عبد الواحد لؤلؤة - الشعر بين التعريف واللاتعريف

في التراث الإغريقي ثمة تفريق بين الشعر والغناء. فالأول يقوم على الوزن، والثاني يقوم على الإيقاع. وفي التراث العربي الجاهلي نجد ما يشبه ذلك في التفريق بين الشعر والحُداء. فالشعر الجاهلي، كما نجد في المعلقات وما سبقها، يقوم على الوزن الذي يأتي بداهة عند امرئ القيس أو هوميروس، ومن تبع هذا أو ذاك. والحداء هو غناء الإبل لحثها على السير أو على ورود الماء، وهذا إيقاع الأصوات الذي ينسب إلى أول من بدأه: مضر، الجد الأقدم للرسول الكريم. إذ تذكر التواريخ أن مضر قد سقط عن راحلته فانكسر ذراعه فراح يصيح “وايداه… وايداه” فاجتمعت إليه الإبل وراح يغنّي لها بإيقاع الحداء، الذي تواصل أثره حتى في شعر نزار في غزله الحديث. كميَسِ الهوادج شرقيةٌ/ تسوق إلى الشمس حلوَ الحُدا.
بهذا نجد أن الشعر والغناء معاً يقومان على الإيقاع. فليست الأوزان في الشعر سوى إيقاعات صوتية تتراوح بين القصير والطويل، أو الخفيف والثقيل في الشعر الإغريقي وما تطور عنه أو سعى إلى محاكاته في الشعر اللاتيني اللاحق، أو الشعر في اللغات الأوروبية اللاحقة.
ومما يدعم هذا القول إن كلمة “شعر” في العربية تعود إلى كلمة “شير” في الآرامية والسريانية، التي تفيد “الغناء”. وبقي هذا الازدواج في المعنى في الشعر العربي منذ القِدم، حيث كان الشاعر “ينشد” قصيدته في سوق عكاظ، وبقيت الكلمة في “أنشد يقول” و”ينشد الشاعر قصيدته” في حضرة الخليفة أو الأمير. ونسمع المتنبي يقول:
وما الدهرُ إلا من رواة قصائدي/ إذا قلتُ شِعراً أصبح الدهرُ منشِدا.
ولكن، هل للشعر من تعريف يبين لنا “ماهية الشعر” في اختلافه عما هو ليس بشعر؟ في تراثنا العربي ما نزال نرجع إلى قول “قُدامة بن جعفر” (ت 948م) الذي يتجاوز ما درج عليه العرب في قولهم إن “الشعر كلام موزون مقفّى يفيد معنى”. فهو يرى في كتابه (“نقد النثر” ص 66) أن قُدماء النقاد كان لهم مفهوم للشعر أعمق من كونه الكلام الموزون المقفّى. فالشاعر “إنما سُمّي شاعراً لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره. وإذا كان إنما يستحق اسم الشاعر بما ذكرنا، فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر، وإن أتى بكلام موزونه مقفى”. معاني القول وإصابة الوصف، أي دقة التعبير، هما إذن من ضرورات الشعر عند قدماء العرب، قبل توافر شرطَي الوزن والقافية. ويعرف كل من قرأ القرآن الكريم، وألمّ بتاريخ الرسالة والتنزيل أن عرب الجاهلية خشِعت أبصارهم لمّا سمعوا الذِكر، فكانت استجابتهم الإنسانية الفطرية الأولى أن هذا شعر: “بل افتراه بل هو شاعر”. فردّ عليهم الوليد بن المغيرة بقوله: “والله ما منكم أعرفُ بالأشعار، ولا أعرفُ برجز الشعر وقصيده منّي. والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمِرٌ أعلاه ومغدقٌ أسفله، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، وإنه ليحطمُ ما تحته”. وفي تعليق الخلوتي في “تفسير الجلالين”. في قوله تعالى في “سورة الأنبياء”: “ليس المراد بالشعر هنا خصوص الكلام الموزون المقفى قصداً، بل هو أعمّ من ذلك”. تُرى ما الذي حدا بعرب الجاهلية أن يصفوا معجزة البيان بأنها شعر، وهم الذين يقيمون للشعر الموزون المقفى سوق عكاظ، ويكرّمون القصيدة الأفضل في رأي الحضور من “العارفين برجز الشعر وقصيده” بأن يكتبوها بماء الذهب ويعلقوها على أستار الكعبة؟ والشعر الجاهلي “شفوي” تتناقله الرواة. والكتابة ليست مما يميز شعراء الجاهلية، فكيف بكتابة قصائدهم بماء الذهب؟!
ولكن هذا جميعه لا يعطينا صورة واضحة عن “تعريف الشعر”. بل يمكن القول إن ما لدينا، في الغالب، هو “تعريف سلبي” أي ما هو ليس بشعر، دون أن نعرف ما هو شعر. هذا الشاعر المخضرم، الحطيئة، يقول:
الشِعرً صعبٌ وطويلٌ سلّمهُ
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلَمهُ
زلّت به إلى الحضيض قدَمُه
والشعر لا يسطيعُه من يظلِمهُ
يُريد أن يُعربَه… فيُعجمُه!
حسناً يا سيدي الحطيئة! ولكن لم تقل لنا: ما هو الشعر؟
ومن أمثلة التعريف السلبي، أو اللاتعريف قول أحمد شوقي:

والشِعرُ إن لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزان

حسناً، ثانيةً. ولكن: ألا يمكن للنثر أن يقدم ذكرى وعاطفة وحكمةً، أم أن ذلك موقوفٌ على الشعر؟ قُل لي يا أمير الشعراء: ما هو الشعر؟
بقيت الأوزان والقوافي من شروط الشعر عبر العصور حتى ظهر الشاعر الأمريكي والت وتمان فنشر مجموعة من التواليف الجميلة بعنوان “أوراق العُشب” قال إنها “شعر حُرّ” أي شعر يخلو من الوزن والقافية. في “تواليف” الرجل كثير من الذكرى والعاطفة والحكمة، إيحاءً وتضميناً، دفع كبار شعراء عصره “التقليديين” إلى الاعتراف بتلك التواليف شعراً. وقد تبعه شعراء كبار آخرون من العالم الجديد ومن أوروبا القديمة في عراقتها، وما نزال نسأل: ما الشِعر؟
وثمةَ مزيد من التعريفات السلبية، أو اللاتعريفات التي لا تمنع من التساؤل ما هو الشعر؟
يقول الشاعر الأمريكي روبرت فروست المتوفى عام 1963 إن الشعر “هو ذلك الشيء الذي يضيع عند الترجمة”. وهذا كلام صحيح إلى حد كبير ولكن لدينا الكثير من أمثلة الشعر المترجم، قام بها شعراء في لغتهم الأساس، أو أدباء ضليعون في لغة الشعر الذي ينقلون إلى لغاتهم.
وفي جميع الأحوال تشجّع ترجمة الشعر إلى العودة إلى الشعر في لغته الأصل، إذا كان ذلك ممكناً للقارئ. ولا أعرف أحداً ممن ترجم شعراً من لغة غير لغته ادّعى يوماً أنه قدّم في لغته بديلاً عن لغة الأصل. هل ثمة من يدعي أن ترجمة الإلياذة والأوذيسا إلى لغة غير لغتها الأولى قادرة على تذوق ما فيها من شعر كما لو استطاع قراءتها في الأصل؟ وهذا التساؤل ينطبق على ترجمات الأعمال الكبرى مثل “الكوميديا الإلهية” رائعة الشاعر الإيطالي القروسطي دانته الكَييري، وعلى غيرها من الأعمال الكبرى.
ولكن لدينا مثال مهم في العربية هو ترجمة أحمد رامي لمختارات من “رباعيات الخيام”. على الرغم من وجود ترجمات عديدة في العربية لتلك الرباعيات، يرى العارفون بلغة الأصل أنها قد تكون أحياناً أكثر دقة من ترجمة أحمد رامي، لكن مترجمها من الأصل شاعر يتقن اللغة الفارسية كما يتقن لغته العربية. لذا كانت ترجمته ذات شحنة شعرية عالية، أضافت إلى أثرها أغنية أم كلثوم.
كلام روبرت فروست كذلك يقع في باب التعريف السلبي، أو اللاتعريف، إن شئتَ الصراحة الجارحة. ولكن لدينا هذا المثال من الشاعر الناقد أستاذ الأدب الإغريقي الكلاسي، البريطاني أ.ئي. هاوسمن المتوفى عام 1936. يقول هاوسمن في محاضرة، ألقاها في جامعة كمبرج وهي آخر الجامعات التي عمل فيها، بعنوان “الشعر اسماً وطبيعةً” إنه “لا يستطيع تعريف الشعر أكثر مما يستطيع كلب الصيد تعريف الجرذ، فكلانا يعرف الشيء حين يراه”!.
إضافة إلى ما في هذا الكلام من “روح الفكاهة” الإنكَليزية التي لا تتميز بالدفء، في الغالب، فإن صدوره من أستاذ جامعي بريطاني ضليع في اللغات الكلاسية وما فيها من شعر، وشاعر متميز قد يكون آخر شعراء الرومانسية الإنكليز، لهو دليل آخر على الحيرة في إيجاد تعريف للشعر، وإضافة إلى “اللاتعريفات” التي تزيد من حيرة الباحث عن جواب “يشفي الغليل” ونصيحة للمرء أن ينظر إلى الجرذ حين يراه، فذلك هو الشعر، الذي تراه العين فيدركه العقل، ونتوقف عن كثرة السؤال.

عبد الواحد لؤلؤة

أعلى