داليا عاصم - محمد حافظ رجب.. أديب في طي النسيان .. رائد التجريب في القصة القصيرة يرتدي عباءة الثمانين

القاهرة: داليا عاصم

رغم ارتدائه عباءة الثمانين فإن صاحب «مخلوقات براد الشاي المغلي» لا تزال عيناه تشعان تحديا.. إنه المبدع السكندري المشاكس محمد حافظ رجب الذي قال عنه أدباء جيله «مبدع الهذيان»، لكن قاموس أكسفورد ذكره كأهم مجدد في القصة القصيرة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
«طارق ليل الظلمات» معتكفا في منزله الصغير الهادئ في حي الورديان الشعبي، وبعيون الطفل المشاغب وابتسامة متهكمة ولا مبالية بعذابات الماضي، لا يزال يصارع الحياة وتقلباتها رغم وعكاته الصحية المتكررة مؤخرا، إذ لم تعد شرايينه تحتمل قسوة الحياة وقد حاصرته الوحدة بعد موت صديقه الروائي إبراهيم أصلان، فقد كانت تؤنسه المراسلات بينهما، ولعل حرص الأديب السكندري منير عتيبة على التواصل معه يخفف قليلا من شعوره الأليم بالتجاهل من قبل وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب.
بدأ حياته الأدبية في ريعان الشباب بعمر 19 عاما يدفعه نزق جارف للتمرد على واقعه كبائع محمصات في محطة الرمل، أمام سينما ستراند ليحطم القوالب الأدبية في الستينات من القرن الماضي، وجوده في ميدان محطة الرمل وسط باعة الجرائد المعدومين والزبائن الأرستقراطيين ولغات وثقافات مختلفة، كان ذلك الخليط حافزا للكتابة عن متناقضات الحياة، «بالنسبة له فن القص يساعده على إخراج الأفكار والانفعالات التي تدور بداخله»، لذلك ستجد كتاباته اعتمدت على الجمل القصيرة غير المترابطة تضج بالصورة كمشاهد سينمائية ثلاثية الأبعاد والموسيقى والفن التشكيلي فيها استشراف لتشيؤ الإنسان وسيطرة التكنولوجيا. لقد كان مواكبا لأفكار الفيلسوف الألماني الكبير هايدجر، وفلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية التي انبثقت في بدايات القرن العشرين معلنة سقوط الرؤية العقلانية للعالم، فكان رجب مواكبا لأفكار هوركاهيمر وماركيوز وأدورنو وهابرماس دون أن يدري! ولا تزال كتاباته تنضح بحداثية هي أقرب إلى ما نراه الآن من القصة القصيرة جدا والقصة «التويترية» في فن القص.
كتب أول قصة له «الجلباب» بدافع أن يخرج عن شرنقة واقعه الأليم، «كانت الكتابة هي السبب في بقائي على قيد الحياة»، ثم كتب لمجلة «أميركا» مقالا بعنوان «وداعا يا أميركا أيتها الحمقاء المطاعة» التي كانت وقتها تؤيد احتلال فرنسا للمغرب، بعدها ألقي القبض عليه والتحقيق معه، قال له الضابط: «لازم مصر تفخر أن فيها بياع بيكتب بالشكل ده»، وأطلق سراحه.
تشكلت ذائقته الأدبية من قراءته النهمة للأدب العالمي، وخصوصا رفاييل ساباتيني، «كنت أحب أقرأ لتشارلز ديكينز وكان يجعلني أضحك بالساعات، وكذلك برنارد شو وديستوفيسكي، كنت أقرأ لعبد الرحمن الخميسي وتعايشت معه بقوة ثم سيطر علَيّ مكسيم جوركي وتملكني ثم تخلصت من هيمنته وتوحدت مرة أخرى مع ذاتي».
أنصفه بعض النقاد حينما وصفوا أسلوبه بأنه «أنضج من جوركي»، ولكنه لم يرَ في ذلك إنصافا، قائلا: «لولا قصصي ما كتب نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل)، فقد تأثر بي والعشرات من بعده كتبوا قصصا ترتدي قبعتي، وما جعلني أشعر بالمرارة والغربة، هو عدم وصول كتاباتي إلى عامة الناس الذين أنا منهم.. لأنها شهادة عن الواقع». وظل يصارع هواجسه، «كنت أعكف كل فترة على تغيير أسلوبي والبحث عن أفكار جديدة حتى أغلق عليهم طريق التقليد».
وقبل تأسيس اتحاد الكتاب، أسس رجب «رابطة أدباء القطر المصري» مع مصور هو زكريا محمد عيسى. يقول: «كنت سكرتير عام رابطة أدباء القطر المصري، أخاطب الأدباء والأعضاء، وراسلنا الصحف واستجابوا لنا. كانت الرابطة تضم عاملا في دكان هريسة (الحلبي)، وعاملا بمطعم (على كيفك) إبراهيم الوردي، ورضوان محمد رضوان، خادم في فندق. كنت أنا القاص الوحيد وكلهم كتّاب أغانٍ»، لم تنجح الرابطة لتعثر ظروف أعضائها، بعدها أنشأ اتحاد الكتاب.
بدأ نجم حافظ رجب في التوهج ومن هنا بدأت متاعبه مع الوسط الثقافي، حيث اتهمه يوسف عز الدين عيسى بأنه سرق منه قصة، ونشرت جريدة القاهرة وقتها تحقيقا كبيرا وقالت إن كليهما نقلناها عن الروسية. تلك العقبة دفعته إلى مسار جديد في فنه القصصي، «حاولت كتابة ما لا يمكن أن يقال إنه منقول أو مسروق، فكنت أغير وأبحث عن صور ومناطق لم يتطرق إليها أحد من قبل». وبروحه المتمردة أسس رابطة أخرى هي «كتاب الطليعة» 1956، كان يكتب ويبيع السجائر في قهوة خواجة يوناني اسمه «فانجلي»، الذي جسده رجب ببراعة في مجموعته القصصية البديعة «مخلوقات براد الشاي المغلي» عام 1979، تصور معاناته مع صاحب القهوة اليوناني، يقول: «(فانجلي) جعلني أكتب عن عبيد الواقع، عبرت عن قهر الإنسان المصري والأجانب عبدة الأموال».
تميز رجب بأسلوبه السريالي والشخوص والعوالم الغرائبية المنسلخة من الواقع الإنساني، ففي مجموعته القصصية الأولى «غرباء 1968» كانت بوادر التجديد واضحة في قصص مثل «المدية» و«جداران ونصف». وفي نفس العام صدرت مجموعته القصصية «الكرة ورأس الرجل»، وهو عنوان القصة التي نشرها في مجلة القصة برئاسة محمود تيمور، فجاءت المجموعة تضم روائع أدبية، منها «الكرة ورأس الرجل»، «مارش الحزن»، «الثور الذي ذبح الرجل»، و«حديث بائع مكسور القلب». وفي ذلك الوقت سانده الأديب الكبير يحيى حقي ونشر له عددا من قصصه في مجلة «المجلة.. سجل الثقافة الرفيعة»، وكتب عنه: «لقد التقيت بفنان يسبق زمانه، تجده يمسك القلم كريشة في مهب الريح، إنه غير من شكل ومضمون وأسلوب ومضمون القصة»، كما قدم له مجموعة «عيش وملح» مع خمسة من كتّاب جيله في الستينات.
وظهر أيضا يوسف السباعي مصادفة في حياة رجب، وكان لهذه المقابلة أثر في تغيير مسار حياته المهترئة في الإسكندرية، يقول: «اعتبر لقائي به التحطيم الأول لإرادة إنسان أراد أن يكون.. فقد عرضت عليه كتاباتي لم يهتم بها في البداية، ثم التقيته في فندق فلسطين بالإسكندرية وطلبت منه العمل، وحكم علي بالعمل كموظف في أرشيف المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب براتب يكاد يكفي للفرار من وحشية والدي، لكن قبلت ذلك لكي أؤمن وجودي بالقاهرة». استسلم رجب للمسار الجديد الذي رسمه له السباعي، وكان يوزع الملفات على الموظفين ويعود لجمعها رغم إبداعاته الأدبية! وهو الأمر الذي لا يزال يؤلمه كثيرا، «وجدت أدباء يدورون في فلك يوسف السباعي، وآخرين أصبحوا عبيدا للنظام الحاكم، وأنا لم أكن أيا من الفريقين».
«نحن جيل بلا أساتذة»، مقولته الشهيرة التي تسببت في عداء الوسط الثقافي له، دفعت نجيب محفوظ لأن يقول له: «ما الذي دفعك لتكتب السريالية؟ وكيف تقول نحن جيل بلا أساتذة؟! توفيق الحكيم أستاذ الكل، وأنا أستاذي سلامة موسى».
يمثل حافظ رجب ظاهرة أدبية في تنوعه وتغييره لأساليبه وصوته القصصي بنعومة فكان أحيانا ما يلجأ إلى الرمزية والواقعية السحرية، ورغم تكراره لرموز معينة كـ«المُدية» و«الرأس»، و«العظام» فإنه كان يكسيها مدلولا مختلفا وجديدا، فالقصة عنده «نحت وتشكيل وبحث في الأعماق، القصة تعطيني سرها، فتخرج من داخلي مشاعر الشعور بالغبطة والصراع والانفجار، لذا هي لم تأخذ شكل السرد التقليدي، والمشاهد الوحشية هي نتيجة ما عايشته من عنف قاهر.. فالوحشية هنا كانت بحثا عن الحل والاستقرار النفسي».
ترجمت أعمال صاحب «الكرة ورأس الرجل» إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وقد قام المترجم الدكتور محمود المنزلاوي بترجمة أعماله، وكذلك هشام مطاوع الذي قدم رسالة دكتوراه عنه وعن كاتب ألماني يكتب بأسلوب مماثل لرجب.
يتابع صاحب «طحالب رمادية سلاحف تئز» الإنتاج الثقافي الآني وكتابات الشباب، لكنه يقول عنهم: «شباب ماحق لم يعرف نقطة الارتكاز.. عندهم ضياع مع (بجاحة).. يرفعون شعار (الغموض هو الحل)، والكل ينصّب نفسه كاتبا وفيلسوفا.. في الحقيقة لا يضيفون شيئا!».
وعن غواية الكتابة وتأثير ثورة يناير 2011 على طبيعته المتمردة، وهو الذي كان مدافعا عن ثورة الضباط الأحرار 1952 ويحث الجموع الشعبية على مساندتهم، قال: «كنت مراقبا وكفى.. وجدت تلقائية الشارع المصري في النزول إلى الشارع وشعرت حقا بالثورة، في 1952 كانت ثورة حظ، أما ثورة يناير فكانت ثورة حق، ولكنها تفتقد القائد والتنظيم والكاتب الثوري الذي (يزغد) الثوار ليفيقوا من غيبوبتهم».
ولا يتوقع صاحب «ظل الحرب.. الألم القبيح» أن تحدث ثورة في الأدب أو انبثاق أدب مغاير لأنه يجد «البشر أصبحوا أسوأ».
لا تزال النزعة الصوفية مسيطرة على صاحب «النبي والبوذية وأهل بيافرا» رغم أنها لم تظهر إلا في قصة واحدة، فعلى مدار 50 عاما عاش حافظ رجب زاهدا متصوفا متقربا إلى الله، ودائما ما يقول: «هو الباقي وهو الحقيقة والخلاص، ولكن علاقتنا لا يمكن التعبير عنها بأشكال الكتابة».
توقف حافظ رجب عن الكتابة منذ 4 سنوات، لكن لديه في جعبته قصصا كثيرة لم تُنشر بعد، وسيرته الذاتية بعنوان «مقاطع من سيرة ميم في سطور»، وبعض اليوميات التي لم تنشر. يبدأ حافظ رجب يومه باكرا مع آذان الفجر، ثم يتابع النشرات الإخبارية، لكنه لا يقرأ الجرائد ومنعها من المنزل.
وفي عام 2011 صدرت «الأعمال الكاملة لمحمد حافظ رجب» عن «دار العين»، وإذا قرأت له أيا من قصصه ستصاب بدهشة كبيرة ممزوجة بالألم أحيانا جراء دقته في تصوير معاني الجوع والقهر المجتمعي والوحشية، بل إنك ستتجرع معاني الحزن.. ورغم ذلك لم يحظَ بقدر كافٍ من التكريم، اللهم إلا جائزة أفضل قاص من اتحاد الكتاب عام 2007 واحتفاء مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية به عام 2012 كرائد التجديد في القصة العربية بمؤتمر وكتيب عنه، والآن يسعى للحصول على منحة من وزارة الثقافة لإعانته على نفقات العلاج، لكن تغيير وزير الثقافة حال دون ذلك، فهل تلبي وزارة الثقافة احتياجات رائد التجديد في القصة القصيرة أم أنها كعادتها ستتخلى عنه كسابق عهودها؟!


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى