مخلص الصغير - سكتت شهرزاد لكنّ مترجميها ودارسيها لم يتوقفوا عن التأويل

"من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا" رحلة بين كافكا وشهرزاد، والكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو يبحث عن الكنز في مكتبة شهرزاد.


من يعرف عبدالفتاح كيليطو عن قرب يعرف أن أقرب الكتاب إليه هو فرانز كافكا، وأن أهم كِتاب بالنسبة إليه هو “ألف ليلة وليلة”. ولعل ما يبرر هذا الحكم، الذي قد يبدو متسرعا للبعض، هو أن كيليطو سوف يستعير هذه المرة مقولة لكافكا ليجعلها عنوانا لكتابه الجديد “من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا”، الصادر مطلع هذه السنة. بينما خصص المؤلف مختلف فصول الكتاب لشهرزاد وحكاياتها الآسرة في الليالي العربية الساحرة.

يواصل الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو دراسة ألف ليلة وليلة، وهو لا يزال يعتبرها مكتبة قائمة الذات، مترامية الرفوف والأطراف. فبعد كتابه “العين والإبرة”، حيث تناول الليالي بالدرس والتأويل، لم تخلُ أعمال كيليطو الموالية من عقد فصل أو يزيد عن عوالم ألف ليلة وليلة، إلى أن أصدر اليوم كتابا آخر خاصا ومختصا في الليالي العربية بعنوان “من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا”.

أحلام الليالي

يستأنف عبدالفتاح كيليطو دراسة الليالي منذ الليلة الأولى، التي تناسلت منها باقي الليالي والحكايا. والليلة الأولى هي “الحكاية الإطار”، كما اصطلح عليها دارسو الليالي، والتي ستساهم في “توالد السرد”، بعبارة سيلفيا بافل. فبعد اكتشاف الملك شهريار وأخيه شاه زمان ما كان من خيانة زوجتيهما، سوف يبادران إلى السفر، حتى “ننظر هل جرى لأحد مثلنا”. فلما وصلا ساحل البحر وجدا ذلك الجني وهو يحمل صندوقا زجاجيا وفيه “صبية غراء بهية”. وحينما ينام الجني، تخرج الصبية وتطلب من الملك وأخيه مضاجعتها، وتأخذ خاتم كل واحد منهما، وتطلعهم على نحو 75 خاتما، وتقول لهم “أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت” الذي اختطفها في ليلة عرسها. “لم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء”.

وينبهنا كيليطو إلى أن الصبية الجميلة هي الساردة الأولى في الكتاب، قبل شهرزاد نفسها، وهي التي تدشن دورة الحكايات، وتمهد لظهور شهرزاد.

وهكذا، ارتبطت الحكاية دائما بالمرأة، بالصبية، بشهرزاد، بشخصية الجدة وحكاياتها في ليالي الإنسانية جمعاء… ونحن لا ننسى أن وصول الليالي إلى الثقافة الغربية ارتبط بلحظة شهدت بداية الانشغال بقضية تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها. وكان غالان، وهو أول مترجم لألف ليلة وليلة قد أهدى ترجمته للمركيزة “أوه”. كما كان فولتير من الفلاسفة الذين استغلوا ولع القراء بألف ليلة وليلة لنشر أفكاره التقدمية تحت أسماء شرقية مثل رواية “صادق” المهداة إلى الأميرة شيرا، التي يذكرنا اسمها باسم شهرزاد.

تحليل حكايات ألف ليلة وليلة بكثرة جعل الكثير من الدارسين يكتفون بتقديم دراسة واحدة أو اثنتين عن الليالي العربية. فما الذي يجعل كيليطو يعود إلى الليالي لأكثر من مرة؟ لا شك أنه التأويل، الذي يتيح لصاحبه تقديم قراءات وتأملات لانهائية في الليالي، ربما هو “ألف تأويل وتأويل”، والدال على الكثرة، وعلى ما لا نهاية له من التأويل.

يتوقف كيليطو هذه المرة عند “حكاية إفلاس رجل من بغداد”، والذي أفلس وضاع ماله، فرأى في منامه أن كنزا ينتظره في مصر، فسافر إليها. وقد نام صاحبنا في المسجد حين غالبه النوم. وصادف أن اللصوص في تلك الليلة لجأوا إلى المسجد، فلما شاع خبرهم فروا من المسجد، وحين وصل الوالي وجد تاجر بغداد فألقى القبض عليه وضربه بالمقارع ضربا مبرحا كما في الحكاية. وبعد أن قضى ثلاثة أيام في السجن أمر الوالي بإحضاره، فلما سمع حكايته، وقصة الكنز الذي أتى به إلى مصر، قال له الوالي “يا قليل العقل، أنا رأيت ثلاث مرات في منامي قائلا يقول لي: إن بيتا في بغداد بخط كذا، ووصفه كذا، بحوشه جنينة تحتها فسقية بها مال له جرم عظيم، فتوجه إليه وخذه فلم أتوجه… وكان البيت الذي وصفه الوالي ببغداد هو بيت ذاك الرجل. فلما وصل إلى منزله حفر تحت الفسقية فرأى مالا كثيرا ووسع الله عليه رزقه”.

وهي حكاية يصدق عليها عنوان كتاب كيليطو الجديد “من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا”. وقد التزم البغدادي الصمت، ولم يقل للوالي إن الوصف الذي قدمه يخص بيته في بغداد. ذلك لأن الكنز سر، ولا يمكن البوح به، كما لا يمكن تقاسمه، وإلا فإنه يكف عن أن يكون سرا “كنزا”. ألم يقل ابن عربي “الكلمات كنوز وإنفاقها النطق بها”؟

شهرزاد في الروايات

يذكرنا بحث كيليطو عن الكنز بدراسة مرجعية للباحث العربي سعيد الغانمي، بعنوان “الكنز والتأويل” يصدر فيها عن أطروحة تأويلية مفادها أن “الحكاية كنز، والتأويل فعل اكتشاف كنز”.

وإذا كان الروائي البرازيلي باولو كويلهو قد استلهم حكاية البغدادي في “الخيميائي”، فإن كيليطو يستعرض مجموعة من الأعمال السردية الغربية التي يخوض فيها البطل رحلة البحث عن كنز ما، منذ “دون كيشوت”، مرورا بـ”الخنفساء الذهبية” لإدغار آلان بو و”جزيرة الكنز” لستيفنسون و”جاك القدري” لدنيس ديدرو و’أوجيني غراندي’ لبلزاك… ففي كل هذه الحكايات، لا يوجد كنز حيث نعتقد أنه موجود هنالك. وبفعل تصديقنا للحلم أو باطلاعنا على مخطوط، فإننا نبدأ دائما بالحفر في المكان الخطأ، كما يقول كيليطو.

وكذلك، يواصل كيليطو تحليل حكايات الليالي بهذه القدرة الكبيرة على التأويل، وعلى مقارنة الليالي العربية بروايات ونصوص غربية، يقينا منه أن الآداب الإنسانية يفسر بعضها بعضا، بينما مهمة الناقد هي التأويل، والحفر عميقا في أكثر من مكان وتفصيلة بحثا عن الكنز. كما يواصل كيليطو لعبة التأويل وهو يقرأ حكايات الليالي باختلاف ترجماتها، مستحضرا الإضافات والتغييرات التي قدمتها كل ترجمة، بما هي قراءة وتأويل أيضا. وكان خورخي لويس بورخيس قد تنبه إلى أسرار هذه الترجمات التي قاربت الأربعين ترجمة لألف ليلة وليلة، معتبرا أن كل مترجم كان يحرف ويضيف ويغير، أي أنه كان يترجم ضد المترجم الآخر، وأنه لا بد من الاطلاع على أعمال هؤلاء “الأعداء” لقراءة ألف ليلة وليلة، التي قد تعني ألف قراءة وقراءة، وألف تأويل وتأويل، وألف ترجمة وترجمة.

إمعانا في التأويل، بقي أن نشير في النهاية إلى أن البحث عن الكنز عند كيليطو يشبه البحث عمن كتب ألف ليلة وليلة، وعن نصها الأصلي، أمام كثرة المخطوطات والمرويات، عن الترجمة الأقرب إلى الأصل، من بين كل الترجمات. فقد سكتت شهرزاد عن الكلام المباح، لكنّ مترجميها ودارسيها لم يتوقفوا عن التأويل، وإن كانوا لا يستطيعون البوح بالسر، ولا معرفة موضع الكنز.

مخلص الصغير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى