الباحث والمترجم البحريني د. محمد علي الخزاعي: السبق في إبراز حضارة دلمون يعود للأميركي بيتر كورنوول

حوار أجراه – جعفر الديري

"حضارة دلمون القديمة التي تعود إلى خمس ألفيات أي قبل ثلاثة آلاف عام قبل مولد السيد المسيح "ع"، أثارت اهتمام علماء الآثار والمؤرخين على مر العصور، لذلك ليس من المستغرب أن تجد نفرا من بين أهل البحرين ممن يهتمون بهذه الحضارة القديمة" بهذه العبارة التي تحمل الكثير من الاعجاب بحضارة دلمون العريقة بدأنا حديثنا مع الباحث والمترجم البحريني المعروف محمد علي الخزاعي الذي شكلت حضارة دلمون جزءا كبيرا من اهتمامه الشخصي. والذي يؤكد من خلال هذا اللقاء أن الواجب يقتضي منا إثارة الاهتمام بهذا التاريخ وبهذه الحضارة من منطلق فهم تاريخنا لأنه من لا ماض له لا مستقبل له فهو يقول "نحن نمتلك ماضيا عريقا فلابد لنا من استثمار هذا الماضي من أجل فهم الحاضر والاستعداد للمستقبل".
في هذا اللقاء يأخذ بنا الخزاعي بعيدا الى الأيام الأولى من عمر حضارة دلمون ومن ثم الى عقد الخمسينيات من القرن الماضي حين بدأت عمليات التنقيب مع اشارة وتأكيد منه على الدور الرائد الذي قام به عالم الآثار والباحث الأميركي بيتر كورنوول بهذا الخصوص.

* متى وردت أول إشارة إلى اسم دلمون؟
- وردت أول إشارة إلى دلمون – كما يحدثنا علماء الآثار والمؤرخون – في بداية الأمر في السجلات والنصوص المسمارية الآشورية والسومرية وكذلك في الملاحم والأساطير القديمة كملحمة الخلق وملحمة جلجامش. في هذه الملاحم جرى تصوير دلمون كجنة أو فردوس من الفراديس وكانت تعتبر أرضا مقدسة وطهورا لدرجة أنه كان هناك اعتقاد سائد بأن هذه الأرض كانت مقبرة يفضل سكان الإقليم أن يدفنوا موتاهم تقربا للآلهة التي حبت هذه الأرض بثرواتها من الماء والخضرة واللؤلؤ. وبدراسة النصوص القديمة لحضارة وادي الرافدين يمكن لنا أن نتبين العلاقة القائمة بين حضارة دلمون وتلك الحضارات القديمة.

الاختلاف في تحديد الموقع

* وهل اختلف العلماء على الموقع الذي كانت توجد فيه هذه الحضارة؟ وهل شكلت الحفريات الدنماركية في الخمسينات حلا لهذا الاختلاف؟
- فعلا، في البداية كان هناك اختلاف على موقع حضارة دلمون. إلا أن غالبية علماء الآثار والباحثين يتفقون على أن البحرين بمفهومها الجغرافي القديم كانت مهدا لتلك الحضارة وأن جزيرة البحرين الحالية كانت مركزا لتلك الحضارة القديمة. أما إذا كانت الحفريات الدنماركية قد شكلت حلا لهذا الخلاف، فإنه يمكننا القول ان نتائج حفريات البعثة الدنماركية قد أكدت ما ذهب إليه الباحثون من قبلهم أن البحرين كانت مركزا لتلك الحضارة. وهنا يجب التنبيه إلى أنه قبل البعثة الدنماركية كانت هناك محاولات كثيرة لعدد من المنقبين الهواة الوافدين الذين قاموا بالتنقيب في تلال عالي وغيرها من المدافن. إلا أن التنقيب على أسس علمية من قبل المختصين الأوروبيين لم يتم إلا في العام 8781 عندما قام الكابتن دوراند بالتنقيب في البحرين وتبعه ثيودور بنت العام 9881 وجوانين 0091 و المقيم السياسي في منطقة الخليج، الكولونيل بريدو العام 6091 وقد قام هؤلاء بالتنقيب هنا إما بدوافع شخصية أو بتكليف من حكومة الهند البريطانية. تمثل هذه المحاولات البداية الأولى لأعمال التنقيب على أسس علمية وكانت بمثابة الانطلاقة للاهتمام بآثار البحرين وحضارة دلمون. إلا أنه يجب التنبيه في هذا المقام إلى أنه يرجع الفضل لإبراز حضارة دلمون وإلى البحرين كمركز لتلك الحضارة إلى عالم الآثار والباحث الأميركي بيتر كورنوول الذي أقبل إلى البحرين العام 1940، أي أنه سبق الدنماركين بأربعة عشر عاما، عندما قام بالتنقيب في تلال عالي وكذلك في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. وقام من خلال دراسته وتنقيباته التي كانت جزءا من أبحاثه العلمية لأطروحة نال عليها درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأميركية. وكانت هذه أول رسالة جامعية تتخذ من البحرين موضوعا لها قبل ما يربو على ستين عاما. وقد ظلت أطروحة كورنوول في متناول قلة من الباحثين وبلغتها الأصلية إلى أن قمت أنا شخصيا بترجمة تلك الأطروحة إلى اللغة العربية ونشرها في البحرين في كتاب يحمل عنوان "دلمون: تاريخ البحرين في العصور القديمة". ويجب لنا هنا أن نصحح المعلومات المغلوطة بشأن من يعود له الفضل في تأكيد أن البحرين كانت مركزا لحضارة دلمون. فهذا يعود إلى جهود كورنوول وأن علماء الآثار الدنماركيين أنفسهم بمن فيهم بيدر جلوب وجفري بيبي يذكران هذه الحقيقة. نرجو ممن يهتم بآثار وتاريخ البحرين أن يتحرى الدقة فيما يبحث وأن يكون لكورنوول مكانة بارزة في تاريخ دراسات دلمون وفي أبحاث التنقيب الأثرية في البحرين. ولمن يريد أن يعرف المزيد عن حضارة دلمون فليرجع إلى أطروحة كورنوول التي تورد معلومات على قدر كبير من الأهمية.

جهود الفريق الدنماركي

* فما هي إذا جهود الفريق الأثري الدنماركي برئاسة بيتر جلوب وجفري بيبي بهذا الخصوص، وكيف استطاع الحصول على دليل على وجود مستوطنة كان عمرها أربعة آلاف عام في منطقة قلعة البحرين؟
- تعتبر جهود بعثة الآثار الدنماركية نقلة نوعية في مجال التنقيب الأثري في البحرين في منتصف الخمسينات لعدة أسباب من بينها: أن البعثة كما يستدل من تسميتها كانت تضم فريقا من المختصين من متحف آروس بالدنمارك بالإضافة إلى عدد من الأكاديميين وبالتالي فإن جهودها كانت تقوم على أسس احترافية بعيدة عن الفردية والهواية التي كانت تميز الفترات السابقة. كما أن الدولة ممثلة في حكومة البحرين قد شجعت ودعمت جهود هذه البعثة وبذلك اتخذت صفة رسمية وباركت توجهاتها بفضل الرعاية والمساعدات القيمة التي قدمتها الحكومة بتوجيهات من لدن المغفور له حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ومن بعده أميرنا الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه وكذلك الدعم المادي والمعنوي الذي كانت تقدمه شركة نفط البحرين "بابكو" للبعثة. ولعل الأهم من هذا أن ما عثر عليه من لقى أثرية قد تم تسجيله وعرض بعضه في الدنمارك والبعض الآخر سلم للجهة المسئولة عن الآثار آنذاك وهي مديرية التربية والتعليم لتكون نواة لمتحف البحرين الوطني. ويذكر أن ما يميز عمل البعثة أنها كانت تقوم بشكل منتظم بعد الانتهاء من موسم التنقيبات بنشر نتائج عملها في الدوريات المتخصصة وذلك إثراء لحقل التاريخ والآثار في البحرين ووضعها أمام المختصين والمهتمين من المتتبعين لتراث البحرين الحضاري.
أما كيف استطاعت البعثة الحصول على دليل على وجود مستوطنة كان عمرها أربعة آلاف عام أو أكثر فقد تم ذلك من خلال الحفريات التي أجرتها ومن خلال عثورها على أدوات كان يستخدمها الإنسان في ذلك الوقت كالأختام ومتاع القبور ومن خلال أنماط العمارة. ولعل تحليل بقايا العظام والهياكل العظمية تحدد عمر الموتى والمواقع نفسها. وبالمناسبة فإن موقع قلعة البحرين ما هو إلا أحد المواقع المهمة التي جرى التنقيب فيها من أجل الكشف عن حضارة دلمون بجانب موقعين آخرين مهمين هما موقع باربار وسار.

150 ألف تل أثري

* هل شكلت التلال الأثرية المخصصة كمدافن والتي يصل عددها إلى عدة آلاف دليلا على وجود حضارة أصلية ازدهرت وانتعشت؟
- لقد أثار هذا الكم الهائل من المدافن التلية في البحرين والتي يقدر عددها بما يتراوح ما بين 100 الى 150 ألف تل اهتمام الباحثين الذين توصلوا إلى نتيجة مهمة مفادها وجود أكبر مقبرة في فترة ما قبل التاريخ وما صاحبتها من حضارة دلمون. فهذا الفضاء الشاسع من المدافن وطريقة بنائها لابد أنه كان تعبيرا عن ممارسات طقوسية وعقائدية سائدة آنذاك كما كانت جزءا من ثقافة حضارة إنسانية بدائية. وكما قلنا فقد كان هناك اعتقاد سائد بأن جزيرة البحرين كانت تعتبر أرضا مقدسة في نظر الدلمونيين لذلك فضلوا جلب موتاهم ليدفنوا فيها من البلاد المجاورة. إلا أن هذه الفكرة قابلة للشك وخصوصا بعد أن تم التأكيد على وجود قبور تلية على الساحل الشرقي للجزيرة العربية في منطقة الأحساء، الأمر الذي يدل على أن حضارة دلمون كانت ممتدة على طول الساحل المعروف قديما بإقليم البحرين الذي تشكل جزيرة البحرين جزءا منه.
أما عن القول بوجود حضارة أصيلة مزدهرة فمن المعتقد أن حضارة دلمون التي ازدهرت في الألفية الثانية قبل الميلاد كانت حضارة تجارية في المقام الأول وكانت حلقة وصل بين حضارات وادي الرافدين وحضارات الشرق في كل من عمان والهند. فقد كان تجار دلمون يستوردون البضائع والمواد الخام من الجنوب ليعيدوا تصديرها إلى الشمال، كما كانوا يستوردون من الشمال ما كانوا يحتاجونه أو يقومون بتصديره إلى الجنوب.
أما أهم منجزات هذه الحضارة فتتمثل في القبور التلية وفي معبد باربار والأختام الدلمونية إضافة إلى المستوطنات الحضرية في سار وغيرها. إن البحرين أمام تحد كبير بالنسبة إلى الحفاظ على آثارها. فالقبور التلية بشكل خاص معرضة للتجريف بسبب الزحف العمراني والاستيطان وشق الطرق. ولابد من الالتفات إلى هذا بتشريع يقضي بحماية المواقع الأثرية للحفاظ عليها من الزوال.

البداية كانت من البحرين

* هل كان اكتشاف هذه التلال بداية علم الآثار في منطقة الخليج؟
- كانت هذه التلال موجودة وظاهرة للعيان ولم تكن هناك حاجة لمن يكتشفها. إلا أن بداية التنقيب في هذه التلال من قبل بعثة الآثار الدنماركية أثارت الاهتمام بالمناطق المجاورة في كل من الجزيرة العربية والكويت وشبه جزيرة قطر والإمارات أي بإقليم الخليج عموما. أي أن الكشف عن آثار البحرين كانت بداية لاكتشافات أثرية في دول الخليج الأخرى. ففي الكويت تم العثور على أختام دلمونية شبيهة لما عثر عليه في البحرين، في جزيرة فيلكا وعلى آثار يونانية، أما في الجزيرة العربية فقد تم العثور على قبور تلية مشابهة لما هو موجود في البحرين.
ويذكر هنا أنه بانتهاء عمل بعثة الآثار الدنماركية لم تنته أعمال التنقيب في البحرين ولا الاهتمام بآثارها وحضارتها، فقد عملت بعثات أثرية فرنسية وبريطانية وهندية ويابانية وعربية بالإضافة طبعا إلى فرق تنقيب بحرينية. وهنا لابد من الإشارة إلى الاهتمام بالآثار من قبل العاملين في إدارة الآثار اذ تضم عددا من الباحثين على رأسهم خالد محمد السندي الذي وضع بحثا بشأن الأختام الدلمونية وكذلك عبدالعزيز صويلح، وكذلك المتخصص في علم المتاحف عبدالرحمن مسامح، وقد سبقتهم في هذا المجال الشيخة هيا بنت علي آل خليفة بدراساتها المتعمقة لتراث وآثار البحرين فهي تعتبر أول منقبة أثرية في البحرين. كما أن جهود جمعية تاريخ وآثار البحرين لا يمكن أن تنكر في هذا المجال وأخص بالذكر الدراسات والترجمات التي قام بها كل من عيسى أمين وعلي أكبر بوشهري.

* وما الذي أثمرته جهود بعثات التنقيب الأثرية في البحرين؟
- أثمرت جهود بعثات الآثار على التأكيد بأن جزيرة البحرين كانت مركز حضارة دلمون بما لا يدع مجالا للشك، كما أن المستوطنات الدلمونية في كل من سار وباربار كانت امتدادا لمستوطنات قلعة البحرين. أما ما توصل إليه الدنماركيون في البداية فقد كان مفاجأة للجميع وهو أن القلعة الحالية وهي قلعة برتغالية وكانت تعرف بقلعة البرتغال كانت تقوم على انقاض قلعة سبقتها وهي قلعة إسلامية ومن ثم تم استبدال التسمية بقلعة البحرين. في الواقع أن هذه التسمية لا تغير الواقع بأي شكل من الأشكال. فالقلعة الحالية بمعمارها هي قلعة برتغالية وقد بناها البرتغاليون عند احتلالهم للجزيرة في القرن السادس عشر ولا مجال لإنكار هذه الحقيقة. وإذا أردنا أن ندرس تاريخ البحرين بموضوعية فلابد من الاعتراف أن بلادنا كانت هدفا لاطماع الطامعين من القوى الأجنبية كالبرتغال والفرس والعمانيين والأتراك والإنجليز الذين حاولوا السيطرة على الجزيرة بسبب موقعها الاستراتيجي من ناحية وبسبب مواردها الطبيعية من عيون عذبة وانتاج زراعي ولؤلؤ طبيعي وملاذ آمن ومرسى طبيعي للسفن من ناحية أخرى.
أما الثمرة الأخرى لبعثات التنقيب الأثرية فقد تمخض عنها الاهتمام بتاريخ وحضارة هذه الجزيرة الضاربة في أعماق التاريخ وإيلاء آثارها اهتماما خاصا كشاهد على حضارتها. فلهذا أقيمت المتاحف وأجريت الدراسات ونشرت الكتب. وكذلك الاهتمام بترميم وصيانة المواقع الأثرية كالقلاع مثل قلعة الرفاع وقلعة عراد وقلعة البرتغال ما يجعل من هذه المواقع الأثرية أهلا للتسجيل ضمن التراث الإنساني. وهنا لابد لنا من التنويه بجهود وزارة الإعلام ممثلة في إدارة الآثار والمتاحف وقطاع الثقافة والتراث الوطني في جهودهم الحثيثة للحفاظ على آثارنا وتسجيلها من خلال منظمة اليونسكو ضمن تراث الإنسانية.
وقد اتخذ هذا الاهتمام بآثار وتاريخ البحرين بتسليط الضوء على حضارة دلمون من ناحية وتاريخ البلاد من ناحية أخرى عن طريق إجراء الدراسات الجادة وإقامة المؤتمرات العالمية المهمة كالمؤتمر الدولي الثاني للآثار الآسيوية الذي عقد في السبعينات ومؤتمر البحرين عبر العصور في الثمانينات. وقد كان من نتيجة هذين المؤتمرين أن ازداد الاهتمام بتاريخ البحرين وحضارة دلمون من قبل الباحثين وعلماء الآثار والمؤرخين. وهنا لابد من الإشارة إلى جهود نائب رئيس الوزراء الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة الذي يعتبر رائدا من رواد المهتمين بتاريخ وحضارة البحرين وشاركه في ذلك عبدالملك يوسف الحمر اذ وضعا أول مؤلف حديث يقوم بكتابته أبناء هذه البلاد.
إن آثارنا كمعلم حضاري تجذب السكان المحليين وخصوصا طلاب المدارس وكذلك الزوار الأجانب من بين السياح الذين يفدون إلينا بمئات الألوف كل عام، لهذا فهي تعتبر مقوما من مقومات السياحة كمصدر قومي للدخل. لذلك فإن تنظيم جولات إلى المواقع الأثرية لابد أن توكل إلى وكالات متخصصة لتعريف السياح والطلاب بحضارتنا الضاربة في أعماق التاريخ وبتاريخنا العريق. مع تمنياتنا لجهود وزارة الإعلام وللعاملين في مجال الآثار والمتاحف بالتوفيق والسداد. ولعل ما يبشر بالخير وجود نية إلى تحويل بعض القبور التلية إلى متاحف في موقعها نفسها وهي خطوة في الاتجاه الصحيح لاشك في أنه ستعقبها خطوات أخرى للحفاظ على آثار وتاريخ البحرين من الاندثار.
كما أنه لا يفوتنا التنويه بأهمية تحويل المواقع الأثرية إلى مواقع ثقافية متكاملة تحتوي على صالات للعرض وقاعات درس ومكتبة ومحل للهدايا ومقاصف ومطاعم لتصبح مواقع سياحية حقيقية يكون لها مردود اقتصادي يصب في تنمية الدخل القومي للبلاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى