عبد السلام بن خدة - البحث في أصول المحكي البوليسي الحديث (" أوديب " نموذجا)

الإهداء: إلى العزيز الأستاذ عبد الوهاب السحيمي


"رحلة الاكتشاف الحقيقية لا تتجلى في البحث عن أحياز جديدة ،لكن تكمن في تبني رؤية جديدة."
مارسيل بروست


درج النقاد الغربيون الذين أنجزوا أبحاثا في الرواية البوليسية على رَدّ أصل ( أو أصول ) محكي التحقيق المعاصر إلى نصوص – نماذج منتقاة، وهي على التوالي:

" أوديب ملكا" لـ " سوفوكل"،
التوراة،
" زاديغ" (أو الحكاية الشرقية) لـ "فولتير".

وفيما يلي عرض ومناقشة لمسرحية "أوديب ملكا" لـ "سوفوكل" باعتبارها النص الأقدم زمنيا.

تعتبر المسرحية اليونانية "أوديب ملكا" لـ "سوفوكل" (496-406ق.م)، في نظر العديد من مؤرخي النوع البوليسي، بمثابة " أول عمل بوليسي في الثقافة الغربية"(1)"يقيمون"أوديب" كأول متحري (أو محقق) في التاريخ {الأدبي}"(2). وفيما يلي أهم تمفصلات المحكي السوفوكلي:

(...) يموت حاكم "طيبة" اليونانية الملك "لايوس" في ظروف غامضة.

يُحاصِر وحش عظيم البأس (sphinx) سكان المدينة ويأكل كل شخص يعجز عن حل مسألة اللغز التالي : " في الصباح أمشي على أربعة (أرجل)، وفي الظهيرة أمشي على رجلين، وفي المساء أسير على ثلاثة أرجل. من أنا؟".

"أوديب" الغريب القادم إلى مدينة "طيبة" بتقديمه للإجابة المناسبة "أنا {الإنسان} " يفلح في تجنيب المدينة وتحريرها من خطر الوحش.
يُجازي أهل المدينة "أوديب" نتيجة هذا الإنجاز بتولية عرش "طيبة" و بالزواج من " جوكاست" ، أرملة الملك القتيل.
تُصاب نفس المدينة سنوات فيما بعد بالطاعون، ويحصد الداء أرواحا كثيرة، نتيجة الجريمة غير المعاقب عليها، (؛ معرفة مَنْ قتل الملك "لايوس").
يلتزم "أوديب" بفك لغز هذه الجريمة لإنقاذ مدينة "طيبة" مرة ثانية، من خلال طرح السؤال: " مَنْ قتل "لايوس"؟"
سيعلم " أوديب" في ختام تحريه الحقيقة الصارخة التالية: " أنا {"أوديب"} الفاعل".
يقوم "أوديب" وكنتيجة لإرتكابه جُرْما مزدوجا(؛قتل أبيه واقترانه بأمّه الملكة "جوكاست")،بفقأ عينيه (...) .

يمكن القول بأن هذه التراجيديا – مع التسليم بأنها ليست محكيا سرديا- تحتوي على بنية حَدَثية هي شبيهة بالخطاطة البوليسية التي تحقق في جريمة.

وفيما يلي بعض العناصر البنيوية و الشكلية التي تُقرّب هذه التراجيديا بشكل كبير من بنية النص البوليسي:

تَوَفر "أوديب" على ذكاء مميز مَكّنه من حل اللغز الأول (؛ لغز الوحش)، انكبابه على تمرين هيرمينوتيكي (؛ بحث وجمع الأدلة و استجواب الشهود...)، وإن كان انطلاقا من نقطة ثابتة ؛ فضاء قصره،
توفر النص التراجيدي على بنية حدثية، وهي بالمناسبة مكون أساسي في النوع البوليسي، احتواء المحكي السوفوكلي على عنصر المُرْبكة (puzzle) (3)، تقديم حل اللغز كنجاح لسير التحقيق الداخلي، و للمعرفة التحليلية التأويلية التي أبرزها " أوديب" نفسه.

رغم وجود تناقضات حدثية (4) داخل المحكي السوفوكلي ( مثلا فيما يتعلق بهوية القاتل...)، فإن ذلك لم يحل دون اعتباره "أول عمل بوليسي في الثقافة الغربية" و النظر إلى بطله كـ " أول محقق [بوليسي] في التاريخ".


لكن ما السر في وجود كلمتي " الوحش" و "طيبة" في ثنايا هذا النص المسرحي؟ هل يتحدث "سوفوكل" عن "طيبة" المصرية وعن "وحش الجيزة" أم عن مدينة ووحش إغريقيين؟

الفضول و الرغبة في كشف هذا السر قادانا إلى استطلاع آراء مجموعة من الباحثين الغربيين الجادين كـ " إيمانويل فيلوكوفسكي" و"سيجموند فرويد" و"ماري ديلكور" و"بيرنار دوفورج" و " بيرنار ليتنا"، الذين أنجزوا دراسات متميزة يمكنها- في نظرنا- أن تقدم لنا إجابة شافية للإشكال الذي طرحناه سابقا.

تتجلى أهمية هذه الدراسات، من وجهة نظرنا الخاصة دائما، في أن أصحابها، وبجرأة نادرة،قد نأوا بأنفسهم إلى حد كبير عن المركزية الهلينية ( أو الأوربية)، ووجهوا بوصلة بحثهم نحو العثور على طرق التبادل الثقافي القديم والمستمر الذي غدّى الفكر الأسطوري الإغريقي العتيق من خلال البحث عن سيرورات معقدة كـ " الإقتراض" (emprunt ) و" التأثير" (influence) و"التداخل" (contamination)، التي أولدت صياغات إغريقية خاصة.

وفيما يلي جملة من النتائج القيمة التي خرجنا بها من خلال إطلاعنا على الخطوط العامة لهذه الدراسات:

وجود مثلث تبادل ثقافي أضلاعه اليونان – مصر – فينيقيا.

الإبانة ، وخاصة بعد اكتشاف الأساطير الأوغاريتية و الحيثية (hittito-hourites)، عن المساهمة الكبيرة للمصادر الشرقية (أو الشرق أوسطية) في تشكيل الميتولوجيا اليونانية، وهو ما دفع بالمختصين في الديانات الإغريقية إلى إعادة التفكير في طرق تكوين هذه الأساطير المهيكلة لها.

التشديد على فكرة أن الثقافة الإغريقية، و بالنتيجة الثقافية الأوربية الحالية ، هي وليدة ثقافات الشرق الأوسط، و الساميين، ومصر في بعدها الإفريقي.

دحض لـ" المعجزة الهندو- أوربية " التي هي مجرد عودة من جديد إلى "المعجزة الإغريقية" الغابرة، والتي تنفي السلسلة الثقافية لألفي سنة من الحضارة و الأدب المتوسطي و الشرق أوسطي.

الإلحاح على ضرورة القيام بعمليات تحيين كبرى (mise à jour majeure) للتراث الثقافي الغربي برمته.

بالإستناد إلى الكتابات السابقة ، خَلُص بحثنا عن مصادر العناصر الأسطورية القاعدية التي تم توظيفها تراجيديا في نص "سوفوكل" المسرحي "أوديب ملكا" إلى الملاحظات النقدية التالية:

البطل التراجيدي "أوديب" في النص السوفوكلي ليس سوى كائن ورقي (أي أنه لم يوجد حقيقة كشخص في بلاد اليونان!). في هذا الإطار تقول عالمة الإغريقيات "ماري ديلكور" في " أوديب أو أسطورة الفاتح":
" لا يوجد ما يؤكد لنا أن أميرا يحمل الإسم " أوديب"، وملكة تسمى " جوكاست" (أو إيبيكاست")،قد عاشا وتحابا على الخصوص" (5).

المسمى إغريقيا "أوديب" في النص السوفوكلي ما هو في الحقيقة سوى استعارة لشخصية مرموقة مصرية الأصل. فالباحث " إيمانويل فيلوكوفسكي" يرى أن مسرحية " أوديب ملكا" التي كتبها " سوفوكل" تصف بدقة متناهية حياة [ الفرعون المصري المُوَحِّد] " أخناتون"(Akenaton).(6)

"القرابة العميقة " بين "الوحش الإغريقي" و " وحش الجيزة"، كما يؤكد "إرنست كزرني" :

" يتعلق الأمر هنا بفرضيات جد مبهمة، لكنها قد تجعلنا مع ذلك نفكر في قرابة أكثر عمقا بين الوحشين المصري و الإغريقي مما قد نتخيله اليوم"(7).

من كل ما سبق يتضح أن مكونات التراجيديا السوفوكلية ( شخصيات، أزمنة، فضاءات..." تمتح من الميتولوجيا الشرقية ( الشرق أوسطية تحديدا). وهذا ينطبق على الكثير من الأعمال الإغريقية التي هي الأخرى وليدة فكر إغريقي نَهَلَ في أصوله من المنبع الشرق الأوسطي ، وفي هذا الصدد يقول الباحث "ل.أ.بينو"(L.A.Binaut) :

"(...) بداية تنقسم الحكاية المصرية لـ "أوزيرس"، التي يبدو أنها مصدر الطقوس الإغريقية ، إلى ثلاثة نقط:

أولا، حقبة مجيدة ومزدهرة، موسومة بالتقدم في الفلاحة، واختراع الفنون ، وسعادة الشعب وفرحه، يعقب ذلك حقبة اضطرابات داخلية، في حين أن "تيفون"(Typhon) المخيف، هذا التنين العملاق ، رمز[ريح] السموم(...)يأتي ليهاجم "أوزريس"،يقطعه إربا ويتركه في صندوق تتقاذفه مياه النيل والبحر؛ و أخيرا مرحلة الانبعاث و التمجيد، حينما تجد " إزيس" بعد بحث طويل " أوزريس"، تجمع أوصاله المقطعة ثم تقام له معابد. إن طقوس (Bacchus) ( اسم أعطاه الرومان لـ " ديونيزوس")، الذي يُنْسب إليه إدخالها إلى اليونان إلى (Orphée) (ابن الإلهة كاليوب) ، و الذي تمنح أشعاره التقريظية الإطار الأولي للتراجيديا، ترتكز مؤكدا على نفس الأسس(...).

إنه إذن نفس المحكي الذي صَلُحَ كنص لأكثر طقوس العصور القديمة شهرة. إنها نفس الثلاثية:

حقبة سعادة تحياها شخصية ربانية، أو مرتبطة حميميا بآلهة ؛ صراع قدري لهذه الشخصية مع كائن مرعب، التي تسند إليه بطيبة خاطر الأشكال الأكثر فظاعة(..)؛ انبعاث هذه الشخصية المغلوبة و المنكل بها من طرف عبقري الشر، وتعظيمها (بناء معابد لها...)

هذه الثلاثية العجيبة كانت ، لنكرر ذلك، جوهر الديانة اليونانية؛ وحدة فكر جد لافتة للنظر تحت تنوع كبير من الأشكال تشهد بذلك بوضوح الأساطير التي تحتويها هي الأكثر قدما، وكل ما نعرفه عن انتقالها إلى اليونان يمكن العودة به إلى فترة كان الاستعمار الشرقي لازال يمارس التأثير فيها. أخيرا ، الذي يشهد أكثر على ذلك ربما لوجود فكرة التعبد (culte) الأولى هنا ، هو أن كل الأساطير البطولية [اليونانية] التي جاءت فيما بعد قد انتعلت نعل هذه الأسطورة الإلهية(...)".(8).

ملاك القول : إن النص " أوديب ملكا "، الذي اعتبره الباحثون الغربيون "النموذج الأصلي" (prototype) للنوع الأدبي البوليسي، ما هو في حقيقة الأمر- وليس في رأينا النقدي هذا إنقاص من إبداعية "سوفوكل" – سوى إعادة كتابة (réécriture) لمحكي قاعدي (récit de base) أزمنته وشخصياته وفضاءاته شرق أوسطية في العمق.نتيجة كهذه، بلا شك، ستصدم بعض الباحثين الغربيين؛ إذن"أثينا" الإغريق هي في جوهرها شرق أوسطية ! وقد لا يتحملون بأن يكون الشرق أوسطيون مصادر لفكرهم وديانتهم. تذكير؛ ألم تكن "اليونان" حتى عهد ليس ببعيد (؛ القرن الثامن عشر تحديدا) مقاطعة إسلامية [عثمانية]!


***

هوامش

انظر كتاب بوالو- نارسوجاك ،الرواية البولسية (بالفرنسية)، مكتبة بايو الصغيرة، 1964،ص. 23
ن.م.ص.23
جاك ديبوا، الرواية البوليسية أو الحداثة (بالفرنسية) منشورات ناثان، 1992،ص206.
شوشانا فيلمان، من سوفوكل إلى جابريسو، أو لماذا البوليسي (بالفرنسية)، مجلة الأدب، عدد 48، 1983 (خاص: الرواية البوليسية)، ص23-42.
ماري ديلكور، أوديب أو أسطورة الفاتح، "مجلة تاريخ الأديان" (بالفرنسية) الجزء 132، 1-3، 1946، ص.185-194.
إيمانويل فيليكوفسكي، أوديب و أخناتون، (بالفرنسية) منشورات روبيرلافون،1999.
إرنست كزرني، بخصوص الوحش،
Loret_0990-5952_1995_bul_9-pt-24.pdf

سوفوكل وفلسفة الدراما عند الإغريق (بالفرنسية) مجلة "العالمين"، السلسلة الرابعة، الجزء 31، 1842.


عبد السلام بن خدة )القنيطرة- المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى