أحمد الحقيل - البحث عن فرانسوا هاردي

لقد حلم بهذا منذ زمن طويل ، ولكنه كان خائفا من ركوب الطائرة ، خائفا من كل شيء .
تشبث بالكرسي بكلتا يديه ، ارتعاشة طفيفة تسري في جسده ، نظرته البلهاء البريئة تبدلت بأخرى يملؤها القلق .
فجأة تذكر والديه ، الشامة السوداء في صدغ والده والخصلة الشقراء في شعر والدته ، تذكر بيته الكبير الذي ورثه منهما في المجمعة ، الحارة التي كان يلعب فيها في صغره ، رائحة المسجد المدخن في تراويح رمضان ، تذكر أشياء ما لبثت أن تلاشت سريعا .
لم يسافر بعيدا إلا مع والده في طفولته ، حينما كان يأخذه إلى سفريات تجارته الكثيرة ، قبل أن يبتني محلات المقاولات والعقارات المتفرقة في المجمعة والزلفي والقصيم . يجلس بجانبه على امتداد الطريق ، يستمعان للموسيقى ، ينصت لقصص والده عن فرنسا أيام دراسته هناك ، يردد وراءه عباراتها اللتغاء ، فيحفظ بعضها ويضيع البعض الآخر .
لم يكن له أصحاب أو حكايات يملأ بها طفولته ، يشفق عليه الكبار ويسخر منه الأطفال . كانت والدته تشك بأن هنالك خللا في عقله ، ذهبا به إلى مختلف الأطباء فأثبتوا أن معدل ذكائه متدنٍّ جدا ، ولكنه لا يدعو إلى القلق .. فأسلما الرأي بأن هنالك لوثة في عقله ، وأخذا يفكران بشيء من المواساة : وحتى لو كان مجنونا بالكامل ؟! العالم بأكمله مجنون يكتظ بالمجانين ، سيعيش دوره كغيره ..
المشكلة أنه لم يكن يعيش في عالمهم ليتأقلم مع هذا الدور المزعوم ، ينزوي في بعد ثالث لا يراه أحد سواه .. كان يسير بنظرة بلهاء ، يتشبث بماله كالطفل حينما يريد شراء شيء من المحلات ، لم يقد سيارة في حياته ولا يعرف من العالم مكانا سوى المجمعة ، يقضي يومه في تأملات لا نهاية لها ولا نتاج فيها ، يستلقي على كنبة الصالة ويتطلع في السقف الرمادي لـ3 ساعات دون حركة !
أحس بقطرات العرق تسيل على جبينه ، وبحلقه جافا كأنه يُمزَّق بالسكاكين .. شعر أنه يطير لوحده في الهواء ، يطفو بقوة ريح تكاد تنتزع صدره انتزاعا ، فيزداد تشبثا بكرسيه .
أخذ يتأمل حوله ، كل شيء يبدو غريبا عليه ، الأوجه والملابس والإجراءات وتفاصيل المكان . لم يرى في يوم ما شيئا يختلف عما يراه هناك في المجمعة ، وإذا به الآن يقف أمام كل شيء مختلف عن كل ما رآه .. إنه شيء مربك .
بعد تخرجه من الثانوية ؛ رفض والداه أن يذهب للدراسة الجامعية في الرياض : كيف سيعيش هناك ، إنه لم يخلق لقسوة الحياة ، ولا يستطيع احتمال اختياراتها البسيطة .. كان يقضي جل وقته متنقلا بين غرفته والصالة التحتية ، يجلس مستغرقا في طقوس تأمله الصوفي منزويا في بعده الخفي ، ينام باسترخاء ، ينصت لفرانسوا هاردي ..
فرانسوا هاردي ؟!
أجمل ذكرياته هي قصص والده عنها ، لقد رآها بجانب كافيه على شارع الشانزلزيه ، كانت تحيط بها مجموعة من الشباب والفتيات ، بدت له من بينهم آلهة تضرب شغاف القلوب ، شيء غامض فيها يفيض بالنور .. اتجه نحوها وأخذ توقيعها ، لم يكن سمعها من قبل فأدمن سماعها ، بل وعلَّق في غرفته صورة لها ، وحينما تزوج من والدته نقلها نحو غرفته بإصرار من الفتى الصغير .. كان يعود من قصص والده ليشاهد صورتها ، مستلقية على جداره تنظر إليه ، يأخذ من والده أشرطتها التي اشتراها من هناك ، من قلب باريس ، معطرة برائحة الشجر الخريفي الأحمر وبعبق فرانسوا هاردي ، ينصت لها ويراها ويعيش معها وهو يزداد ارتباطا بها ، يشعر بأنها شيء ملكوتي لا ينتمي إلى العالم من حوله وإنما إلى عالمه ، إلى ذلك البعد الثالث الذي ينزوي فيه .. إنها الشيء الأكثر عظمة في مخيلته ، يستطيع - رغم لوثة عقله - أن يفهم "الجنة" و "الله" من خلال النظر إليها !
لم يسأل والده ذات يوم لم عاد إلى هذه البقعة الحقيرة ؟! لم ترك باريس بكل ما فيها ؟! ، لم يحتر ولم يسأل ولم يستغرب ، إذ لم يكن يفكر كثيرا بالأسباب والمسببات ، عالمه يضج بعفوية تقترب من جنون الفوضى ، ولذا اكتفى بسحر بالذكرى ولم يعكرها بأسباب الظروف والمنغصات .
هدأت أعصابه حينما استقرت الطائرة في الهواء ؛ فأخذ يفكر : كيف سأصل إليها ؟! لقد علم من والده أنها تعيش في باريس ، ولكن أين في باريس ؟! .. لم يفكر في هذا قبل الرحلة ، وحتى الآن هو ليس يفكر فيه كما توحي كلمة "يفكر" ، إنما هو مجرد هاجس "شاذ" سيزول سريعا كالعادة ..
إنه ليس من هواة التفكير ، ومن الممكن أنه لم يفكر يوما في حياته بهوية أفعاله ، لقد خرج ذات مرة وهو في الـ14 على قدميه متجها نحو شجرة على طريق الكويت ، جلس تحتها مع والديه ذات مرة ( لا نحتاج هنا إلى تكرار أن الأسباب ليست مهمة في هذه القصة ) مضى يقطع الأزقة والحواري تحت أشعة الشمس الحارقة ، لم يفكر أين يقع الشارع أو كم يبعد بالضبط ، كان كالممسوس بشيء من جنون لا يمكن لأكبر عباقرة الفن أن يفهمه .. وجده والده وأعاده إلى البيت ، منهيا بذلك أي فكرة راودتهما عن احتمالية استقلاله ذات يوم .
وصل إلى مطار شارل ديجور في باريس ، نزل من الطائرة وهو يتشبث بأوراقه وإثباتاته بيديه ، يقبض عليهما بقوة كالطفل ، يمدهما لكل موظف ، يسير كالتائه في كل الاتجاهات .. وعندما خرج من الباب الزجاجي الضخم لفحته كتلة برد ثلجية ، فاستنشقها وهو ينظر بشرود ، يقلب بصره بذهول أخرق .. إنه مشوار طويل من المجمعة إلى باريس !
لم يرتبط في حياته بشيء معين ، عالمه الخاص والعالم الذي يميد من حوله يتقاطعان في نقطتين اثنتين : والداه من جهة ، وفرانسوا هاردي وفرنسا من جهة أخرى .
ولذا وفاة والديه صدمة مقلقة ، لم يكن يعلم ما الذي يجدر به فعله ، يعاني من الحيرة في استقصاء مشاعره ، الحزن والبكاء والألم الذي يرتج في الصدر ويعيث في الأحشاء يمثل هجوما مجهولا لا هوية له ، شعر كمسموم يتقلب في سكرته وهو لا يدرك ما الذي أصابه ..
لم يكن يملك إلا قريبا واحدا ، خال يسكن في ينبع ، يسافر كثيرا ، رآه مرة واحدة فقط في طفولته .
بيت كبير ، غرف كثيرة ، أموال طائلة ، محلات تعبث بها الأيدي السوداء ..
ظلام ينتشر من حوله ، أدق الأصوات تتسرب إليه ، ما الذي يفعله في هذا البيت اللعين ؟! ، بقيت الغرف مقفلة تعبث بها الأغبرة ، وظل على حالته يراوح بين غرفته والصالة ، يأكل من المطعم الملاصق له حتى أصبح يزوده بأكلاته في موعدها .. لم يبقى بينه وبين العالم إلا شيء واحد فقط : باريس وفرانسوا هاردي .. يستلقي في ظلام غرفته ، يمسك مصباحا كهربائيا في يده ، يشعله على صورتها ، ثم يطفئه ليغرق في الظلام من جديد .
وقف في الشارع خارج مطار ديجور ، سيارات التاكسي تتكدس على الأرصفة .. اقترب منه أحدها فركب معه ، أخبره أنه يريد الذهاب إلى فرانسوا هاردي إن كان يعرف بيتها ، التفت عليه السائق ، كان يبدو كمن يعملون في المناجم بأوجه رصاصية متحجرة ، أخذ يتطلع فيه باستغراب متذمر ، سأله متثبتا : "هل قلت فرانسوا هاردي ؟!" ، لم يكن يمزح ، نظرته البلهاء توحي بأن هنالك لوثة في عقله .. حرك السيارة ومضى بين الشوارع ، ثم توقف أمام قصر الإليزيه المخصص لرئيس الحكومة ، والتفت عليه قائلا بنصف ابتسامة : "هنا تسكن فرانسوا هاردي ، هل تريد أن أقرع الجرس ؟!" .. نزل وهو يتطلع بذهول ، ما أضخم هذا السور وما أفخم هذا المكان !
لماذا قرر السفر الآن بالذات ؟! إنه أمر لا يمكن لأحد أن يفهمه ، لا تستطيع أن تؤلف سببا مقبولا دراميا ، إذ لا أحد يدرك جيدا ما الذي يدور في هذا الرأس الغليظ ، حيث تقتل الأسباب وتنتهك أعراض المنطق ..
بمساعدة مدير محلاته استطاع أن يخرج جوازا وتأشيرة وأن يستبدل ريالاته باليورو .. كان أمرا بسيطا ، أصعب ما واجهه حينما ركب الطائرة ، حينها تذكر كل شيء ، وكأنه على وشك الموت .
توقف أمام قصر الإليزيه وبوابته الضخمة ، خائفا مترددا ، بدأ يشك في أمره ، هذا ليس بيتا ، القصر يبتعد عن السور بمسافة شاسعة ، ولكنه لم يكن يعلم كيف يعيش الناس في باريس ، ربما كان جميع العظماء هنا لا يسكنون إلا القصور ؟! .. وقف مبتعدا أمام البوابة الضخمة ، أقبل نحوه العسكري ووقف أمامه ، سأله ما الذي يريد بكثير من الصرامة ، فقال وهو يؤشر على القصر : "أريد مقابلة فرانسوا هاردي" ، لقد تدرب العسكري على مختلف القنابل والرشاشات والأوضاع الصعبة ، ولكنه لم يتدرب على شيء كهذا ، أخذ يتطلع فيه بشك وذهول ، أشار بإبهامه إلى القصر من ورائه : "هنا يسكن رئيس الجمهورية" ، تطلع ببلاهة في المبنى الضخم من خلف كتف العسكري ، ثم قال بتلقائية "هل تسكن معه فرانسوا هاردي؟! " .. تأمله العسكري بهدوء، ثم هز رأسه بكثير من الشك والترقب .
استدار سائرا على قدميه ، مضى يبحث عنها في تفاصيل الأماكن ، يسأل ويستفسر في كل مكان يذهب إليه ، أوقف المارة وحاور الجالسين وتمسك برجال الشرطة ، نام الليلتين الأولتين في فندقين مختلفين ومضى يتنقل مع سيارات التاكسي .
رأى برج إيفل وجلس أمامه على الكراسي الخشبية ، مر بجانب حدائق جاردان دو شام وشاهد قوس الدفاع ومشى في ساحة الكونكورد ، والأهم من ذلك كله : جلس على كافيهات الشانزلزيه ، المكان الذي التقى فيه والده بفرانسوا هاردي .. يتأمل ساهما هناك ، وكأن الزمن قد توقف من حوله ، لا شيء واضح يدور في تلك الجمجمة الغليظة ، أهو ينتظر أم يفكر أم يتساءل أم يتذكر ؟! .. لا شيء واضح ..
كانت والدته ترتعب في صغره من جلوسه الشارد هذا ، قبل أن تعتاد عليه ، متصلبا يتطلع في الفضاء .. تنظر إليه متأملة ، تحاول أن تفهم : ما الذي يفعله ؟! هل يفكر ؟! هل هو نائم ؟! هل هو ميت ؟! ما الذي يحدث له بالضبط ؟! ، مفهوم الزمن لديه لا يبدو أنه يرتبط بالوقت ، إنه شيء هلامي يتحرك من حوله دون وعي !
لا شيء يقود إلى فرانسوا هاردي ، كل الطرق تبدو مغلقة ..
ظل يتذكر قصص والده عنها ، كم كان سهلا أن تلتقي بفرانسوا هاردي في تلك الأيام ، لماذا لا تأتي إلى الشانزلزيه كما اعتادت ؟! أيعقل أن والده كذب عليه ؟! ربما لم يلتقي بها في يوم من الأيام ؟! ربما زور توقيعها ومضى يخترع أطنان القصص عنها وعن باريس ؟! .. أحس بشيء من اليأس والخذلان .
كان الكثيرون يستعذبون تعذيبه ، يُـزوِّدونه بمعلومات مغلوطة ، أحدهما أخبره بأنها تسكن في غرفة صغيرة بمتحف اللوفر ، وهناك طردوه بتهمة الاستهزاء حينما أصر على مقابلتها .. وآخر أخبره بأنها خسرت جميع أموالها في القمار وأصبحت تسكن في مقبرة البانثيون بجانب قبر فولتير ، ولكنه لم يجد هناك إلا تمثاله الأبيض .. وثالث أخبره بأنها تسكن في بيت صغير على شارع روي دي فوبورغ ، فذهب هناك وهو يسابق الليل ، يحاول أن يجد من يسأله في الشارع المقفر ، حتى همَّ بأن يسير على الأبواب وأن يضربها بابا بعد باب .. اقترب من الباب الأول ، وإذا باثنين يمسكانه فجأة من ورائه ، دفعاه نحو السيارة ، وأخذى يضربانه حتى فقد وعيه .
وعندما فتح عيناه كان اللصان يقفان بجانبه ، مستلقيا على أرض باردة مبللة ، ومن فوقه شيء يشبه الجسر ، يغلفه ظلام داكن وأصوات بعيدة لكلاب تنبح . كانا يتحدثان بسرعة ، أحدهما يقول للآخر : الذي يقتل بالمسدس لا يفهم لذة القتل باليد ؟! ، والآخر يرد ضاحكا بأن القتل واحد بنتيجة واحدة .. أخذى جميع ما في جيبه وهو ملقى بلا حيلة ، ارتفعت أصوات بعيدة لسيارات الشرطة فانتبه اللصان لها ببرود ، اقترب منه الثاني ووضع فوهة المسدس أمام جبهته ثم على بطنه ، يبتسم بنشوة مستفزة : "أتريده موتا سريعا في الرأس ، أم موتا بطيئا في الأحشاء ؟! ، أخبرني ؟! " ولكنه لا زال غير قادر على استيعاب ما يحدث ، ثمة شيء خاطئ هنا ، إنه يبحث عن فرانسوا هاردي ، أخبرهما بذلك وهو يتنفس بقوة ، يملؤ نظرته البلهاء ذعر غريب ، "إنني أبحث عن فرانسوا هاردي ، لقد قابلها والدي في الشانزلزيه ؟!، إنني أبحث عن فرانسوا هاردي" ، تطلعا فيه بحيرة كبيرة ، ثم انفجرا بالضحك حتى كاد كلاهما أن يستلقي على ظهره ، ودون سابق إنذار أطلق الثاني رصاصة في بطنه واختفيا سريعا ..
ظل ملقى في تلك البقعة الباردة ، وحيدا ، يشعر بتمزق يستشري في أحشائه ، ويشم رائحة الدم تتفجر على الرصيف المظلم ، وأصوات متقطعة تأتي من بعيد ، تخترق سكون الصمت الموحش .. شعر وكأنه يسقط في هوة سحيقة ، يتهاوى فيها دون أن يرتطم بالأرض ، وخيط أبيض كالدخان يرتفع منه ، يخرج هاربا من جسده .. أغلق عيناه وهو يردد : "سأستريح الآن ، غدا سأواصل البحث ، غدا"
سلمت السلطات الفرنسية جثته للسفارة ، وسُجلت الجريمة ضد عصابة ارتكبت أكثر من عملية قتل خلال الأشهر الماضية في تلك المنطقة ، كانت الشرطة تبحث عنها وتحذر الزائرين منها ، ولكن دون فائدة .
استلم خاله الجثة ، وتم دفنه في نفس اليوم قريبا من والده ووالدته ، في مقبرة المجمعة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى