يحيى محمد عبد القادر - شهادة أحد معاصري التجاني يوسف بشير الكتيابي..

من هو يحيى محمد عبد القادر زميل التجاني يوسف

يحيى محمد عبدالقادر مولود بمدينة شندي عام 1916 ، اشترك عام 1936 في إنشاء أول صحيفة يومية في السودان وهي صحيفة (النيل) وقام بمراسلة (الاهرام القاهرية) وإدارة مكتبها بالخرطوم من عام 1936 إلى عام 1952 وأصدر صحيفة (المستقبل )الأسبوعية و(السوداني) اليومية خلال أعوام 1949 إلى 1952 وتولى سكرتارية الحزب الوطني (حزب الشريف) منذ إنشائه حتى اندماجه عام 1953 في الحزب الاتحادي الديمقراطي (حزب إسماعيل الأزهري) وهو من مؤسسي الحزب الجمهوري الإسلامي برئاسة محمود محمد طه وقد انفصل عن الحزب عندما أخذ محمود يدعو للرسالة الثانية للإسلام . توفي في 19 يناير عام 2011 بمنزله بالمزاد المقفول بالخرطوم بحري


**********

في أواخر عام 1935 قدمت إلى الخرطوم من شندي. وكنت ظاهر السذاجة لم يزل تراب القرية عالقا بثيابي. وما لبثت إن عملت في جريدة النيل وارتديت بدلة خلعهاعلي الإمام عبد الرحمن المهدي عليه رضوان الله ورحمته وهي أول بدلة في حياتي وكانت صفتي الرسمية محررا غير أن الرئاسة كانت تضيق بي فتدفعني إلى الإشتراكات حينا فأكتب العناوين.. وإلى التصحيح حينا فأقطع معظم وقتي بين البروفات.. وذات مساء وأنا أعكف على تصحيح الجريدة وعيناي تدمعان.. والملل يأخذ بخناقي وميعاد السينما سلواي الوحيدة في الغربة وشيك أن يأذن.. إذا أقبل شاب شديد السمرة.. ضامر العود متوسط الطول خفيف الحركة.. ساكن الريح.. يلبس جلبابا من الدبلان.. وعمامة من الكرب ونعلا من صنع أم درمان.. وسلم ثم جلس وأراد أن يشقق الأحاديث ويعرفني بشخصه... ولكني كنت في حالة لا تعين على الإستماع.. فمضيت أنهي ما أمامي من بروفات في سرعة محمومة أمر بنظري على سطر لأتجاوز أسطرا... وسرعان ما وجدت نفسي في عرض الطريق... ولم أذكر ذلك الشاب إلا وأنا داخل سينما كلزيوم. ومضى أسبوع كامل وإذا بالشاب يعود مرة أخرى وأعرف أنني إزاء التجاني يوسف بشير الشاعر . ولم أعتذر عما فعلت.. فقد كنت أقل الناس رعاية للآداب لا لسوء طبيعي في خلقي وإنما لأن سلطان الخجل كان يلجم لساني ويحيلني إلى حمار لا يفقدني غير الرسن كما كان يزعم الأستاذ أحمد يوسف هاشم. وكثرت لقاءآتي بالتيجاني ونمت بيننا صلة وثيقة.. وكانت الظروف كلها مهيأة لكي ترتقي بهذه الصلة إلى ذروة الصداقة الحميمة لو لا حاجز رهيب وقف بيني وبينه وكان ذلك الحاجز ذا وجهين.. الأول: أن التجاني لم يكن يحترمني ككاتب.. وكثيرا ما استهان بما أكتب واعتبره مجرد ثرثرة تملأ فراغ الصحف وكثيرا ما تصدر من فمه أصوت منكرة يصور بها في سخرية عبارات كنت أكثر من تردادها... ثم يقول يا أخي ما تقيف... وأقسى ما في الأمر أنني كنت أصدقه بيني وبين نفسي فإن وجودي في وسط يضم محمد أحمد محجوب والدكتور حليم ويحيى الفضلي وويوسف التني وعرفات ومحمد عشري الصديق أولئك العمالقة كان يجسم أمامي سطحيتي وتفاهة موضوعاتي وعدم تنظيم فكري . ويشعرني بالضآلة والضياع في هذا الخضم العريض..
الوجه الثاني من ذلك الحاجز: فهو عبقرية التجاني فقد كنت أحس بأنني قزم أمام عملاق.. دون أن أحاول مجرد محاولة الإعتراف بهذه الحقيقة. لقد كان في عرفي زميلا.. وكان يعاملني بهذه الصفة.. وكان كلانا يمسك القلم.. وكنا في عمر متقارب.. وكنا نتبادل أسرار الشباب.. ونجري في مضماره.. (غير أنه يحلق في سماء لا أملك لها أجنحة).. و(كان الشعور بهذا النقص يفترسني في قسوة).. ولم يحدث قط أن مدحت إنتاج التجاني في محضره أومغيبه.. (ولم أرض قط عمن يمدح هذا الإنتاج).. (وما أكثرهم).. بل (كنت غالبا ما أبسط لساني فأعيب مقالاته التي كان ينشرها في النيل ( لأنها تعتمد على الفواصل) كالشعر ولا تتصل بواقع الناس ولا تعالج مشاكلهم الحاضرة

وأذكر أن التجاني دعاني لزيارة في أم درمان فذهبت حيث قابلت والده وهو شيخ مهيب يحسن الظن بي.. ووجدت نفسي في دار تكاد تتداعى وغرفة خالية من الأثاث.. و(ليس في الفقر من عار).. ولكنني خرجت وأنا أحمل لهذا التواضع في الحياة ما يشبه التشفي والشماتة .وصحبني التجاني إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب القاضي.. وهو شاعر وكاتب قد اتسع له ذكر وتناولنا طعام الغداء معا... وكان محمد واضح الأستاذية (علينا).. وكنت-وأنا غير المحدث الماهر-أنزوي في مجلسي (استخذاء).. وزميلاي يشتدان في الجدل ويغوصان في المعاني الدقاق. وكثرت اجتماعاتنا فيما بعد.. و(كانا حفيين بي).. غير أن العجز عن مجاراتهما كان يبعدني عنهما كلما ازدادا اقترابا

ووجدت التجاني يوما منهكا ومنهمكا في تصحيح كتاب نفثات اليراع المنسوب للأستاذ محمد عبدالرحيم فقال لي في حرارة: انني في الواقع مؤلف معظم فصول هذا الكتاب.. بل الفصول القليلة التي كتبها محمد عبدالرحيم اضطررت لإعادة صياغتها حتى تتمشى مع أسلوب الكتاب العام. ومضى فقال: وهذه القصيدة التي ذيلها محمد عبدالرحيم بتوقيعه ووجهها للسيد عبدالرحمن المهدي.. وجعلها في مقدمة الكتاب.. إنما هي من نظمي. لقد كان يحق لهذا الكتاب أن يحمل اسمي لا اسمه.. وأضاف ولكن حرصي على (الثلاثة جنيهات) الشهرية التي يستخدمني بها محمد عبدالرحيم هي التي تقسرني على قبول هذا الضيم .

كان التجاني حزينا ومنفعلا وضيق الصدر.. وجلسنا أنا والتيجاني في الجانب الخلفي من مكتبة النهضة على أريكة خشبية حيث كانت توجد ماكينة طباعة تدار باليد.. وكان التيجاني يصلح ويوضب مجلة أم درمان التي يصدرها محمد عبد الرحيم.. وكان الوقت أصيلا وكانت أضواء خافتة صفراء تتسلل داخل المكان شبه المعتم من منفذ ما.. وكانت الحمى تسري في بدن التجاني ويده ترتعش.. وهو ممسك بالقلم وشفتاه جافتان.. وفي جبينه إلتماع.. وعمامته منسدلة على كتفيه.. وقد خلا رأسه من الطاقية.. وبدت وفرة من الشعر في مقدمة رأسه... وقال لي كالمتهكم: إنني لا أستطيعآأن أستريح رغم مرضي لأن عبء المجلة كله يقع على عاتقي حتى هذه القصائد التي ننشرها تحت توقيع أحمد.. هي من نظمي رغبة في التنويع.. إن محمد عبد الرحيم لا يحرر في هذه المجلة إلا تلفيقاته وكلها أخطاء ولكن من يقول البغلة في الإبريق؟.

والظاهرة التي لاحظتها في التجاني (أنه كان حريصا على الغض من أعمال الآخرين). ولم أر التيجاني بعد ذلك إلا خلال محاضرة كان يلقيها مبشر مسيحي في مكتبة للتبشير بأم درمان كان يديرها الأستاذ ( المبارك إبراهيم) قبل أن يعتنق الإسلام.. وقد شدهت حين لا حظت أن التيجاني أصبح مجموعة من العظام لشدة ضعفه وهزاله... (و أخذت أسأله عن حاله فانصرف بوجهه).. (كأنه كان غاضبا على إهمالي له). ومضيت لسبيلي دون أن أصافحه وقال لي (المبارك إبراهيم) إنه كان يتجنب الحديث لبحة أصابت صوته. لقد كان يخشى من سوء ظن أصدقائه بصحته..

وفيما كنت أزاول عملي في جريدة النيل في الصباح إذا بالتليفون يطلبني وكان المتكلم وهو المبارك إبراهيم وقال لي المبارك وهو يضحك (التيجاني جاء الإستبالية وقد وجد مصابا بداء الصدر في درجاته الأخيرة) وقال إنه وصى الطبيب... ولكن مافيش فائدة. وكان المبارك يعمل كاتبا في مستشفى الإرسالية الإنجليزية... وكان واجبي آن أذهب فأزور التيجاني ولكني لم أفعل (هل كان امتناعي إشفاقا من العدوى؟) لا أدري... وشكا لي المبارك (أن الكثيرين كانوا يضيقون بالتجاني عندما يحضر مجتمعاتهم).. (وأن التيجاني نفسه كان يحس بهذا الضيق ولا يبالي).. (بل كان يبالغ في التصاقه بالناس).. (ووصفه بأنه أصبح يحسد أصدقاءه الأصحاء على صحتهم ويتمنى أن يصيبهم ما أصابه)... (وعاب هذه الخصلة في التيجاني الرغبة في الإنعزال عن الناس). ( فهل غيره المرض؟). وأخيرا علمت (أن التيجاني قد أخلد إلى داره ولم يعد يزايلها إلى أن لحق بالرفيق الأعلى) مبكيا على شبابه وعبقريته.

وقد علمت فيما بعد أن السبب في استشراء الداء يرجع ( إلى عزوفه عن الذهاب إلى طبيب في البداية استهانة بالمرض الذي لم يعرف عنه شيئا وبالتالي لم يعرف خطورته... وعندما تطور المرض كان يخشى من اكتشاف الحقيقة فيسوف ويماطل في الذهاب إلى الطبيب رغم نصح النصحاء... وعندما أضطر للذهاب كان السيف قد سبق العزل.. ولم يبق كثيرا لكي يعمل).

(وما كاد خبر وفاته ينشر بين الناس حتى بدا الأسى على وجوه عامة المثقفين... وحتى أخذت الصحف تتذكر محاسن شعره وما امتاز به من جودة وإبداع... وجرد الأدباء أقلامهم ونظم الشعراء قوافيهم)

( وكتبت يوم ذاك في جريدة النيل نقدا لاذعا... وأكدت في هذه المقالة بأن هذا الشاعر المبدع لو لقي من كل هؤلاء المتباكين المتفجعين ما يعينه على العيش الكريم لكان وضعه يختلف عما آل إليه الحال. إن داء الصدر الذي أصاب التيجاني كان نتيجة مباشرة لسوء التغذية والجوع وعدم توفير العناية الطبية حيث صرح عن هذا الفقر و الجوع في قصيدة قلب الفيلسوف
مغداك فى حجر الآباد مغداه وفوق دنياك فى الأيام دنياه
ودون مغناك من ابهاء شامخة كوخ (النبي) وفي غلواء مغناه
أطل من جبل الاحقاب محتملاً سفر الحياة على مكدود سيماه
عاري المناكب فى اعطافه خلق من العطاف قضى إلا بقاياه
مشى على الجبل المرهوب جانبه يكاد يلمس مهوى الارض مرقاه
يدنو ويقرب من مندك الذرى أبداً حتى رُمي بعظيمس فى حناياه
منبأ من سماء الفكر ممســكة على الرســالة يمناه ويسراه
يرمي سواهم انظـــار منفضة أقصى العوالم من عينيك عيناه
أوفى على الارض مأخوذاً وطاف بها مشرد النفس لا مال ولا جاه
يطوى ويظمأ حتى ما تبين على ما فيه من حرقات الجوع ساقاه
يستفسر الناس ماذا عند عالمهم وليس يعــرف شيئاً عن طواياه
يا ناصح الجيب لم يعلق به وضر من الحياة ولم يأخــذ بنجواه
هنا العدالة فى اســمى معالمها مســود دميت بالظـلم كفاه

****

ومر يضرب فى الدنيا على ألم ضاف وتوغل بين الكون رجلاه
يثور بين حنايا صـــدرة ألم ضـخم الجوانب لم يسعد بعقباه
واح يجمــع أطمارا مرفــأة مـزيفة عريت منهن عطفــاه
حتى أتى جبل الاحقاب وهو به أحفى وأحدب فأستبكى فآســاه
وقام بين الرعان البيض ملتفتاً يصيح فى الارض من اعماق دنياه
فى موضع السر من دنياى متسع للحـــق أفتأ يرعانى وأرعاه
هنا الحقيقة فى جنبي هنا قبس من السموات فى قلبى هنا الله

وقد عبر التجاني عن الطور الأخير من مرضه كما عبر عن مأساة أصدقائه في قصيدة تعد من عيون الشعر العربي بعث بها إلى (الصديق الوحيد ) الذي (وفى له خلال محنته) وهو الشاعر محمود أنيس وكان موظفا في تلغراف السكة الحديد في الخرطوم.

لصديق يأكله الداء
ويشوي عظامه المحراق
مارد هذه السقام ولكن
صبره الجم للضنى فاق
جف من عودة الندى فتعرى
وتنفت من حوله الأوراق
وذوى قلبه النضير وقد كان
له في زمانه تخفاق
رحم الله عهده فأن عاد
فعندي لدهرنا ميثاق
وأنا اليوم لا حراك كان قد
شد في مكمن القوى أوثاق
بت أستنشق الهواء اقتسارا
نفس ضيق وصدر طاق
وحنايا معروقة وعيون
غائرات ورجفة ومحاق
فالقريض الذي تقدر لا أعلم
إن كان في جزي يستاق
فاحتفظها ذكرى فأن مت فاقراً
بينها الحب ما عليه مذاق
أوحينا فسوف نقرأ فيها
فترة لا أعادها الخلاق

إلى أن أخلد التجاني لم تر (إشراقة) النور لكأنه انتقى تسميتها من بين ضباب شكه في عمره القصير ولهاثه سدى طي متاهة الفقر وسوء الطالع حتى طواه الموت ولم تشرق (إشراقته) في حياته غير أنه انتصر مسدداً عتابه لكل أصحاب الفكر من قرنائه الناكرين.

أدب ملؤه الحياة وشعر
مفعم بالسمو في أوضاعه
ضاع ويح الذي يغار على الشعر
وويح الأديب يوم ضياعه
أعلى