محمد بن ربيع الغامدي - راقصو المفازة

صرخوا في وجهه: لماذا هنا؟ الوعد بيننا أطراف مدينة الطيبات فلماذا هنا؟ لماذا تُلقي بنا في قلب هذه المفازة الموحشة؟ أعطيناك أموالنا لتأخذنا إلى حيث الحياة لا إلى رملة الموت هذه. تقدم منه أحدهم، أمسك بتلابيبه حتى كاد أن يقتلعه من على الأرض، حذّره من مغبة تركهم في هذا القفر، صاح به والزبد يتطاير حول وجهه: ستموت هنا قبل أن نموت، نعم قبل أن نموت، لن أتركك تعود أدراجك ونحن هنا، إما أن تنجزنا ما وعدت وإما أن أدفنك حيا.

خلص نفسه من أياديهم الغاضبة، أقنعهم أن الوجهة قريبة، مقدار رمية حصاة فقط، ولو كانت الطريق نافذة لأوصلهم بالسيارة، لكنها تنتهي هنا، عليهم أن يقطعوا مسافة قصيرة سيرا على أقدامهم، وعليه أن يعود لتهريب دفعة أخرى من الباحثين عن الحياة، وحتى يبدو صادقا في عيونهم ولو لنصف ساعة فقط، قال لهم: مدينة الطيبات على مرمى حصاة من هنا، من شاء منكم أن يذهب إليها فهذا رأس الطريق، ومن شاء منكم أن يسلّم أحلامه للشكوك فليعد معي وكفى الله المؤمنين القتال.

أغراهم كلام المهرِّب بالسير فورا، تركوه يذهب إلى حمأ مسنون وساروا، ساروا على بساط من الرمل الناعم، رمل إذا حركه الهواء تحرك فدفن كل شيء حوله، المرتفعات والصخور من حولهم لم يبق منها إلا قليل من سوادها، إذا مر عليهم مرّ كأنه المناشير تنحت أقدامهم وسيقانهم، يصب الاحمرار في عيونهم صبا، يملأ أنوفهم، يحمل إلى حلوقهم طعم الرمل الساخن، لم يكن ذلك ليثنيهم عن بلوغ مدينة الطيبات، ساروا سيرا طويلا حتى تصرّم نهارهم والمفازة باقية تطوف بهم من كل الجهات.

جمعهم الليل في حضرة بروز صخري بدا لهم وكأنه حائط صغير تأوي إليه أنفاسهم المتعبة، أو وثن تلوذ به أحلامهم البائسة التي تفقد معناها في هذا الفضاء الأجرد، فكروا في ساعة أو ساعتين من الرقص في تلك الحضرة لكنهم تذكروا حاجتهم للنوم، غدهم يخبئ لهم مسافات مجهولة وأقداما قد أضناها المشي، تذكروا المهرب الماكر الذي قذف بهم نحو هذا المهمه الموحش، أوسعوه لعنا فقد بان لهم ما كان يخفيه تحت وجهه لكن أحدهم قال: من يخون وطنه يخون الناس جميعا.

قبل أن يرتفع عمود الصبح نهضوا، أفئدتهم مثل بوصلة لا تقبل عن الشمال بديلا، هجرتهم مخالفة للقانون، هجرة غير شرعية، ولكن القانون الذي بنى عليهم سدّا سوف يجد لهم حلّا، سمعوا خشخشة تختلط بحفيف الرياح التي اشتدت مع ساعات الليل الأخيرة، مدوا رقابهم ليروا عشرات الهياكل العظمية البشرية تتناثر على المنحدر من تحتهم، ران عليهم الصمت، توقفوا كمن يؤدي الصلاة على الميت الحاضر، تحدّرت دموعهم في خشوع ومهابة رغم أن الهياكل كانت مع كل هبة ريح تبدو مثل أجساد راقصة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى