاً ...

وبهذا التقرير، نسيت الجهات المسئولة ذلك الحي ورائحته، وبقى الناس يقرؤون اللوحات الإرشادية التي ألصقت في جميع منحنيات الحارة ويجاهدون لاستنشاق الهواء.

وعندما تركت الحارة لتتدبّر حل مشكلتها، ظلوا لأيام يتبادلون الرأي وصدق معظمهم على مقولة أحد رجالات الحارة:

- هذه الرائحة رائحة شخص مات.

هذه المقولة تناقلتها الأعين، مما جعل سيارات الشرطة تعشش في أوصال الحي كطيور عادت لأوكارها فجأة، وبعد تفتيش دقيق كذبوا تلك المقولة وتركوا أمراً صريحاً معلقاً على أذان أهل الحي:

- ما تقومون به يدخل ضمن إزعاج السلطات ومَن يكرر الفعلة فسيجد عقاباً صارماً.

لم يكترثوا كثيراً لهذا التحذير، وجلس الكبار منهم لإحصاء المتغيبين عن الحارة، وعندما لم يجدوا شخصاً غائباً قال قائل منهم:

- ربما يكون الميت غريباً أو حيواناً انحشر في مكان لا نعلمه، وتواصوا بالخروج للبحث عن مصدر تلك الرائحة.

الليلة خرجوا جميعا للبحث.

أعيش في هذا الحي منذ زمن طويل.

حي ينعم بكل شيء إلا الفرحة، لم أر أحداً يبتسم أو يتبادل التحية، الكل يدس عينيه في الأرض ولا يرفعهما إلا لمما، ترتفع الأيدي في تلويحة مبتورة وتعود إلى مكانها بسرعة متناهية، ارتفاعها يشي بأنها تحية، وفي حقيقة الأمر هي ساتر لحجب العين من الابتعاد عن الطريق المرسوم لها، أقطن هذا البيت منذ عشرين عاماً تزيد قليلاً، لم يبادلني أحد الزيارة ولم أجالس أحداً لمعرفة أخباره، وخلال هذه السنوات، نبتت في داخلي العزلة، ولم أعد حريصاً على معرفة ما يدور في الجوار، وأيقنت أننا نعيش كالخلية الواحدة غير قابلة للانقسام، أو كقبور متجاورة كل شخص في قبره.

حياة مملة وباردة، يمضي يومك وأنت منشغل بلوازم حياتية جامدة، وإذا أزهر أمل طارئ في حياتك، فهو فرحة بأن يتحقق في الأيام القادمة، وبهذا تم ترحيل كل الأفراح للأيام القادمة التي لا تأتي، أخرج يومياً من الصباح الباكر للعمل وأعود مع المساء كشمس مرهقة عليها أن تنجز دورتها اليومية مهما حدث، وتئوب مع المساء لتختبئ خلف الليل في إغفاءة قصيرة وتعاود حركتها في صيرورة لا تنتهي. مضى شهر كامل، ولم أوف بالوعد الذي قطعته على نفسي، فحين كانت تتحشرج بآخر أنفاسها، أصابني الهلع ليس لموتها، ولكن لشعور مباغت بأنني سأبقى في هذه الحياة وحيداً كآنية أفرغ ماءها وبقيت هكذا تستقبل الغبار والهواء العابر.

غدت من عاداتي أن أقف على قبرها بعد صلاة الجمعة، ففي ذلك اليوم الوحيد الذي أجد نفسي متحللاً من أعباء العمل أنهض مع الساعة الثامنة والنصف وأظل منشغلاً بتنظيف البيت وإزالة الأقذار المترامية هنا وهناك، بعدها أدخل الحمام وأريق الماء على جسدي لساعة أو ساعتين دون أن أعمل شيئاً سوى استقبال تلك المياه والعبث بمحتويات الحمام أو برغوة الصابون التي تتكوّم على فوهة مخرج البانيو، وقبل أن يؤذن المؤذن أكون جالساً في مقدمة الصفوف، قارئاً للقرآن، وبين الحين والآخر، أترك عينيّ تتربصان بجموع المصلين في ركوعهم وسجودهم أو متابعة تعبيرات ملامحهم المتجهمة، وأكون من أوائل الذين يخرجون حيث أسير مباشرة إلى مطعم (صباح الخير) وأتناول وجبة الغداء بنهم مبالغ فيه، ولمواظبتي على الغداء هنا نشأت علاقة ألفة مع صاحب المطعم الذي كان يجذب كرسيّاً إلى جواره ويدعوني لمشاركته كأس شاي أظل أرشفه بينما ينشغل هو بمحاسبة الزبائن. كان جلوساً غبياً أمارسه كل جمعة، لا حديث يكتمل بيننا، فمع أول موضوع يكون أحد الزبائن مستعداً للمحاسبة، ويذهب حديثنا مفككاً سمجاً، لكننا ألفناه. أودعه قبل أذان العصر بقليل وأتحرك صوب المقبرة مؤديا الصلاة هناك، وبعدها أقف أمام قبرها أتلو بعض السور القصار وأسرد على مسامعها همساً كل ما حدث خلال الأسبوع المنصرم، أخبرها بكل التفاصيل وأمضي، وقد تحللت من الكلمات التي تحجّرت في فمي خلال بقائي وحيداً.

وقفت مذهولاً أمام قبرها، كان قبراً فارغاً، وقد كشف غطاؤه، بعد تراجع متكرر تطلعت لداخل القبر وهالني منظر ذلك النمل المحمر والذي يتحرّك بسرعة ويتريث قليلاً يقضم شيئاً ما ويعود لحركته النشطة، كان القبار يقف بعيداً عني، تحركت صوبه صائحاً:

- أين صاحبة القبر؟

- لقد جمعت عظامها وستدفن في مكان آخر.

- كيف هذا؟

- هذا ما يحدث ففي...

وبالتفاتة مدققة، رأيت كل القبور مكشوفة ومهيأة لاستقبال نزلاء جدد، وقد اختفت تلك الحشائش الخضراء المرفرفة على بعض القبور، كانت آثار نتف عشوائي لتلك الحشائش بادية حيث بقي بعضها متمسّكاً بجذوره ومبدياً مقاومة لليباس الزاحف لقرض اخضرار اصفر بالأطراف وعلى امتداد البصر وفي خطوط متوازية فتحت فجوات غائرة في الأرض، شعرت برعشة تعتري جسدي:

- هل فتحتم كل القبور؟

العرق المتصبب من جبهته والرداء الأبيض المتشح به يشيان بانشغاله، أكان لابد أن أتبعه لأعرف السبب؟ كنت أسير خلف ممشاه العجل وأذرف الأسئلة المتلاحقة، فلا يلتفت أو يجيب، أيقنت الآن أن الأمر لم يعد مجدياً، فقد توجه صوب أحد القبور مستعجلاً، وسقط داخله، كنت ألمح يديه ترتفعان وتقتربان من ضلفتي القبر بتعرّش. لم أفهم جملته المواربة:

- أيام قلائل وستجد قبر زوجتك مغلقاً... لا.. لا، بل كل القبور ستغلق، لن تجد قبراً مفتوحاً.

هزأت به في داخلي، وعدت لقبر زوجتي، مددت رأسي، فلمحت النمل قد صعد جنبات القبر بمثابرة عنيدة، نمل لا حصر له، أحسست به يقترب من قدمي اللتين تجاوران فتحة القبر، وينهش إصبعي التي بانت من مقدمة الحذاء، فزعت وخرجت على عجل بينما كانت يدا القبار لاتزالان تتعرشان بضلفتي القبر في محاولة مستميتة لإغلاقه!!

بعدها لم يعد لي مكان أذهب إليه، ففي يوم الإجازة أظل أحوم داخل الحارة، وفي أحيان أجلس في النافذة أتطلع لشارع مقفر من المارة سوى سيارات عابرة أو شجرات عاقر ترف ورقاتها بتقاعس في استجابة لتدفق هواء رطب وتبدو في تمايلها كعجوز خريفية، جلست تفاخر بفتنة قديمة عبرت محياها، وقد أقلعت عن الوقوف في النافذة حينما لامني الجيران:

- أنت تقف لتكشف عورة البيوت المجاورة.

- أنا لا أرى أحداً.

- لكنهم يرونك وأنت تقف لكشف عوراتهم.

- والله لا أرى أحداً منهم.

- المهم.. عليك ألا تقف هنا.

أقلعت عن فتح النوافذ ولكي لا توسوس لي نفسي بإلقاء نظرة عابرة من إحداها، قمت بإحضار عامل تلحيم ليصب لحاماً ثقيلاً على ردفات النوافذ ويستر الزجاج بألواح حديدية، وعندما انتهى، وجدت أن البيت غدا معتماً وأكثر أماناً، وأصبحت من عاداتي مجالسة التلفاز لوقت طويل، وفي أحيان أستيقظ وأغلقه أو أتركه حتى أعود.

منذ أيام لم أعد أطيق المكوث داخل البيت، فقد انبعثت رائحة وخيمة ظلت تحوس في مكانها دون أن أتمكن من معرفة مصدرها، وظننت في البدء أن إغلاق منافذ البيت أدى لوجود مثل هذه الرائحة، ولولا خشية مَن تقول الجيران أنني أصر على هتك عوراتهم لعدت بالعامل لفتح كل النوافذ، إزاء هذه الخشية، أقلعت عمّا نويت وأخذت أتشمم مصدر تلك الرائحة فلم أستطع تحديده بدقة، وعندما فتحت الباب انبعثت تلك الرائحة فوّارة كدت أطرق الباب على جاري متوسّلا إليه أن يرحمني بتنظيف داره حتى وإن لزم الأمر إحضار أحد العمال للقيام بهذه المهمة على حسابي الخاص فلم أعد أشك بتاتاً أن الرائحة الكريهة تنبعث من شقته.

ماذا لو طرقت عليه الباب الآن? ماذا ستكون ردّة فعله لو اتهمته بمثل هذا الاتهام? وماذا يحدث لو لم يكن داخل البيت! أوه ستغدو كارثة لو لم يكن بالداخل، فلربما اتهمني بالتربص بأهل بيته، ساعتها لن تجدي شكواي من هذه الرائـحة. الحل الأمثل أن أتدبر أمري.

قمت برش منظفات ذات روائح زكية على مدخل البيت، وتجرأت ورششت بعضها على باب جاري على أمل أن تتغلب العملة الجيدة على العملة الرديئة، وانتظرت ذهاب تلك الرائحة لثلاثة أيام، وعندما بقيت في مكانها، توجهت إلى الصيدلية وأحضرت كمامة ووضعتها على أنفي، ومع ذلك ظلت تلك الرائحة تجوب البيت بهمّة.

هذا الحي قذر للغاية، فمع مظاهر الرفاهية التي تبدو للعين، إلا أن ثمة قذارة تنبعث من مكان خفي، ثمة شيء يفسد ويتحلل مطلقاً رائحة تذكّرني برائحة القبور المبثوثة.

كنت أظن أنني الوحيد مَن يضع الكمامة على أنفه، لكن هذا الظن خاب، ففي صلاة الجمعة، رأيت المصلين يدخلون للمسجد مكممي أفواههم، وبعضهم حمل زجاجات العطر وصبّها في زوايا المسجد - ربما كنت أول مَن وضع كمامة على فمي واقتدوا بي من حيث لا أعلم -.

حياة رتيبة ومملة، لاشيء يحدث، أيام ساكنة مستنسخة ننزع أوراق التقويم علّنا نجد خلف أوراقه شيئاً مزهراً، كل ورقة تنزع تنبهنا بالخسران...

آه لا شيء يحدث!!

جلست لانتظار الغد، فمازالت عقارب الساعة تقترب من التاسعة مساء، كان الوقت يسير بطيئاً متهالكاً، بينما التلفاز يشعرك برداءة الوقت.

ضجيج وطرق عنيف يتواصل على بوابة المنزل.

- من ذا الذي خرج من قبره في هذا الوقت ليأتي لزيارتي؟

قمت متباطئا وأدرت (عكرة) الباب فاندفع لداخل البيت مجموعات غفيرة من الناس واضعين كماماتهم على أنوفهم وبقيت عيونهم تجول في المكان:

- هيه، ماذا حدث...ماذا بكم؟

- ألا تشم هذا النتن المنبعث من شقتك؟

- شقتي!!

- نعم رائحة أشبه برائحة كلب ميت.

- ومن أين يأتي كلب لداخل الشقة؟

- دعنا نر.

انطلق الجميع لتفتيش الشقة وفي لمحة بصر قلبت رأسا على عقب، كان رئيسهم يسير متشمما أركان البيت ووقف أمامي مستغرباً وصاح:

- هذه الرائحة منبثقة من جسدك...

فغرس جميعهم أنوفهم في جسدي ككلاب تتأكد من حاسّة سيدهم وتصايحوا:

- هو مصدر هذه الرائحة.

صاح الرئيس:

- أنت رجل ميت بلا شك!!

كنت على وشك قذف ما في جوفي حينما ألصقوا أنوفهم بجسدي فارت الرائحة نفسها من أجسادهم، ولكي أتأكد تحاملت على نفسي وغرست أنفي في صدر كبيرهم وصحت به متقززاً:

- وأنت أيضاً رجل ميت، فالرائحة نفسها تنبعث منك.

تشمم ساعده وأجفل... تشمم أنامله فجحظت عيناه.

وأشعلت رعب البقية.

- وأنتم أيضاً..

وكالضباء انشغل كل منهم بشم جزء من جسده وتفرّقوا صامتين.

كان الليل مستبشراً باكتمال بدره، يسرف في صرف ضوئه فتبدو الأشياء واضحة ظاهرة.

جلس واجماً وأنفاسه تكاد تنقطع، فيبعد يديه عن أنفه، يبعد نفسه عن نفسه وتقف في مخيلته صورة القبار، والعرق يتصبب من جبينه متلفعاً برداء أبيض ويداه تتعرّشان بضلفتي القبر وصوته الواثق:

- أيام قلائل وستجد قبر زوجتك مغلقاً، لا.. لا.. بل كل القبور ستغلق، لن تجدوا قبراً مفتوحاً.

فرّ من جلسته كالملدوغ، ونبش خزانة ملابسه ووجد رداء أبيض ناصعاً تلفع به على عجل، وشق منحنيات الحارة بخطوات ثابتة مستقيمة، وضوء القمر يعكس ظله على الجدران، فيلمح أخيلة لا حصر لها تتشجر على ظله، لم يعد السير مجدياً، هرول وكلما لسعته سياط الخوف زادت سرعته.

كان سور المقبرة منخفضاً قفزه على عجل، وأهاله انعكاس ضوء البدر على أشباح كثيرة تتلفع بأرديتها البيضاء، تنبت للحظات على جدار المقبرة وتقفز للداخل، وتسير حثيثة الخطى لتدس أجساده في تلك القبور المفتوحة، وتتعرش لبعض الوقت قبل أن تجذب ضلفتي القبر فينطبق بضوضاء يجفل لها سكون المقبرة، بصعوبة وصل إلى قبر زوجته فوجده مغلقاً، بينما كان القبر الذي يجاورها لايزال شاغراً، تلفت حوله وأرعبه عجلة أشباح تسابقه لملئه، وبسرعة خاطفة جذب كرسياً منزوياً - كان ملقى هناك - وقذف به لداخل القبر ورمى بنفسه، وبحركات متشنجة صعد على الكرسي ومد يديه وأطبق ضلفتي القبر، فهبطت ظلمة فاقعة، نحى الكرسي جانباً والتحف بردائه الأبيض، وفرد قامته وتمدد في رقدته باستسلام.


عبده خال
يناير 2001






عبده خال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى