رضا أحمد - الكتب كائنات طيبة ومثيرة للاهتمام..

في أحد من أيام طفولتي المبكرة وجدته على الإسفلت بغلاف موحل ممزق، في فضول شديد أمسكته بين يدي قلبته باهتمام وحنان بالغ؛ ربما وقتها أرجعت للإنسان الأول مهارته في اقتناء الأشياء الهامة بالمصادفة ولمرحلة الجمع والالتقاط هيبتها وسذاجتها في آن؛ في الأحياء الفقيرة ليس من الصعب أن تجد ما يستحق، قد عثرت على كتابي الأول ولم أكن وقتها أجيد القراءة ولكني أحببت الصور المرفقة، رأيت فيها ما يشبه الألغاز وخرائط الكنوز، وعلي أن أبذل كل ما أملك لأطلع على أسرارها وحكاية أبطالها أصحاب هذه الابتسامات الرائعة.
بدأت يومها أتطلع إلى الكتب ككنوز منسية ومهملة ونادرة أيضا كالأزهار والأشجار في الشوارع الجانبية لبيتنا، لكنها متاحة مجانا للباحث الجيد الذي لا يخشى شيئا من نظرات المارة الشامتة التي لا ترى في الكتب ما يعزي أو ينفع من ينقذها كالقطط والكلاب الضالة، بل عملية نبش في قمامة الآخرين التي أعفتها المنازل من مهمتها السرية في تشويه الأركان ومنح الأتربة والحشرات الملاذ والمسكن الآمن وأيضا كان عليَ أن أتحمل عتاب أمي التي لا ترى فائدة تذكر من أن يصبح عقل ابنتها ممتلئ بكل هذه المعرفة التي ستحرق عينيها وفرصها في زواج متكافئ.
والدايّ أميان أردا لي ولأخوتي حياة أفضل وعوضا نقصهما العلمي في الإنفاق علينا بكرم في التحصيل الدراسي وتوفير المناخ الملائم للإطلاع والقراءة ولأنني ابنتهما البكر وجدت صعوبة بالغة في أن أمضي قدما في أحلامهما نظرا لكوني وحيدة مع كل هذا الشغف بالحروف الملتصقة المتجاورة التي تشبه الألغاز التي علي أن أفك شفرتها وأمكث بين كل جملة وأخرى كحارس أسرار يعرف أن ما تحت يده ذات قيمة ولا يملك أن يستفيد منه بشيء، لكن هذا افادني كثيرا فيما بعد وفجر لدي رغبة كبيرة في ملئ كل الفراغات المعرفية بكل ما يقع تحت يدي من أوراق.
أحببت مكتبة المدرسة المجاورة لفصلي في المرحلة الإعدادية، التي كانت توفر لنا كتيبات العلوم المبسطة والقصص وتجمعنا في نادي قراء نستعير منه الكتب ونكتب مقالا صغيرا حول ما تعلمناه من كل كتاب، وفي نهاية كل فصل دراسي يكرم أكثر القراء مواظبة واهتماما، كان لهذا اثر كبير في حبي للقراءة وتشكيل وعيي حتى أنه فيما بعد كان صاحب فرش رصيف الكتب في شارعنا الرئيسي صديقي المفضل الذي يهب الجميع المنح والقدرة على الطيران والسفر بأسعار مخفضة، وكان أول كتاب اشتريته قصة جحا وحماره لمكتبة الفصل في المرحلة الابتدائية، كنا نتبادل القصص فيما بيننا يوميا، كنت اقرأ تقريبا قصة يوميا ممتنة لهذه الشراكة الصغيرة وللمدرس الذي كان يجمعنا حوله ويجعلنا نحكي قصتنا الشخصية مع كل كتاب استعرناه.
اخترت أن أكون مع كتاب دائما ولا يعنني الوسيلة المتاحة أمامي للحصول عليه، أعتقد أن الكتب كائنات طيبة ومثيرة للاهتمام، تحتاج أن تتنفس وتستمر في الحياة في عقل وقلب القارئ وتشعر بمحبته، يؤسفني أن يتخذها البعض شكلا من أشكال الوجاهة الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي فيصورون مكتباتهم الضخمة حبيسة الرفوف المغبرة وغرفهم المغلقة، وبعضهم يبالغ في التعالي ويمعن في التكبر، فيلوم قراء الكتب "المضروبة" والالكترونية بأنهم افقدوا الكتاب هيبته ومكانته ونكلوا بصناعة الكتب وافسدوا قدسية العلاقة بين القارئ والكتاب برغم أنهم أحيانا كانوا يتباهون بالطرق الغريبة التي سرقوا بها كتب الآخرين من المكتبات العامة ودور النشر ومن منازل أصدقائهم ولم يعيدوها مطلقا، يعرفون تلك الحاجة الماسة لاقتناء كتاب وبرغم هذا ينظرون إلى من يحاولون مطالعة كتاب على أنهم ارتكبوا جريمة.
تحويل مسالة الحصول على الكتب إلى فعل حلال وحرام يجعلنا في مجتمع بدائي مسلوب القدرات على إيجاد حلول ومبادرات ومشروعات محترمة لإتاحة الكتاب بسعر يناسب القارئ محدود الدخل الذي يعاني الأمرين لتوفير احتياجاته الأساسية، وكانت الكتب فيما سبق متنفسه هو وأسرته في التثقيف والإطلاع والمتعة خصوصا أن أزمة شراء الكتب المزورة ليس أخلاقية بالأساس بل بسبب زيادة أسعارها وعدم وجود نسخ شعبية أو طبعات خاصة للطلاب والدراسيين لاحتكار بعض دور النشر حقوق نشر معظم الكتب الكلاسيكية والروايات المترجمة والعربية وعلى رأسها روايات نجيب محفوظ مثلا أديب نوبل الوحيد الذي ينبغي أن يكون له عمل واحد على الأقل في كل بيت لتربية الصغار على حب الإبداع واستفزاز قدراتهم.
شخصيا أمتلك مكتبة ورقية متواضعة بالكاد فوق 600 كتاب معظمها كتب سبق أن قراءتها الكترونيا وأحببتها ووجدت سعرها يناسب ميزانيتي المحدودة واغلبها من مكتبة الأسرة وقصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب التي كانت تتيح الكتب فيما مضى بأسعار مدعومة، الآن الوضع اختلف لم اعد أستطيع أن اشتري كل ما احتاجه من الكتب لذلك اتجهت إلى القراءة الالكترونية وتأقلمت سريعا معها بل وأصبحت أفضلها وأجد مشقة في حمل كتاب ورقي.
الكاتب أضعف الأطراف في عملية صناعة الكتب برغم أنها تستنزف وقته ومجهوده وعليه أن يقبل بشروط الناشر المجحفة الذي لا يعنيه شيء إلا الربح المادي كأنه يتكرم ويتنازل ويخضع لرغبة الكاتب في أن يرى عمله النور، فيجعل بعض الكتاب يدفع مبالغ طائلة لطباعة كتابه.
نحن بحاجة إلى حلول عملية وقانونية تتبنها مؤسسات الدولة والمجتمع المدني تحترم إنسانية القارئ مثل مشروع مكتبة الأسرة الذي أتاح جواهر الأدب والفلسفة والتاريخ والفكر العالمي بسعر رمزي لكل القراء، علينا أن نتحمل ثمن المعرفة بدلا من أن نحصد الإرهاب من عمليات تشويه للوعي والتجهيل المتعمد للمجتمع.
لا توجد وسائط بعينها للقراءة ولا مناسبات تباهي بالكتب نجعل فيها المكتبات الشخصية مزارات لنظرات الأصدقاء المحرومة من الإطلاع واقتناء كتاب هذه الأيام، علينا أن نتشارك كجماعات صغيرة في تبادل كتاب على فترات، أو التنازل عن حقوق الكتب بعد بضع سنوات للنشر الالكتروني فقارئ الكتاب الورقي سوف يبحث عنه برغم توفره الكترونيا، فبالتالي لا خاسر هنا ولنا أن نتخيل المردود الاجتماعي لهذه المبادرات فيستطيع كتاب الكتروني ان يعطي عملا مهما فرصة ثانية في قراءة جادة موضوعية بعيدة عن حسابات سوق الكتب.
مهمة القارئ أن يلاحق المعرفة لا أن يقدم سلوكيات ترضي غرورك ونظرتك المحدودة التي تكرس لشكل معين للقارئ المقبول اجتماعيا لك لأنك بهذا أصبحت تناقض أفكارك التي تحارب التطرف والرتابة والكهنوت فتروج لسلعتك الأدبية بشكل ديني، وفي نفس الوقت قد تقوم بالدعاية لكتاب بصفحات فارغة لأحد أصدقائك على سبيل أحقيته في عرض منتجه الإبداعي بالشكل الذي يناسبه في نطاق من حرية التعبير والتعاطي مع الإبداع كعمل مختلف.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال الشاعرة رضا احمد "الكتب كائنات طيبة ومثيرة للاهتمام" ، نشرته في مجلة "الأهرام العربي" ضمن ملف مهم ورائع بعنوان "تاريخ القراءة من بابل إلى سرقة الكتب" أعده المبدع عزمى عبد الوهاب
الكتب كائنات طيبة ومثيرة للاهتمام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى