د. عبد الجبار العلمي - النسيـان.. قصة قصيرة

( قالت غولدا مائير عندما أحرق المسجد الأقصى :" لم أنم ليلتها وأنا أتخيل العرب سيدخلون "إسرائيل" أفواجا من كل صوب ، لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء فهذه أمة نائمة " ).
الشاشة الصغيرة تعكس صوراً لهيجان جمهور متحمس. المقهى مكتظ بالصخب والصراخ .الهدير يصدع الرأس على الشاشة ، وفي المقهى على السواء. جلست منذ ساعة ، الساعة تشير إلى العاشرة والنصف. قهوتي الممزوجة بالحليب أوشكت أن تنفذ. تمززتها بنشوة طيلة الساعة حتى الثمالة الباردة. دخنت سيجارة..سجائر تسع ..عشر .. لست أدري. لقد شدني الصوت الساحر. لم آبه حتى لدموع الفتاة التي جلست أمامي حين كانت السيدة تشدو : وامني قلبي بالأفراح .. وارجع وقلبي كله جراح. كل انتباهي تركز على الشاشة. ما أسحر صوت السيدة ، وما أروع الغيبوبة.. الله يرضي عليك يا ابني.. أنا بيد الله . لا تقلق بالك.. المهم يا بني إخوتك الصغار. خذ بأيديهم..أنا أعرف أنك رجل..الله يرضي عليك ..الله .. وعادت غيبوبتها. الأم ينخر رئتيها السل البغيض. الطبيب ردك على عقبيك. قال لك
ـ " ليس لدي سرير فارغ لها .. بعد أسبوع عد إلي . لعل ..
ـ شكرا ً
قدم لي شاب كان يجلس بجانبي علبة سجائره إذ رآني أبحث بأصابعي في علبتي عن سيجارة ..لم أنزل عيني من الشاشة .. انتبهت ، ابتسمت له .أخذت منها إحداها. وضعتها في فمي. مددته بها نحو الثقاب الذي أشعله ، وشكرته ، ثم عدت للنظر إلى الشاشة.. تذكرت أن الفتاة التي أمامي .كانت تبكي قبل لحظات. تذكرت بكاء عباس صديقي . صباح اليوم حين سمع في المذياع خبر إحراق المسجد الأقصى . تذكرت ألمه وتمزقه . الحبال القوية تلقى لتنتشلك، ترميك في لجة الغيبوبة ..الكاميرا تلتقط صوراً لهيجان جمهور. قبيلة من قبائل الجرمان في بِدَل من السموكنغ. تقفز وتصفق، وتشق الملابس الأنيقة، وتعود الكاميرا لتصور السيدة التي تشدو كعصفور نادر. ما أروع النسيان .. فلتطولي أيتها الليلة ولتبن لنا الألحان قصور السعادة. شعرت بحاجة إلى بل فمي . مددت يدي إلى الكأس تذكرت أنها فارغة . ناديت على النادل. أقبل مسرعاً.
ـ قهوة إكسبريس من فضلك.
ذهب لينفذ الطلب. لمحته عائداً. ضغط على زر الآلة الحاسبة، وبيده اليسرى الصينية المستديرة تحمل طلبي . ثمة فتاة جميلة سمراء ذات شعر أسود طويل ، واقفة بجانب الآلة ، متكئة على حافة المنضدة الطويلة التي وضعت عليه الآلة. كانت تنظر ببلاهة نحو الجهاز التلفوني المعلق في وسط الجدار . توقف عليها نظري لحظة. أحسست بالنادل يضع كوب القهوة أمامي ، بعد أن مسح الطاولة. رشفت منها . إنها مرة. لم أضع فيها قطع السكر الثلاث التي كانت بجانب الكوب ..نسيتها . حسن. فلأنس العالم كله ، بل فلأفقد الذاكرة أروع .. ركزت عيني على الشاشة من جديد ، ثم بالتالي على السمراء ، فوجدت أحدهم يريد أن يلتصق بها . غازلها .إنه يبتسم. ابتسامته اصفرت حين ابتعدت عنه بجفاء ، صوبت بصري نحو وجه الرجل . كهل يلبس قبعة سوداء. وجهه دميم، غريب ، أشقر اللون . لو كان أقرب لرأيت بوضوح بثوره. ما زال يريد الالتصاق بها ، هي مازالت تبتعد ، تصد
ـ القدس ياأخي ..القدس لقد سلبوا منا القدس . واضيعتاه ..واضيعتاه . صرخ صديقي عباس ، وهو يمسك بتلابيبي بقوة وعصبية ، ثم هدأ قليلاً وأطلق تلابيبي وسقط على أرض حجرة 230 ، ينشج .. أمر اعتدته منه . كذلك فعل حين رأى صورة إنسان عربي محترق بالنابالم نشرتها صحيفة يومية. الفتاة التي جلست أمامي وبكت ، عادت ثانية إلى البكاء . كانت دموعها هذه المرة أكثر انهماراً . قامت بسرعة وبيدها منديل صغير تجفف به الدمع المنهمر.. عند خروجها مرت بجانب الفتاة السمراء . كانت مازالت واقفة بمكانها بحذاء الآلة الحاسبة . لم يتبع نظري الفتاة إلى الباب، توقف عند الكهل الدميم الذي كان يراود الفتاة الجميلة. لقد أخذ يمرر كفه على شعرها المنسدل على ظهرها. راعني أكثر أنها لم تلق بالاً إلى ذلك ، أو أنها ربما استطابت الدغدغة. كانت تحملق ببلاهة وسذاجة في الجهاز التلفزيوني . أحسست باشمئزاز ، وبنوع من الرثاء. الشاب الذي قدم لي السيجارة قبل هنيهات فقد وعيه .إنه يقفز من الكرسي ، يرتفع إلى أعلى ويهبط بقوة ،العرق يتصبب من وجهه ، يصرخ ويهتف بحياة السيدة منتشياً : الله .. الله . زحزحت المائدة قليلاً ، قربت إليها مقعدي متحاشياً ما قد ينتج عن هستيريته . الآخرون لم يعيروا لجنون جاري أي التفات. هم الآخرون ليسوا بأحسن من حاله. الحبال المتينة ملقاة حول أعناقهم .
ـ " السفينة الغرقى من ينتشلها من وسط الأمواج يا أنت ؟ الأمواج عالية خبيثة ، والحبال غير متينة، وليس على الشاطيء من يقوى على إنقاذها حتى وإن كانت الحبال قوية . الكل مقتول على صخور الشاطيء ياصديقي. الكل محفور الأعين والرأس ، النورس أكل الأعين ومحتوى الرأس".
قال هذا صائحاً ،مجدوب دخل المقهى مخاطباً أحدهم .. لم يلق بالاً إليه ، بل لم ينتبه إليه أحد على الإطلاق . تلفت يمنة ويسرة ، وخرج وهو يلوح بعصاه.
مددت يدي إلى السيجارة التي كادت تحترق كلها وهي موضوعة على المنفضة. أخذتها ..أطلت جذب الدخان .أحسست بألم خفيف في رئتي اليسرى ،لعله من أثر المرض القديم .ضغطت على العقب في الإناء النحاسي الصغير لأطفئه،أخذت كوب القهوة ، احتسيت منه. إنها ما زالت مُرة حتى بعد أن وضعت فيها قطع السكر الثلاث. تذكرت الشابة السمراء. نظرت ناحيتها ، فوجئت بأنها تبادل الكهل الأشقر الابتسام. ذراع الكهل اليسرى تسللت إلى كتفها الأيسر ، شكراً للظلام وانشغال الآخرين عن كل شيء سوى متابعة الغناء والألحان على الشاشة . شعرت أنني الآن أكثر حاجة إلى النسيان ،نسيان كل شيء . كل شيء . الأم المريضة بالسل ،الإخوان المحتاجين إلى الإعالة .مرتبي الشهري الضئيل . الصديق عباس .. نفسي أيضاً ، آه ما أروع أن ينسى الإنسان نفسه، سقط الجار المتحمس من على كرسيه على الأرض بعد أن وهنت قواه ، ودار رأسه .. أحدث ضجة باصطدامه بالمناضد ، سقطت إحداها بما عليها . اندلقت القهوة المتبقية في الكؤوس . احتج بعضهم . قام الشاب بصعوبة ، اعتذر وأشار إلى الشاشة مبتسماً . ثم عاد الجمع إلى الانغمار في السهرة.
مرة أخرى جذبت بصري السمراء الواقفة بجانب الماكينة ،إنها تبادل الكهل الكلام في انسجام . لكن انظر إن في عينيه مكراً واضحاً ، مكر الصائد الذكي .أنت لا يخفى عليك مكر أولئك .. إنها فتاة ساذجة ، عيناها تقولان ذلك ، وجهها البريء. ابتسامتها الوديعة . لعلها نزحت قريباً من قبيلة من قبائل الإقليم. إنها لا تكف عن الابتسام. كادا ينسيان السيدة التي تغني كعصفور نادر .. فلينسيا ، ولتنس أنت كل شيء :الأم ، الإخوان ، الحريق ، عباس ، السمراء الجميلة ، نفسك .. كل شيء . كل شيء.
أحسست برغبة في الماء ( جرسون .. كوب ماء من فضلك ) ، أفرغت الماء في جوفي . انتعشت ، السيدة أنهت المقطع الأخير من الأغنية الطويلة . الجمهور يصفق .. يصرخ .. يطلب من السيدة إعادة المقطع ، السيدة لا تبخل ، تشير إلى الأوركيسترا أن تعيد لحن المقطع . جمهور المقهى بفرحة طفل يعلن استحسانه للطلب المجاب ،جاري استعاد نشاطه ..إنه يضرب على المنضدة الخشبية بكلتا يديه، الصداع يملأ الرأس ، يحفره كآله حفر حادة .أنزلت عيني من على الشاشة قليلاً . توجهت بهما نحو مكان الشابة السمراء ، إنها ليست هناك ، تفقدتها بعيني في أرجاء المقهى . لقد اختفت . تفقدت الكهل القبيح . إنه هو الآخر اختفى ، اختفيا معاً . كان الكل في غفلة . الكل في غيبوبة اللحن الساحر .نهضت فجأة ودفعت للجرسون ثمن القهوتين . خرجت . في الشارع استقبلني الهواء النقي، وضوء المصابيح الأنيقة المصطفة على الرصيف ، وفي الحي الذي أقطن فيه ، لم أجد سوى نافذة مضيئة ، إنها نافذة غرفة صديقي عباس ، لعله لم ينم بعد ، صعدت الأدراج المفضية إلى غرفته ،وجدت الباب نصف مفتوح ، والصديق منهمك في الكتابة عن إحراق المسجد الأقصى .


د. عبدالجبار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى