من كتاب مصارع العشاق لجعفر بن السراج 419 - 500

ذكر انه كان في بدو الإسلام رجل شاب يقال له بشر, وكان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان طريقه إذا غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهينة, وإذا فتاة اسمها هند من جهينة نظرت إليه فعشقته, وكان لها من الحسن والجمال حظ عظيم, وكان للفتاة زوج يقال له سعد بن سعيد, وكانت الفتاة تقعد كل غداة لبشر حتى يجتاز بها لينظر إليها, فلما أخذها حبه كتبت إليه هذه الأبيات :

تمر ببابي ليس تعلم ما الذي = أعالج من شوق ٍ إليك ومن جهد ِ
تمرُّ رخي البال من روعة الهوى = وأنت خلي الذرع مما بدا عندي
فديتك فانظر نحو بابي نظرةً = فإنك أهوى الناس كلهم عندي
فوا الله لو قصرت عنا فلم تكن = تمر بنا أصبحت لا شك في لحدي

فأجابها الفتى وهو يقول :

عليك بتقوى الله والصبر انه = نهى عن فجور ٍ بالنساء موحدُ
وصبراً لأمر الله لا تقربي الذي = نهى الله عنه والنبي محمد
فوا الله لا أتي حليلة مسلم = إلى أن أدلى في القبور وأفقدُ
أحاذر أن أصلى جحيما وأن أكن = صريعا لنارٍ حرها يتوقدُ
فلا تطمعي في أن أزورك طائعا = وأنت لغير بالخباء معوّد ُ

فأجابته الفتاة وهي تقول :

أمرت بتقوى الله والصبر والتقى = فكيف وما لي من سبيل إلى الصبر
وهل تستطيع الصبر حرى حزينة = معذبة بالحب موقرة الظهر
ووالله ما أدعوك يا حب للذي = تظن ولكن للحديث وللشعر
وكي نتداوى ما تراكد داؤه = من الشوق والحب الذي لك في صدري
ولست فدتك النفس أبغيك محرما = وما ذاك من شأني ولا ذاك من أمري
وما حاجتي إلا الحديث ومجلس = يسكن دمعا قد يسيل على النحر

فأجابها الفتى :

منع الزيارة أن أزورك طائعا = أخشى الفساد إذا فعلت وتفسدي
أخشى دنواً منك غير محللٍ = فاكون قد خالفت دين محمد
أخاف ان يهواك قلبي شارفا = فيكون حتفي بالذي كسبت يدي
فالصبر خير عزيمة فاستعصمي = والى إلهك ذا المعارج فاقصدي
وإذا أتتك وساوس وتفكر = وتذكر فلكل ذلك فاطردي
وعليك ياسين فان بدرسها = تنفى الهموم وذاك نفسك عودي

فأجابته الفتاة :

لعمرك ما ياسين تغني من الهوى = وقربك من ياسين أشهى إلى قلبي
فدع ذكر ياسين فليست بنافعي. = فإني في غمر الحياة وفي كرب
تحرجت عن إتياننا وحديثنا = فقتلي أن فكرت من اكبر الذنب
وإتياننا أدنى إلى الله زلفة = واحسن من قتل المحب بلا عتب

قيل فلما قرأ بشر هذه الأبيات غضب غضبا شديدا وحلف لا يمر بباب هند ولا يقرأ لها كتابا, فلما امتنع بشر وأبى أن يمر ببابها, كتبت إليه تقول :

سألت ربي فقد أصبحت لي شجنا = أن تبتلى بهوى من لا يباليكا
حتى تذوق الذي قد ذقت من نصب = وتطلب الوصل ممن لا يؤاتيكا
رماك ربي بحماة مقلقلة = وبامتناع طبيب لا يداويكا
وأن تظل بصحراء على عطشٍ = تطالب الماء ممن ليس يسقيكا

فلما ترك بشر الممر ببابها أرسلت بوصيفة لها فأنشدته هذه الأبيات, فقال للوصيفة: لأمر كنت أمرّ, فلما جاءت الوصيفة أخبرتها بقول بشر , فكتبت له:

كفر يمينك إن الذنب مغفور = واعلم بأنك إن كفرت مأجور
لا تطردن رسولي وارثين له = إن الرسول قليل الذنب مأمور
واعلم باني أبيت الليل ساهرة = ودمع عيني على خدي محدور
ادعوه باسمك في كرب وفي تعب = وأنت لاه ٍ قرير العين مسرور

واشتد عليها امتناع بشر, ومرضت مرضا شديدا , وبعث زوجها إلى الأطباء , فقالت: لا تبعث إلى طبيب فإني قد عرفت دائي قهرني , جاني في مغتسلي, فقال لي: تحولي عن هذه الدار فليس لك في جوارنا خير, فقال لها زوجها: فما أهون هذا , فقالت: إني رأيت في منامي أن اسكن بطحا تراب, قال: اسكني بنا حيث شئت , فاتخذت داراً على طريق بشر فجعلت تنظر إليه كل غداة إذا غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برأت من مرضها وعادت إلى أحسنها, فقال لها زوجها: إني أرجو أن يكون لك عند الله خيراً لما رأيت في منامك أن اسكني بطحاً تراب فأكثري من الدعاء . وكانت مع هند في الدار عجوز, فأفشت إليها أمرها وشكت ما ابتليت به وأخبرتها إنها خائفة أن علم بشر بمكانها ترك الممر في طريقه ويأخذ طريقا آخر, فقالت لها العجوز: لا تخافي فإني أعلم لك أمر الفتى كله وان شئت أقعدتك معه ولا شعر بمكانك, قالت: فليت ذاك قد كان، فقعدت العجوز على باب الدار, فلما اقبل بشر قالت العجوز: يا فتى هل لك أن تكتب لي كتابا إلى ابن لي في العراق ؟ قال بشر, نعم, فقعد يكتب والعجوز تمل وهند تسمع كلامهما , فلما فرغ بشر قالت العجوز لبشر: يا فتى إني لأضنك مسحوراً, قال بشر وما علمك؟ قالت له: ما قلت لك حتى علمت فما الذي تتهم؟ قال لها: إني كنت أمر على جهينة وان قوما منهم كانوا يرسلون آلي ويدعوني إلى أنفسهم ولست أمنهم أن يكونوا قد فعلوا بي شراً, قالت له العجوز: انصرف عني اليوم حتى انظر في أمرك, فلما انصرف دخلت العجوز على هند فقالت : هل سمعت ما قال؟ قالت نعم ,قالت: ابشري فإني أراه فتى حدثاً لا عهد له بالنساء ومتى ما أتي زينتك هنيئة وطيبتك وأدخلتك عليه, غلبت شهوته وهواه دينه, فانظري أي يوم يخرج زوجك إلى القرية فاخبريني, وفعلت هند كما قالت لها العجوز, وأخبرتها متى يخرج زوجها, وواعدت العجوز بشراً ميعاداً لتنظر في نجمه, فلما كان في ذلك الوقت جاء بشر إلى العجوز قالت: إني شاكية لست اقدر اجعل النشرة ولكن بيتي استر عليك, فدخل معها البيت وجاءت هند خلفها, فدخلت البيت على بشر, فلما دخلت خرجت العجوز فغلقت الباب عليهما ,
وقدم وزج هند من الخروج في ذلك اليوم إلى الضيعة, فجاء حتى دخل داره فوجد مع امرأته رجلا في البيت, فطلق امرأته ولبب بالفتى, فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله سل هذا بأي حق دخل داري وجامع زوجتي؟ فبكى بشر وقال: والله يا رسول الله ما كذبتك منذ صدقتك وما كفرت بالله منذ أمنت بك ولا زنيت منذ شهدت ألا إله إلا الله, فقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصته, فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى العجوز وهند فأحضرهما فأقرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: الحمد لله الذي جعل من أمتي نظير يوسف الصديق, ثم قال لهند: استغفري لذنبك, وأدب العجوز وقال لها: آنت رأس الخطيئة, فرجع بشر إلى منزله وهند إلى منزلها, فهاج بشر بحب هند,فسكت حتى إذا قضت عدتها بعث إليها يخطبها, فقالت: لا والله لا يتزوجني وهو فضحني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم مرض بشر من حبها, وعاد إليها الرسول فقال: انه مريض وانك إن لم تفعلي ليموتن, فقالت: أمانة الله فطال ما أمرضني, قيل: ومرض بشر فاشتد مرضه وبلغ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فاقبلوا إليه يعودونه, فقال بعضهم: إنا نرجو أن يعذب الله هند, فانشأ يقول :


إلهي إني بليت من الهوى = وأصبحت يا ذا العرش في اشغل الشغل
أكابد نفسا قد تولى بها الهوى = وقد مل إخواني وقد ملني أهلي
وقد أيقنت نفسي بأني هالك = بهند وأني قد وهبت لها قتلي
وأني وإن كانت ألي مشيئة = يشق علي ّ أن تعذب من أجلي

قيل: فشهق شهقةً فمات رحمه الله وأقامت أخته عليه مأتماً, فقامت تندبه, فجاءت هند وأخته تقول :

وابشراه من لوعة الهوى قد تولى = وابشراه ذو الحاجات لا تقضى
وابشراه شبابه ما تملى = وابشراه صحيحاً قد تولى
وابشراه لكتابه ما أقرا = وابشراه بين أصحابه لا يرى
وابشراه للضيف ما أقرى = وابشراه معجلا ً إلى الغربا

قيل: فلما سمعت هند صرخت صرخة ً ووقعت ميتة رحمها الله وذهب بها فدفنت مع بشر, فلما مضى لهما أيام جاءت العجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا رأس الخطيئة كما قلت, أنا الذي كنت سبب الأمر وقد خشيت أن لا تكون لي توبة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: استغفري لذنبك وتوبي فإن الله تعالى يقبل التوبة النصوح .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى