أمل الكردفاني - مطر في الليل... وهانز برانر يغيبه الغمر..

✍ *_ ليست سيئة دائما اضطرابات النوم.. فهي تدفع لملء كآبة الصمت الليلي بالقراءة أو الاستماع إلى الآداب التي غمرها الزمن ، وغمرها الإعلام الدعائي المزيف... في عصر هاري بوتر لابد أن تضيع الأعمال الخالدة ، وتختفي الأسماء.. بل لا غرو أن تبحث عن هانز برانر حتى في الويكيبيديا بالانجليزية فلا تجد عنه شيئاً يذكر.. الشاعر والمسرحي الدنماركي الذي ولد في بداية القرن العشرين وتوفي في ثلثه الثاني عن عمر لم يتجاوز فقط السبعين عاماً. وأمثال برانر لا يحصلون على نوبل بل يحصل عليها رمرمة يرضاها الفم الأمريكي.. هذا الفم الذي لا يبتلع إلا ما يغني معدته بالباكتيريا ثم يلفظها للبشرية التي تزداد سطحية يوماً بعد يوم نتاج ثقافة الاستهلاك والدعايات الموجهة لخدمة تغييب العقل وتحريك الغرائز... ما أن يحصل كاتب على نوبل فقل له: (يبدو أنك استسلمت).
وأياً ما كان البؤس الذي يحف بعصرنا فلا بد لنا إلا أن ندفع بمجاديفنا عكس تيار ما أسماه البعض بالعصرنة..العصرنة القِشرية حيث يحيط الإنسان نفسه ببهرج الحداثة وهو خاوي المعنى.. وهذا هو المطلوب منه لكي يأكل الخبز.
في عمل من روائع الأدب الدنماركي قدم هانز كريستيان برانر خالدته (مطر في الليل) ، والتي استمعت إليها في إذاعة البرنامج الثقافي ، ثم بحثت بحثا دؤوبا عن الصانع والمصنوع في الانترنت باللغة الانجليزية فلم أجد شيئا ولولا خدمة الترجمة من الدنماركية إلى العربية لما حصلت من بحثي على ما يشبع شغف المعرفة.
مطر في الليل عمل يتحدث عن مراحل الإنسان الكئيبة منذ الميلاد وحتى الموت من خلال استقطاع فترة الزواج.. الذي يبدأ بالحب المبثوث في خفايا الرغبة الحالمة ثم يمر بفترات التوتر في شبابه ثم المودة والرحمة والسعاة الحقة في أواخره..حيث يكون عمر ما بعد الخمسين فترة المودة التي لا تغلغلها ولا تقلقها توترات الغريزة.
لم يكن لبطليْ العمل أسماء ولكنهما مرا بكل تلك الرحلة المؤلمة في مركبة الزواج منذ البداية الفانتازية التي لم تتحقق أحلامها بعد ذلك في عنفوان الشباب بل تهددت هذا الأخير أعاصير الخيانة وروح التمرد... ولكنه في شيخوخة هذه المسيرة ينقلب الأمر فتتحقق الفانتازيا لا ببلوغ النجوم ولا القبض على الشمس وإنما بالتمسك الصادق بالحياة ومن ثم النزوع إلى التمتع بكل لحظة من لحظات الوجود..
يذوي الشباب الجسدي ولكن يقوى الشباب الروحي..تتراجع الغريزة ويضحى الإنسان أكثر شفافية مع الوجود.. فيلتصق به من خلال شريك حياته حيث لا أحد مثله توحد معه توحداً روحياُ تاريخياً أكثر من التوحد الجسدي هذا التوحد الجسدي الذي يفقد قيمته... والعجوزان يبحثان عن الفانتزايا قبل ثلاثين عاماً ولكن بعد ثلاثين عاما أو أكثر..ويجوبان العالم لتحقيقها... يستمعان للموسيقى ويرقصان ويفتحان النوافذ منذ انفجار الصباح بشمس بهية الطلعة... ويلعبان لعب الأطفال كتوأمين... حيث لا يملك أحدهما سوى الآخر...
وهكذا فهانز برانر لا يعطنا شعوراً بالسعادة..لأنه هنا يكشف عن حقيقة الحياة... ومراحلها الكئيبة ، التي تبدأ بالشغف والعنفوان ثم تميل إحداثياتها إلى الموت ثم لتستيقظ فجأة حينما تكتشف أن الوداع الأخير أضحى أكثر اقتراباً.... فلا ندري بعد ذلك أيدعونا هانز إلى العزلة أم إلى عدم تضييع مزيد من الإلتقاء بالحياة بل نقنع بالفنتازيا كوعد ذهني نمنحه قداسة زائفة لنودع الماضي بروح راضية...
إن هذا العمل ناضج نضوجاً لم أجده حتى في أكثر الأدباء جدية وصرامة..لأنه لم يكن جاداً ولا صارماً ، بل كان حقيقياً ، وهذا ما كفاه عما يبحث عنه الأدباء الآخرون...
وها هي الساعة الثالثة صباحاً.. صمت الشتاء مطبق على السماوات والأرض... وبعد عقود إن لم يكن أقل من ذلك... سيكون الصمت الشتوي مطبقاً.. سواءٌ كنا هنا أم لم نكن... لكن الأعمال الأدبية الخالدة ستظل مرفوعة الذكر تخلد من حاول الزمان لفَّهم داخل طي النسيان...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى