سـعيد منتسـب - البحباح والفقيه والشيطانة..

أخذتني من يدي وساقتني برباطة جأش إلى البحباح، الخياط المُجَلبب الذي طالما جعلنا صوته الخشن نموت ضحكا حين ينهرنا شاتماً لنبعد كراتنا عن دكانه. لم يكن الدكان يبعد عن بيتنا إلا بنحو ثمانين مترا.

قلت لأمي، التي بدت سعيدة بي، إنني أريد أن أشتغل هذا الصيف كرجل مسؤول، وأنني سأشتري لوازم الدراسة هذا العام بفلوسي أنا. لن أذهب مع أصدقائي إلى البحر مشيا على الأقدام. لن أذهب إلى “الوقاش” بحثا عن الجوش والظلال. لن أصطاد الضفادع من المستنقعات التي تختبئ بين حقول القمح.. لن أنبش القمامة، ولن أرتخي في المزابل. سأكتفي ببرم الخيط وضرب البرشمان وتلقي وخزات البحباح بين الفينة والأخرى. سأكتفي بإبرام صداقة مع المغزل وقصب الصابرة في دكان ضيق وبئيس، جالسا على حصير أتابع أصابع المعلم المدربة، وعقلي كله مع أصدقائي الذين يتلقون حمامات الشمس.سأتصبب عرقا، بينما يتصببون متعة..
شعرت بالإثارة تركبني من أكتافي، لكن لا يمكنني التراجع. وَعَدْت أمي بأن أكون رجلا مسؤولا. ترى هل ينتهي هذا الصيف، الذي أشعر بسخونة أنفاسه على وجهي، قبل أن أتحول إلى قطعة ثوب غارقة في الإبر. سأجمد على الحصير، وسأقتفي حركة اليدين السريعة التي ترتق العُقَد بإتقان. لن أتململ. حتى كلب العَسَّاس الذي يحدجني بريبة حمراء لن أرميه بحجر.. الرجال المسؤولون لا يدمر مزاجهم كلب أجرب يقضي يومه في النباح ومطاردة الذباب!.. الرجال المسؤولون يحرصون على ضرب البرشمان بدل أن يمدوا أياديهم داخل تنانير بنات الجيران. فكرت في ولد الهوارية الذي يصطاد السوتيانات من حبال الغسيل، وفكرت في حايشش الذي يحكي عن مغامراته مع امرأة العسكري التي لم يسبق لنا أن رأيناها ببطن غير منتفخة.. وفكرت في هبولة التي تكشف لنا عن فاكهتها مقابل قطعة سكر!
– أخدم آ ولدي إيلا بغيتي تخدم.. ولى عطيني التيساع!
قال البحباح مزمجرا وهو يرميني بمسند صغير كان يتكئ عليه. بدا مثل مهرج في جنازة. أضحكني بينما كنت أموت، أُمِيتُنِي بصبر حتى لا تغضب أمي. الرجل هو الكلمة، والكلمة هي التي تقيدني الآن. لم أنطق.. أحنيت رأسي وتابعت إخلاف اليدين وتشبيك الأصابع، بينما كان يضرب ويضرب في الثوب الرمادي الذي بين يديه، ويسدي إلي النصح. وبين الفينة والأخرى يرفع رأسه ليحيي النساء اللواتي يسألنه عن قفطان أو جلباب.. وعرفت أنه مستشار محلي في شؤون الحب..
جاءه الفقيه مكشكشا ودامع العينين. قال كلاما كثيرا، لم أستوضحه تماما. قال إنه يعرف الله ويخافه، وأن زوجته العقروشة والكافرة لا تخافه، وأنها تحرض أولادها عليه وتدمر علاقتهما الزوجية التي استمرت سبع سنوات. قال إنه لولا تدخل والدتها لما تزوجها لتعكنن عليه حياته. أغلقت عليه الباب بالمفتاح ومنعته من الخروج ليسترزق. ماذا سيأكل الأطفال إذا لم أخرج؟ ولماذا ظلت تضغط على عنقي؟ تريدني أن أموت.. سأطلقها وليكن ما سيكون.. سأضع عصابة سوداء على عيني وأخرج ولن أعود.. ماذا سيقع؟ مزقت السداري بالسكين وأخرجت الحلفاء وأرادت أن تشعل النار ليحترق الجميع. الكافرة.. وهل أنا مثلها، تريدني أن أعصى الله؟
كان الفقيه يبكي وأنا أبحلق فيه بقلب مختوم، بينما كان البحباح يهدئ من روعه. اقتاده إلى داخل الدكان، وأتاه بماء ليغسل وجهه. ناوله قنينة ماء في منتصفها، وجعله يسند ظهره إلى الوراء..
– آش وقع يا السي الفقيه؟
– الملعونة.. الكافرة بالله..
– احك.. علاش داير فراسك هاذ الحالة.. وانت زعما فقيه وكتعرف الله..
ولم يكد الفقيه ينبس بكلمة حتى أطلت الكافرة برأسها، امرأة قزمة يتطاير الشرر من عينيها، شيطانة بكل حذافيرها.. وها هنا أصبحنا أمام “قط وفأرة في حفرة مسيجة بأسلاك شائكة”، حاولت أن تخرجه بالقوة من الدكان. كانت تكشكش وتزفر، بينما كان ينكمش ويستغيث.. ويا عبااااااد الله، لن أعصى أمر الله.. تريدني أن أضاجعها وأنا صائم.. والله لن أفعل حتى لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي.. الله أحب إلي من هذه الكافرة.. الله أحب إلي منها..
وبدأت الضحكات تتدلى من كل الأركان. حتى البحباح بادلني النظر وهو ميت من الضحك…


سعيـد منتسـب

من سيرة الصبا
أعلى