عدي الحربش - خنجر يمان

"الخنجر الذي أردى رجلاً في تاكواريمبو ليلةَ البارحة، الخناجر التي هطلتْ فوقَ ظهرِ يوليوس قيصر، كلها بطريقةٍ ما نفس الخنجر. إنهُ الخنجرَ الذي يريدُ أن يقتل، يريدُ أن يسفكَ دَماً مُفاجئاً"
(خورخيس لويس بورخيس)


1
مطلق الوجيعي رجلٌ ربعة في الطول، لوّحتهُ الشمس حتى تركتْ أثراً لها في وجهِه. هذا العوزُ في الطول ما كان ليحطّ من قدرِه بين الرجال، إذ أنّ عينيه الفئريتين -بحركاتهما السريعة و نظراتهما الحادة- من شأنهما أن تسمّرا أيّ رجلٍ إلى مكانِه و أن تنسياهُ حتى اسمَه. قد تحتارُ في تدبّر الشيء الذي يعلو وجهَه، و قد تستقرُ أخيراً على شيءٍ أقربُ إلى العزيمة، تلك الخصلة التي كانت سبباُ في قرارِه المفاجئ ذاتَ يوم، حينما باع القليل الذي يملك، و انطلق مع نفرٍ معدودٍ من رجالاتِ الرسّ خلف قافلة الملك عبد العزيز، بعد أن سمعوا أنها ستعرّج على البكيرية، في طريقها الطويل إلى الحجاز.

عندما وصلَ مطلق مع رفاقه إلى البكيرية اكتشفوا أن القافلة قد غادرتها منذ ما يقارب الخمسة أيام. تشاور الرجال فيما بيهم، فاختار ثلاثة النكوص على أعقابهم، بينما أصرّ الباقون على المضيّ قدما عبر الصحراء علّهم يلحقون غبار القافلة. بعد طريقٍ طويلٍ و شاق -كادوا أن يهلكوا فيه عطشا- وصلوا إلى المدينة المنورة ليكتشفوا و للمرة الثانية أن القافلة أعجزتهم و سبقتهم إلى مكة. لم يعطفوا أعناق رواحلهم شمالا هذا المرة، إنما يمموا مجلس السديري، رجل عبد العزيز الأول في المدينة، و شرحوا له حالتهم و ما يبغون. عندما تبيّن السديري النجابة في أكثرهم، و استوثق من مقدرتهم على الكتابة و القراءة و التجويد، أوكل إليهم أعمالا مختلفة في بقاعٍ شتّى. هناك من أُرسل إلى الجنوب ليعمل قاضيا أو معلما في كتّاب، هناك من حُمّل رسائل توصية خلف قافلة الملك في مكة. مطلق الوجيعي لم يكن يملك موهبة و لا يفك خطاً، و لذا لم يجد السديري أمامه إلا أن يهبّ الرجل القصير ذا النظرة الحادة خرجيّة متواضعة علها تمكنّه من الإفلات من خناق الفقر و بدء حياة جديدة. أقول (خرجيّة) مع تحرجٍ في استعمال هذه اللفظة، إذ أنها كانت المبلغ الأول و الأخير الذي يستلمه مطلق من السديري.

و لكن -و يا للأسى- وقعَ الوجيعي ضحية سحر أسواق المدينة. عندما خرج من مجلس السديري، انحدر من باب السلام غربا عبر سوق الحدرة. هناك، استروح ضوع التوابل و العطور، و تأمل أشعة الشمس و هي تتخلل الأقمشة الملونة المنشورة فوق أبواب الدكاكين، و تطلع في المشغولات الذهبية و الفضية و المجوهرات. كانت دنيا جديدة لم يعهدها. من الحدرة انتقل إلى سوق القفاصة، و من القفاصة إلى سوق الشروق، و من سوق الشروق إلى كومة حشيفة. تذوق هناك للمرة الأولى الجبن و الطرشي و الزيتون و الزلابية و السمبوسك، و هكذا، و في غضون أسبوع، أنفق مطلق جميعَ ما وهبهُ السديري، ليجد نفسَه فقيراً معوزاً، لا لقمةً يقيمُ بها أودَه، و لا فراشاً يرمي بجسمِه فوقَه. فكّر في أن يبيع بندقيته المُعطّلة، إذ أنه لم يكن يعلقها سوى تمظهرا و هيئة، و لكن من ذا يشتري بندقيةً خرساءَ لا ترمي حتى بالفشق؟ اشتد الجوع بمطلق، و اضطر إلى ينام في الشوارع و يشحذ في الأسواق، إلى أن التقى بأبي إبراهيم الشجيّان في ذلك العصر الذي غيّر قدريّ الرجلين إلى الأبد.

كان أبو إبراهيم يطوّف في سوق الشروق عندما وجد الوجيعي متذريّا بظل أحد الحيطان. عاينَ أبو إبراهيم الرجل المستلقيَ أمامَه، و بالأخص أولى اهتماما زائداً بالبندقيةِ الملقاةِ جانبَه. أزاحَ الوجيعي طرف الشماغ عن عينيه و هتفَ بالرجل:

"تشتري البندقية؟"
"الأخ من القصيم؟"
"كيف عرفت؟"
"القصيمي لا يخطئ ابنَ عمّه."

اعتدلَ الوجيعي على قدميه، بينما مدّ الرجل الممتلئ يدَه مُصافحاً:

"أبو إبراهيم الشجيّان."
"مطلق الوجيعي".
"و النعم. هل أصبتَ غداءاً يا مطلق؟"
"ليس بعد."
"تشاركني غدائي؟"
"لا أملك ريالاً."
"أنتَ ضيفي، كما أنّ الموضوع الذي سأعرضه عليك من شأنهِ أن يسدّ فراغ جيبِك."

انطلق الرجلان منحدرين نحوَ الناصية المقابلة، حيثُ توجدُ صندقة أبي زكي الآهلة بالمُرتادين. هناك، سحب الرجلان كرسيين من الخشب، و بعد دقائق، وضع أبو زكي أمامهما صحنينِ يمتلئان بالأرز و العدس و اللحم. أطبق الوجيعي بكامل يده على الرز و أنشب بأظفاره رغم سخونة اللحم.

"سألتني قبل قليل إن كنتُ أنوي شراء البندقية، و الحقيقة أنك لو وضعتها في يدي لن أعرفَ ماذا أفعل بها و لا كيف أمسكها، لكني أحتاجُ رجلاً يحملُ السلاحَ و يستطيعُ أن يستعملَه وقتَ الحاجة. أنا تاجر من المذنب، وهبني الله سعة بالرزق، أجيء كل سنةٍ إلى الحجاز فأشتري بعضَ البضائع، أبيعها في نجد و الأحساء، حيثُ ترتفع أثمانها. في العادة، يرافقني ابني إبراهيم، يعاونني و أتقوّى به، لكنه مشغول هذه السنة مع زوجته الحامل. سأغدو جدّاً للمرة الأولى، كدتُ أن أؤجل سفري من أجل أن أحظى برؤية حفيدي الأول، و لكن الرزق و الحلال يحتاجان من يتعدهما، إلى من لا يُخضع عواطفه و أهوائه في تأجيلِ مواسمِهما. إن قبلتَ عرضي يا مُطلق و رافقتني كدليلٍ حتى المذنب، وهبتكَ سبعينَ ريالاً ها هنا الساعة، و لك ضعفها حين نصلُ المذنب. ماذا قلتْ؟"

نفضَ مطلق يديه و تطلعَ في وجه التاجر الموسر. ها هو الرزق يسقط عليه من حيث لم يحتسب. حمدَ اللهَ أن ألقى بدربه بهذا التاجر قبل أن يبيع بندقيتَه. تساءل في سره ماذا سيقولُ التاجر لو علم أنه يلقي بكل هذه النقود في سبيل استئجار دليلٍ بندقيته لا تعمل؟

"متى تُزمع السفر؟"
"غداً إنِ استطعنا، خيرُ البرِّ عاجله. ماذا تقول؟"
"توكلنا على الله."

شدّ أبو إبراهيم بحمّاسٍ على يدِّ مطلق. أخرجَ من جيبهِ سبعينَ ريالاً وهبها الوجيعي. طلبَ منهُ أن يوافيه قبلَ الظهر في محلّ أبي مزيد غرب سوق القفاصة.

انصرف مطلق حاملاً بندقيته، و جيبهُ يمتلئ نقوداً. هذه إذن ليلته الأخيرة في مدينة الرسول! ماذا يجدرُ بهِ أن يفعل؟ خطر ببالهِ أنهُ لم يقمْ بعدُ بزيارةِ المسجد النبوي الشريف منذ قدومه المدينة. قررَ أن يصلي العشاءَ في الحرم. عندما صدح صوتُ الإمام بالإقامة اصطفّ الوجيعي جنباً إلى جنب مع باقي المصلين. عندما سلّم، انتبذَ ركنا قصياً في المسجد و أسند ظهره فوق أحد أعمدته. أخذ يسترجعُ رحلته إلى المدينة و الوقت القصير الذي قضاه فيها. ماذا حلَ برفاقه الآن؟ لا بدّ أنهم وصلوا المكان الذي عُيّنوا فيه و باشروا وظائفهم. وحدهُ هو من سيبقى خاملاً سادراً في دروب حياته، بينما هم يُثرون و يزدهرون مع الوقت. ما الفرق بينهُ و بينهم؟ ما الفرق بينه و بين ذاك التاجر الممتلئ شحماً: إبي إبراهيم الشجيّان؟ كل ما يحتاجهُ هو ضربة حظٍ تنتشلهُ من فاقته و سوء طالعه، و من بعدها سيعملُ كما يعملون. هزّ الوجيعي رأسه عند هذه الفكرة: نعم، سأعمل و أتاجر و أزدهر، فقط اعطني رأسَ مالٍ كالذي يحملهُ النشيّان فوق نياقه. لو أنّ أبا إبراهيم يموتُ في الطريق! لو أنهُ يقضي نحبهُ و أمضي بما ابتاعَه!

قفزَ مطلق كالملدوغ عندَ هذه الفكرة. بادرَ بالخروجِ من المسجد و هو لا يصدقُ أنّ فكرة مثل هذه خطرت بباله: يقتلُ أبا إبراهيم! لا بدّ أنه نفث من الشيطان! لا بدّ أنها وسوسة و نازغ! توقفَ أسفلَ إحدى بوابات الحرم و أخذ يمسحُ فوق جبينهِ بعصبية. كانت قطراتُ العرقِ تتفصدُ تباعاً من منابتِ شعره. الشيطانُ لا يدخل المسجد. رددَ مطلقُ في سرّه. كيف خطرتْ تلك الفكرة في عقلهِ؟ كيف خطرت و هو جالس في حمى الحرم؟ بادرَ مطلق إلى الحمّامات حيثُ توضأ ثانيةً. عندما خرج تطلّع في قبة الفلك و ما يرصعها من نجوم. ردد مُطمئِناً نفسَه: كيف أقتله و البندقية لا تطلقُ رصاصة واحدة؟ هل أنهالُ على رأسهِ بكعبها؟ هذه ميتة أبشع من أن تُرتكب. لا أملك ما يكفي كي أبتاع بندقية جديدة. إن قتلته، فأنا فاعل بخنجر. مدية بيضاء تنغرز كالبارقِ في قلبه و ينتهي الأمر. يجب أن أقرر الليلة. أفعلُ أو لا أفعل؟ و لكني لا أستطيعُ أن أبتّ بالأمر. غير صحيح، لا يجبُ أن أقرر الليلة. أستطيعُ أن أعطي نفسي مهلةً. أستطيع أن أبتاع الخنجر صباح الغد، و قد أستعمله أو لا أستعمله. أمامي كل المسافة الفاصلة بين المدينة و بين المذنب كي أقرر. نعم أشتري الخنجر، و في الطريق سأقرر.

2
صباح اليوم التالي، انطلق مطلق قاصداً سوق الحدرة. هناك، في ركن الصاغة و العطارين، عثر على بسطة بائع الخناجر عبده اليمني. كان قد لمح البسطةَ عَرَضاً و هو يطوّف بالأسواق قبل أسبوع. تأملَ الخناجر و الجنبيات المتمددة بكسلٍ فوق الخرقة البيضاء، و كأنها تنتظرُ من يلتقطها. جذب انتباههُ خنجرٌ ذو مقبض صيفاني و زهرتين من الذهب الحميري أعلاهما سقطت و لم يتبق سوى أثرها. استلّ مطلقُ النصل من عسيبه، و أخذ يتأملُ برضاً العاير الممتد للأسفل و كأنه جرحٌ طوليّ في جسد المعدن. سرعان ما تزعزع هذا الرضا عندما لاحظ اعوجاجا و كسراً واضحين قرب الذبابة و كأن جزءاً من النصل قد فُقد.

"بكم تبيعُ الخنجر؟"
"مئة ريال."
"مئة على خنجرٍ مكسور؟"
"ما زالت الذبابة حادة، ضعه فوق يدك، و سينغرز كناب أفعى."
"مئة ريالٍ كثير."
"هذا خنجر يمان."
"خنجر يمان!"
"نفس الخنجر الذي استعمله كليب حينما نحر تبّع اليماني."

ابتسم الوجيعي. كان يعلمُ أن بائع الخناجر يستخفُ به، و لكن فكرة أنّ هذا الخنجر يرتبطُ بتاريخٍ طويل يرجع إلى تبّع اليماني راقته، حتى و إن كانت كذبةً مختلقة. الخنجر الذي كان أداةً في نجاح كليب سيكونُ أيضاً أداةَ نجاحٍ له. هكذا حدث نفسه و هو يقلبُ الخنجر بين يديه و يتلمس ذبابته. هي حادة كما قال البائع.

"لا أملكُ في جيبي سوى سبعين ريالاً. إن رضيتَ بها اشتريتُ الخنجر."
"سبعون قليل!"
"هي كل ما أملك؟"
"توكلنا على الله إذن."

تمتْ البيعة، و تحزّم مطلق بالخنجر اليماني، و مضى قاصداً محل أبي مزيد غربَ سوق القفاصة. لم يحدّث نفسَه مؤنبّا بخصوص انفاقه كل ما يملك في سبيل شراء الخنجر. الخنجر يستحق، بل هو أثمنُ من السعر الزهيد الذي أنفقه في شراءِه، كما أنه سيكونُ أداةً ناجعة في تحصيلِ ثروة تساوي سعرَه مئات المرات. ها هنا هزّ مطلق رأسهُ منزعجاً: أنا لم أقرر بعد.

عندما وصل محل أبي مزيد، استقبله النشيّان بوجههِ البشوش و جسده الممتلئ. وراءهُ كانت تقفُ ثلاث رواحل محملةٌ ببضائع مختلفة.

"سعيد برؤيتك. كنتُ أعلمُ أنك رجلٌ يُشدّ بهِ الظهر. عندما مضيتَ بالأمس، أخذتُ أحدثُ نفسي قائلاً كيفَ يمكنُ أن أعطيَ شخصاً لا أعرفهُ سبعين ريالاً و أنا حتى لا أعلم عنوانه! لو أنه رجل غيرك، لمضى بعيداً بالنقود، و لذهبت السبعون مع الريح دون أن تؤدي الغرض الذي أنفقتها لأجله. و لكن ها أنت ذا، و ها هي الجمال، و الطريق طويل، فلنتوكل على الله."

أمسك الرجلان أخطمة الرواحل، و انطلقا مسافرين عبر طريق زبيدة. عندما خرجا من المدينة استقبلتهم الصحراء بحجارتها و رملها و نفوذها و اتساعها، و بتراميها غير المحدود حيثُ يطمح البصر. أحسّ مطلق بخفةٍ في صدرهِ و هو يرى الأفق الممتد و يحسُ بالريح الترابية تلاعبُ بصيلاتِ شعره. المدة التي يملكها كي يبتَّ في الأمر تساوي الصحراء في اتساعِها. عندَ أول توقفٍ لهما، أخرجَ أبو إبراهيم زاداً من متاعه، و شارك مطلقاً طعامَه و ماءَه. عندما هبط وقت الصلاة، توقفا و صليا الفريضةَ جمعاً و قصراً. عندما هبط الليل أناخا الرواحل و ناما تحت ذراها. كان أبو أبراهيم رفيقَ رحلةٍ مثالي، لا يبخل لا في طعامه و لا في كلامِه. قالَ لمطلق ذات مرة و هما يقتربان من الحناكية:

"التجارة سهلة، و لا تحتاج غير ملاحظةٍ و دربة. التاجر المثالي هو من يخبرُ طباع الناس، يخبرُ مواسمهم، يخبرُ عاداتهم، أكلهم. خذني أنا مثلاً، لم أترك المدينة و أسافر بك عدواً نحو القصيم إلا كي أستبق موسم الحج و أمطر أسوق نجد و الأحساء بالبضائع الغربية قبل أن يرجع بها باقي الحجيج. النقطة الثانية قد تضحكك، و لكن صدقني هي بالغة الأهمية. يجب أن تعرف أطباع أهل كل مدينةٍ و ما قد يروج بينهم. أهل بريدة يحبون بطونهم، و لذا سأبيعُهم الناقة الأولى بما تحمله من التوابل و المرطبان و الطعوم. أهل عنيزة يحبون التزيّن و الستر، و لذا سأبيعهم الناقة الثانية بمشالحها و عبيّها. أهل الأحساء يحبون نساءهم، و لذا سأبيعهم ما تحمله الناقة الثالثة من الأقمشة و المجوهرات و العطور."

رغم الأريحية و الأَنَسة البادية في حديث أبي إبراهيم، إلا أنهُ لم يقع موقعاً حسناً في نفس الوجيعي. تساءلَ مطلق في قرارةِ نفسه: لماذا يخبرني أبو إبراهيم بكل هذا؟ لماذا يكشف أمامي أسرار تجارته؟ لو كنتُ غريماً أو مقتدراً لخبأ عني هذه الأسرار. فقط لأني فقير معوز لا يتورع عن كشف أكثر أسرارِه أهمية أمامي. فقط لأني ساقط في عينيه، فقير، في الحضيض، لا يستطيعُ أن يتصورني منافسا أو مصدر تهديد.

توقف الرجلان أمام بئر ماءٍ شمال الحناكية. أنزلَ أبو إبراهيم قِربَ الماء كي يملأها، بينما أخذ الوجيعي يراقبهُ من الخلف و هو يحسُ بمثل الهدير يملأُ عقله. كانَ المكانُ مثالياً لارتكابِ الفَعلة. الصحراء منبسطة على مرمى البصر و لا يوجدُ شاهد أو عابر. الأحجار السوداء تستدير و ترتفع حتى سرة الرجل، لن يجدَ طريقةً أفضل للتخلص من الجثة. طعنة كالبارقِ في وتينه، و ينتهي الأمر. يجبُ أن يكونَ الأمر سريعاً، و نظيفاً. شدّ الوجيعي يده حول مقبض الخنجر و مشى باتجاه النشيّان: طعنة واحدة و ينتهي الأمر.

التفتَ أبو إبراهيم، و إذا بالخنجر يهوي على رقبته. أرادَ أن يصرخ، و لكن المعدن الباردَ أخرسَ حُنجرته. أحسَ بالنصل ينغرز في لحمه. أحسَ بذبابته تصطدم بشيء أملس كالعظم ثم تنحرفُ ممزقةً محطّمة. سقط على ركبتيه. أحسَ بطعم الدم يملأ حلقه. لم يشعر بالألم. لم يفكر في أهله و لا داره و لا حفيده. شعر فقط بشيء واحد، بالكره الجارف تجاه الرجل الواقف فوقه، الرجل الذي سلبه حياته بهذه الفُجاءة و هذه العبثية. فيما يشبهُ الجهد الأخير، طوّح بيديه ناحية الوجيعي و جذبه إلى الأسفل. سقط الأخير متكوّما فوق النشيّان. اقتلعَ النشيّان الخنجر من رقبته و غرزه في خاصرة قاتله. قفزَ الوجيعي متألماً. أمسكَ بتلابيبِ أبي أبراهيم و دفع بجمجمته فوق أحجارِ البئر. أعاد الأمر مرةً و ثانية و ثالثة. لم يتوقف إلى أن توقفت جثة القتيل عن الحركة. رفعَ الجثة و رماها في غياهب البئر. اقتلع الخنجر، و رماه في البئر. الهدير لا يزال مستمراً. قلبه يخفق بعنف. أهذا هو الخنجر اليماني؟ ضربة واحدة و ينتهي الأمر! أحسَ بغصةٍ تملأ حنجرته. أحسّ بشيءٍ مرّ كالبكاء. نفض ثوبه و راحتيه، ثم التفت نحو الخلف، ليجدَ الرواحلَ قد تفرقت بعد أن أفزعتها الجلبة. عدا نحو الرواحل و أمسك بخواطمها. ربطها ببعضها، ثم غادر سريعاً تاركاً المكان.

ماذا أخبركم عن الوجيعي بعد تلك الحادثة؟ لقد بقيتْ نصيحية أبي إبراهيم حاضرةً في عقله، و لقد اختبرها و عاين نجاحها. في عنيزة، باع المشالح و العبيّ. في بريدة، باع التوابل و البهار. جنى مالاً كثيراً يمكنهُ من ابتياع منزلٍ جديد و بدء حياةٍ جديدة. لم يتوقف، و إنما يمم شطر الأحساء بالناقة الثالثة و ما تحمله من بضائع. كان يريدُ أن يبتعدَ قدر الإمكان عن المذنب و القصيم. في الأحساء، باعَ بضاعته على تجار الأقمشة و العطور و المجوهرات و حقق أموالا طائلة. أحد هؤلاء التجار كان رجلاً مُوسراً يشتغل في الأقمشة و يُدعى سالم البقّاز. توطدت عُرى الصداقة بين البقّاز و الوجيعي، و خصوصاً بعد أن ساعد الأول مطلقاً في ابتياع بيتٍ جديد و أشركه في تجارته. هذه الصداقة توطدت أكثر حينما تزوج مطلق أخت البقّاز ليصبح الثاني صهراً له. لقد ارتفع نجمه في الأحساء، و ها هو ينال سعة في العيش بعد سنوات من التشرد و التيه. لقد كانت الأحساء جنة مطلق التي حلمَ بها ذات يومٍ و هو يتضورُ جوعاً في مسجد الرسول.

الصحراءُ واسعة و ممتدة، و الليلُ أوسعُ و أكبر، و النجومُ تتطلعُ بانتباهٍ إلى الأسفل. وسط هذه الصحراء هناك بئرُ ماء. وسط الماء جثةٌ تتعفنُ ببطء. بقربِ الجثة خنجر يماني يتطلعُ إلى النجوم و تتطلعُ إليه. يتطلعُ و ينتظر وسط الماء. يتطلعُ و ينتظر وسط الليل.

3
انتهى موسم المربعانية، و تقضّى نوءُ الشولة، و تكوّم الضبابُ كتلاً تسبحُ بين البيوت و الشوارع. أحد هذه البيوت بيتُ سالم، و الذي كان عامراً بالضيوف حتى ساعةٍ متأخرة من الليل. ودّع سالم آخر ضيوفه، و أخذ يحدقُ بقلقٍ ناحية السماء. قال مخاطباً صهرَه:

"يظهرُ أنها ستمطر. لمَ لا تتريثُ حتى يعتدل الجو؟"
"الوقتُ متأخر و أختك تنتظر."

قالها الوجيعي و هو يتدثر بعبائته و ينطلقُ خارجاً من بيت صهره. أخذ يمشي بين البيوت قاصداً داره. كان البردُ مُحتَملاً لولا الريح الشمالية التي تهبُ بين وقتٍ و آخر فتزيدُ من قرصةِ البرد. خيّلُ لمطلق أنه يمشي فوق قمة جبلٍ بسبب قطع الضباب السابحة كالغيم. سرعان ما بدأت رشّات من المطر تبللُ وجهه. كانت البيوت مغلقة و الدروب خالية، إلا أنّ مطلقاً أحس بشعورٍ غريب يسري في مؤخرة عنقه و كأنّ أحداً يتبعه. التفتَ إلى الوراء فخيّل إليه أنهُ يرى رجلاً ملثماً يختبئ آخر الشارع وسط قطعة من الضباب. انحرف يميناً مع أول الدرب، ثم شمالاً، ثم التفتَ معايناً، فإذا بالرجل لا يزالُ يتبعه. فكر إن كان يحسنُ به أن يرجع إلى بيت صهره، و لكنه في الأخير عقد العزم على المضي قِدماً تجاهَ داره و إن كانت بعيدة. انحرف بجسده نحو الجانب الأكثر إضاءة و بدأ يمشي بخطى أسرع. سمع صوت خطوات الرجل تزدادُ إلحاحاً لتتحول إلى عدوٍ محموم. التفتَ فزِعاً، فإذا بالرجل يرتمي فوقه، و يدفعهُ بعنفٍ نحو الجدار شاهراً سلاحَه. أخرج مطلق ما معه من نقود، و أراد أن يستجدي قائلاً أنها كل ما يملك، و لكن لسانه تصلبَ فجأة، و عيناه جحظتا رعباً، بمجردِ أن وقعتا على الخنجر المُشهر فوقَ وجهه: نفس الخنجر اليمان!

دارت الدنيا في عيني الوجيعي، و أحسّ بالضعف يسري في أطرافه، إلى أن تهاوى متهالكا نحو الأرض. فجأة، علا صوت شرطيٍ من الجهة الجنوبية، ليفلتَ الرجل خناق مطلق، و ليعدو هارباً وسط الليل، تاركاً الخنجرَ وراءَه. ازداد وقع المطرِ شدةً، بينما حاول مطلق أن يسترد أنفاسه و يتمالك أعصابه. زحف بإعياء تجاه الخنجر و أخذ يتأملهُ بعينٍ لا تصدق ما ترى: كان النصلُ مكسوراً قربَ ذُبابتِه، و كانت الزهرة العُليا مفقودة من موضعها.

اقترب الشرطي و مدّ يدَه معاوناً على النهوض.

"البائس! أكان ينوي سرقتك؟ حمداً لله أن كنتُ عابراً من هنا و إلا لحدثَ ما لا تُحمد عقباه. هل تبينت الرجل؟"

"كان ملثماً."
"الملعون يملك ساقيّ نعامة. لا جدوىً من ملاحقته الآن. هذا الخنجر له؟"
هزّ مطلق رأسه.
"أعطني إياه، هو الدليل الوحيد الذي نملك ضده."

سلّم مطلق الخنجر.

"الشوارع لم تعد آمنة. هل أنتَ بخير؟ هل تريد أن أصحبكَ إلى دارك؟"
"أستطيع أن أواصل وحدي."

كان مطلق يحتاجُ إلى فسحةٍ من الوقت كي يتأملَ في عقله الحدثَ الغريب الذي جرى له. كان الأمر أشبهَ بالحلم. أخذ يسير في الدروب المظلمة قاصدا داره و يداه معقودتان حول صدره. أخذ يسترجع و يفكر و يحاول أن يفسر. من هذا الذي هاجمه الليلة؟ قاطع طريق؟ مجرد سارق؟ طالب ثأر؟ قريبٌ للنشيّان؟ كيف انتهى الخنجر إلى يده؟ و كيف عثر عليه هنا في الأحساء؟ الأمر مستحيل و لا يُصدق. لقد ترك الخنجرَ قبل شهور، أسقطهُ في بئرٍ تبعدُ مئات الأميال، في الجانب الآخر من الأرض. حينما فعل، لم يره أحد، يستطيعُ أن يقسم على ذلك. كيف استطاعَ الخنجر أن يرجعَ إليه؟ الأمر بالغ الغرابة، متعذر على التصديق. أخذَ يسترجعُ في عقله الكلام الذي قاله البائع: إنهُ خنجر يمان، نفس الخنجر الذي استعمله كليب حينما نحر تبّع اليماني. كُليب قتل تبّع، ثم قتله جسّاس. هل يُعقل أن جسّاسا استعمل نفس الخنجر حين قتل ابن عمه؟ أحسَ مطلق برعشةٍ تسري في أطرافه. خُيّل إليه أن الخنجر هو من اختار أن يرجع إليه. أنّ الرجلَ مجرد أداة، و أن الخنجرَ هو الذاتُ القاتلة. أنّ الرجل هو الخنجر، و الخنجر هو الرجل. تذكر كيف أراد أن يقتل النشيّان بواسطة الخنجر، فإذا بالخنجر ينغرز في خاصرته. تذكر كيف ألقاهُ شاتماً وسط غياهب البئر، و ها هو يرجعُ ثانيةً ناوياً قتله. حاولَ مطلق أن يبددَ هذه الأفكار غير المنطقية من عقله، حاول أن يصرفها، و لكنه حين وصل داره، إذا بهِ يُراعُ بمفاجأة ثانية، لا تقلُ رعباً عن سابقتها.

فوقَ ألواح بابه الخشبي، كان الخنجرُ منغرزاً، ينتظره. لم يكن يحتاج إلى أن يتبين هذه المرة، لقد كان نفس الخنجر. النصل المكسور. الزهرة المفقودة. تلفتَ الوجيعي حوله في خوف دون أن تقع عيناه على أحد. كان الدرب خاليا تماماً. ماذا يعني هذا؟ لماذا غرزَ الشرطيّ الخنجر فوق بابه؟ هل هي مزحة؟ هل هو متورطٌ مع العصابة التي تنوي تهديده و قتله؟ أحس مطلق بالحنق و الهلع في نفس الوقت. ماذا يفعل؟ إلى أين يلجأ؟ هل يأخذ الخنجر إلى مركز الشرطة؟ و لكن الشرطي هو من غرز الخنجر فوق بابه! كما أنه نفس الخنجر الذي استعمله حين قتل النشيّان. ماذا يقول لهم؟ هذا هو الخنجر الذي قتلتُ بواسطته رجلاً في الصحراء و نهبتُ ماله. الأمرُ بالغ الغرابة، بالغ التعقيد، بالغ الخطورة.

اقتلعَ مطلق الخنجر من الباب، و التجأ إلى حِمى داره. حينما شاهدَ زوجته هتفَ بها:

"احزمي أغراضك، سوف نغادر في الصباح."
"نغادر إلى أين؟"
"إلى حيثُ ألقت! الرياض، القصيم، الزلفي، قريح! أيّ مكان عدا هذه المدينة الملعونة."
"هل جُننت؟ أنا لم أخرج حياتي كلها من الأحساء، و ها أنت تريدُ أن تخرجني إلى حيثُ لا أعلم، و هكذا، بدون سبب!"
"أنتِ لا تفهمين. المكان هنا غير آمن. أحدهم حاول أن يعتدي علي الليلة. هم يعرفون الدار، و قد يجيئون أي وقت ليقتلوني و يقتلوك."
"أبلغ الشرطة."
"الأمر أعقد من هذا."
"مطلق، هل أنتَ متورط بجريمة؟"
"لستُ متورطاً، و لا أدري من هم أولئك الذين يريدون قتلي. اسمعي يا امرأة، الليل قصير و لا نستطيع أن نضيعه بالنقاش. إن كنتِ تنوين الذهاب معي فأهلاً بكِ و سأضعكِ فوق عيني و رأسي. إن كنتِ لا تنوين، تركتكِ في دار أخيكِ مكرّمة معززة و لن أضمرَ شراً أو أحمل ضعينة."

سكتت الزوجة. أطرقتْ برأسها لبعض الوقت و أخذت تفكر. حينما نهضت، اتجهت بصمتٍ إلى إحدى زوايا المنزل و بدأت بحزم الأمتعة. أحسّ مطلق بالامتنان تجاهها. أحس بالامتنان لأنها لم تسأل الكثير من الأسئلة. لم يحاول أن يشرح لها الخنجر و ملابساته، إذ كيف لهُ أن يشرح و هو لا يفهم ما يجري على وجه التحديد. تساءل في سرِه: ماذا يحسنُ به أن يصنع بالخنجر؟ هل يتركه وراءه؟ هل يأخذه معه؟ أحسّ بالتوجس من هذه الفكرة. تخيّل زوجته تحمل الخنجر و تهاجمه أثناء الليل. لو أن الخنجر يملك إرادةً خفية، لو أنهُ رجع إليه من الحناكية و حتى الأحساء ثم هاجمه في الشارع و انغرز مهدداً على بابه، ما الذي يمنعه من أن يستخدم زوجته أداةً كي يحقق غرضَه؟ الأسلم هو أن يترك الخنجر، أن يخفيه في مكانٍ قصيّ لا يهتدي إليه أحد. أن يهرب ما أمكنه من ذاك المكان، و ينساه، و ينتهي الأمر.

لفّ مطلق قطعة قماشٍ حول الخنجر، و فتح بابَ داره مُعايناً. عندما تأكدّ من خلو الدرب، انطلق عبر الشوارع و الليل قاصداً إحدى الزوايا غير المأهولة حيث ينتهي الشارع بجدارٍ طويل. هناك، نبشَ الأرض و قلب تربتها ثم دفن الخنجر ملفوفا في قماشته. عندما انتهى، سوّى التراب براحتيه و تأكد أنّ أحداً لا يراه. نظر إلى الأرض فأحسّ بالرضا، لم تكن هناك أية علامات تدلّ على الشيء المخفي وسط التراب. نفض راحتيه، و دار على عقبه منصرفاً و هو يحسُ بشعورٍ غريب: لقد دفن بالتوّ الخنجر و كما لو أنهُ يدفنُ كائنا بشرياً ملفوفا في أكفانه. تمنى في قرارة نفسه أن تكون هذه الليلة آخر عهده بالخنجر المشؤوم.

توقفَ الرذاذُ عن الهطول، و انقشعت جُلب الضباب، و بدا القمرُ أكثر وضوحاً. عندما اقترب مطلق من داره بصرَ برجلٍ يقود ثلاثة من البعارين. تذكرَ أنهُ يحتاجُ رواحل كهذه كي تحمل أغراضه و أثاثه و زوجته. هتفَ بالرجل:

"يا أخ، تبيع بعارينك؟"
"معاذ الله، أبيع عيالي و لا أبيع البعارين."
"سأهبكُ المبلغ الذي تسميه."
"ابحث عن غيري. أنا مسافر إلى القصيم. أحتاج بعاريني."
" و لكن بعارينك عارية السنام، لا أرى فوقها حملا أو متاعاً."
"و ما دخلك أنت؟ بعتُ تجارتي و أريد أن أرجع."
"اسمع يا عبد الله، انسَ عرضَ البيع. أنا مسافر أيضاً، و وجهتي نفس وجهتك، القصيم، و لدي زوجة و متاع كثير. ما قولك إن أنت حملتني و متاعي و لك أجرة الحمل؟"
"دون أن أبيع بعاريني؟"
"دون أن تبيع البعارين."
"إن كان الأمر هكذا، فليس هناك مانع."

شكر مطلق الرجل و طلبَ منه أن يوافيه أمامَ داره بعد صلاةِ الفجر. واصل طريقه منحدراً إلى أن انتهى إلى دارِه ليجدها خلاءاً بلقعاً. كانت الملابس و الأغراض و الأمتعة مكومة في ثلاث حزمات تتوسط ساحة المنزل. توجه مطلق إلى زوجته و قبّل رأسها. عمد إلى حبالٍ غليظة كان قد اشتراها منذ مدة و استعملها في ربط الأغراض. ما إن انتهت صلاة الفجر، حتى سمع رغاء البعارين خارج بابِه. أخرج متاعه بمساعدة زوجته و الرجل القصيمي، ثم ثبته فوق ظهور الرواحل. أغلق باب داره، تلفت يمنة و يسرة كي يتأكد من خلو الدرب من أي متربص، ثم انطلق بصحبة زوجته و الرجل القصيمي و البعارين ميممين حيثُ تهوي الشمس.

سارت القافلة ببطءٍ حتى تركت البيوت وراءها. أخذت تقطع عروق الصحراءِ و ترتقي الحزوم و الصياهد. عندما هبط الليل توقفت القافلة عند قصر ابن عالج. أناخ الرجلان البعارين و تزودا بالماء من غديرٍ مجاور. استلقى الرجل القصيمي بجانب الرواحل، بينما بسط الرجيعي بمساعدة زوجته فراشهما تحتَ شجرة سدر. كان الجوّ بارداً، و السماء صافية. حدّقت زوجة الوجيعي في النجوم و قالت:

" لا أدري أين ستنتهي بنا يا مطلق!"
" ما دام معنا ما يكفي من النقود، و ما دمنا سوياً، فإن أي مكانٍ نختاره سيكون وطناً و محلَ سعادةٍ و أنس. لا تشغلي بالكِ، فقط تطلعي في قبة السماء، أليست جميلة؟ أتوجدُ سماء مثل هذه حيثُ كنا نعيش في الأحساء؟"

ما كاد ينهي سؤاله، حتى تناهت إلى أذنيه أصوات حوافرَ تعدو مقتربة. انتفض واقفا، و عدا نحو الرجل القصيمي ليجده حاسرَ الرأس يحاول أن يتبينَ ما يجري. سألهُ إن كان يملك سلاحاً، ليجيب أنهُ لا يملك سوى عصا يهشّ بها بعارينه. سأله إن كانوا قطاع طرق، فهزّ القصيمي كتفيه في حيرة و يأس. ابتلع الوجيعي ريقه، حاول أن يتمالك أعصابه، أخذ يراقب الظلال السوداء و هي تقترب حتى تبين وسطها فارسين ملثمين ينهبان الطريق عدواً نحوَهما.

ترجل الفارسان، و أخذا يعدوان باتجاههما و الشرر يتطاير من أعينهما. ما إن حاذيا الوجيعي و رفيقه القصيمي حتى ارتميا عليهما بأعقاب بنادقهما. أخذ أحدُهما يصرخُ معنّفاً:

"أين الوثيقة؟ أخرجاها."

صرخَ مطلق و ضربات البنادق تتناهبهُ يمنةً و يسرة:

"أيّة وثيقة؟ ليس معي وثيقة."

بينما صرخ القصيمي قائد الرواحل:
"لا أملك سوى البعارين. كل ما على البعارين يعود إلى الرجل. دونكما الرجل و ما تطلبانه. ليس لي شأن بالموضوع."

أفلتَ الفارسان قائد الرواحل ليعدو هارباً و هو لا يلوي على أثر. أمسكا بالوجيعي و سحباه نحوَ الغدير، بينما زوجته تصرخ مولولة:

"أخرج الوثيقة يا مطلق. اعطِ الرجلين ما يريدان."

ثبت الرجلان مطلقا على الأرض، و جثم أحدهما فوقَه و هو لا يكاد يعي من شدةِ الضرب.

"اسمع يا هذا: إما أن تخرج الوثيقة، و إلا سننحرك كالخروف."

بصقَ الوجيعي الدمَ المتجمع في فمه. لم يكن يدري عن ماذا كانا يتحدثان. لم يحاول أن يعترض أو يستجدي. لم يحاول أن يفهم. كان الأمر أبسط من ذلك: إما أن يخرج الوثيقة و إما أن يموت، و هو لا يملك الوثيقة، و لا يدري ما هي أصلاً، و لذا لا بد أن يموت. إذا كان سيموت، فليكن بكامل كرامته و رباطة جأشه. لن يصرخ و لن يبكي و لن يستجدي، و بكل تأكيد لن يحاول أن يفهم. ليس هناك وقت للفهم. لقد بدأت الأمور تترامى عليه بصفاقة و لا منطقية منذُ هاجمه ذاك الملثم في الزقاق، و ليس ما يحدث الآن بأغرب مما حدث على الباب أو الشارع ليلة البارحة. إن كان هناك لا مفر من الموت، فليستقبله بقلبٍ حديدي. لقد كان يملك من بقايا الوعي ما يمكنه أن يتشبث بهذه الفكرة حتى لحظة نهايته.

تطلعَ مطلق في قبة الفلك، في النجوم. حاول أن يصرفَ كل صوتٍ و كل رائحةٍ و كل منظر كي يركز فقط على النجوم. أحسّ بروحه تتوحد و تفنى في فضاء الكون. أحسّ بشيء يشبه الانحلال و هو يتطلعُ في هذه القناديل الليلية. أحسّ أن كل الفوضى التي ملأت روحه تتموج و تتناسق في حزمٍ من الصفاء و الجمال و الطمأنينة. كادت روحه أن تبلغ الذروة، كادت أن تمتليء رضا و نشوة، لولا أن يدَ القاتل ارتفعت لتحجب عنه قبة الفلك، و ليلتمع ذاك النصل بذبابته المنكسرة، ذاك النصل المشؤوم، ذاك النصل اليمان، و عندها، إذا بالصراخ يملأ روحه، و إذا بالرعب يزلزل كيانه، و إذا بالفوضى تعصف و تعود في تلك اللحظة الحاسمة التي هي كل شيء، تلك اللحظة التي لفظ بعدها نفسَه الأخير.

4
و الآن، بعد أن توفي بطل قصتي، كيف أبيحُ لنفسي الاستمرار في الكتابة؟ لقد قلتُ كلَ ما أعرفهُ عن النشيّان و الوجيعي، و ليس لدي أي حرفٍ جديد أضيفه كي أنوّر القارئ، و لكني لا أستطيعُ أن أتركه هكذا، أحسُ أني أدين له باعتذارٍ أو تفسير. لقد مات الوجيعي و هو يمتلئ بفكرةٍ لا يمكن أن يتقبلها قارئ من القرن الحادي و العشرين، لقد مات و هو يؤمن أن الخنجر اليماني الذي ابتاعه من سوق الحدرة هو نفس الخنجر الذي قتله. لقد اشتراه و تأمله و قضى معه وقتا كافياً كي يستوثق أنه نفس الخنجر الذي هاجمه في الأحساء، نفس الخنجر الذي انغرز مهدداً فوق بابه، نفس الخنجر الذي سلبه حياته على يد قاطع الطريق.

و لكن، هل الخناجر تملكُ وعيا و إرادة؟ هل تستطيعُ أن تسخّر الأيادي البشرية و تقطع مئات الأميال كي تحقق بغاياها؟ إنها فكرة غير معقولة، لا أستطيع أن أتقبلها، و لا أظن أن قارئي أيضا يستطيع استساغتها. مطلق -عندما مات- لم يملك سوى جزءا من الثانية كي يتبين النصل المكسور قبل أن يلفظ أنفاسه، و لذا أعذر له أن مات و هو يمتلئ بهذه الفكرة غير المعقولة. و لكن نحنُ -رجال و نساء القرن الحادي و العشرين- لا ينبغي لنا أن نتقبل هذه الفكرة بكل بساطة و نحنُ نملك من الدَعة و الوقت ما يكفي كي نتأمل و نحلل و نفهم. الأمرُ بحاجةٍ إلى قائف، نعم إلى قائف، ليس بالمعنى القديم للكلمة، و إنما بالمعنى الحديث. القائف القديم يستخدم منطقاً يقول: أن الخطوة على التراب لا يمكن أن تتكرر على بعد ميل إلا إن كانت هناك خطوات مماثلة تتواجد ما بين الخطوة الأولى و الخطوة الأخيرة. إنه منطق يجمع ما بين السببية و ما بين ما خبره القائف عن قدرة الإنسان و استحالة اختفاءه ثم ظهوره على بعد ميل. لهذا السبب يتتبع القائف أثر الخطوات حتى يصلَ بغيته. سأستعملُ ها هنا منطقاً يشبه منطق القائف، منطقا يقول: أن لكل سببٍ مسبب، و أن سلسلة السببية يجبُ أن لا تنقطع كي تفسر الحادثة (أ) الحادثة (ي). منطقاً يؤمن مثلاً أنهُ عندما يموتُ رجل أو يختفي، فإنّه لا بدّ لأهله أن يفتقدوه و أن يبدأوا بالبحث عنه.

أؤكد ثانية أنني لا أملك أية معلومة زائدة من شأنها أن تشرح الأمر. أنا أتلمسُ طريقي وسط الظلام، و قد أصيب و قد أخطئ، و لك كامل الحق في أن تمسك بظهري أو لا تمسك. كما قلتُ سابقاً، لنبدأ من حقيقة أن الرجل حين يختفي لا بد أن يُفتقدَ في بيته. لنستحضر إبراهيم النشيّان، ابن الرجل المقتول، لنستحضره و هو يتعهد زوجته و ينتظر ولادة ابنه. لا بدّ أن زوجته وضعت مولودها، لا بدّ أنهُ أخذ يتحرق شوقاً كي يري مولوده أباه. يتأخر والده فيقلق. يتأخر أكثر فيقلق أكثر. عندما يتطاول الانتظار يزمع إبراهيم أمره، لا بدّ أن يسافر إلى المدينة و يسأل عن والده. يرحل وحده، أو يرحل مع أبناء عمومته، أو بعض جماعته. عندما يصل المدينة يتوجه إلى التجار الذين اعتاد أن يتعامل معهم في سفراته السابقة مع والده. كلهم يؤكدون أن أبا إبراهيم كان موجودا، أنه اشترى منهم ما يشتريه عادة من البضاعة. أبو مزيد يزعم أن أبا إبراهيم استأجر رجلاً مجهولا لا يعرفه كي يكون دليلا في الطريق. ها هنا، يشعر إبراهيم أنه قبض على أول الخيط. والده غادر المدينة بمعية رجل، و البضاعة التي اعتاد والده شرائها تركت المدينة و لا بد أنها قد بيعت في مكانٍ ما. يترك إبراهيم المدينة بمعية أبناء عمه، يسافر بحذرٍ و بطء في طريق زبيدة صوب القصيم. عند كل قرية و كل هجرةٍ و كل مدينة يتوقف ليسأل التجار و الأهالي: هل شاهدتم أبا إبراهيم؟ هل شاهدتم من صفته كذا و كذا؟ هل هناك رجل حديثُ عهد بثراء استوطن حديثا بين ظهرانيكم؟ هل بيعت عليكم بضاعة جديدة من البهار و المرطبان و العبيّ و المشالح و الأقمشة و المجوهرات؟ عند كل محطة يتشعب الطريق خلف أدلة كاذبة و إجابات غير مؤكدة. في الحناكية، يسمعُ إبراهيم أن البئر الموجودة شمال القرية غير صالحة للشرب، أو لنقول أن هناك من نصحه بالتزود بالماء في الحناكية و عدم الاعتماد على البئر الموجودة شمالاً لأنّ حمارا أو فطيسا سقط وسطها. يحسُ إبراهيم بوخزة في قلبه. يحسُ بضرورة ذهابه إلى هناك. هو يبحثُ عن أي غريب، أي مستجد، أي متغير. يعتزم الذهاب إلى البئر كي يتفقد الأمر. عندما يصل، يرى نعل أبيه مغمورا وسط الرمل. يحسُ بمثل الضربة فوق أضلاعه، يحسُ أن قلبه يوشك أن يتوقف. يدرك أن مصيبةً حلت، و أن الجواب الذي يبحث عنه موجود أسفل البئر. يربط حبلا حول خصره، يتدلى بمساعدة أبناء عمه وسط القليب. هناك، يجد جثة أبيه المنتفخة. هناك يجد الخنجرَ غير بعيدٍ عنها. الأمر لا يحتاج ذكاء أو فطنة. يدرك إبراهيم أن هناك قاتل، و أنه استعمل الخنجر كي ينفذ جريمته، و أنه سرق البضائع و الجمال بعد أن رمى الجثة و الخنجر وسط البئر. يحس إبراهيم بالدم يغلي في عروقه. يحس برغبة في الصراخ، يقسم على الثأر. لا بد أن يجد القاتل. لا بد أن يأخذ بثأر والده المغدور. ستكون البضائع المسروقة خيطه الوحيد في رحلة بحثه شبه المستحيلة. يصل عنيزة، يسأل التجار و الآهلين أسئلته المعتادة: هل هناك رجل غريب سكن حديثنا بين ظهرانيكم؟ هل بيعت عليكم بضائع جديدة تشبه البضائع التي اعتاد والدي التجارة بها؟ يكتشفُ أن المشالح و العبيّ بيعت في عنيزة، ثم يكتشف أن التوابل و البهار بيعت في بريدة. يتبنُ ها هنا ما يشبه النسق. لا بدّ أن والده أطلع القاتل على أسرار تجارته، لا بدّ أنه حدثه عن كل سلعةٍ و أين تلقى رواجاً. إذا كانت نظريته صحيحة، فلا بدّ أن القاتل اتجه بعد بريدة و عنيزة إلى الأحساء. لا بد أنه أتجه بالعطور و الأقمشة و المجوهرات إلى هناك. فيما يشبهُ ضربة اليائس، يتجه إبراهيم مع إبني عمه إلى الأحساء. هناك يسأل عن البضائع ليكتشف أنها بيعت على التجار قبل رجوع الحجيج. يسأل عن البائع فيخبرونه أنه رجل قصيمي يُدعى مطلق الوجيعي. يخبرونه أيضا أن الوجيعي اختار أن يستقر حديثا في الأحساء، و أنه صاهر التاجر سالم البقّاز. يحسُ إبراهيم أنه وصل أخيراً إلى نهاية الطريق. يحسُ بالدم يغلي في عروقه و هو يقترب من قاتل والده. لكنه يحتاج أن يتبين الأمر. يحتاج أن يستوثق قبل أن يقتل. ها هنا تنبثق في عقله فكرة الخنجر. كيف سيتصرفُ الوجيعي عندما يبصرُ الخنجر الذي ألقى في الحناكية مُشهراً في وجهه؟ لو كان بريئاً، فإن اهتمامه سينصب على مهاجمه أكثر من الخنجر. لو كان مجرما، فإنه سينشغل بالخنجر. كان إبراهيم يحتاج إلى أن يتبين كل هذه المشاعر في وجه الوجيعي. يختار أن يتلثم و يهاجم الوجيعي شخصيا وسط قارعة الطريق. يلح على ابن عمه أن يداهمهما في لحظة إشهار السلاح زاعما أنه رجل درك. تأتي الليلة المناسبة، و يخرج الوجيعي ماشيا في الظلام، و يهاجمه إبراهيم شاهرا الخنجر، فيتبين في وجهه ما يؤكد أنه من نسل قابيل، إنه القاتل دون شك، لم يتبقَ سوى الانتقام. و لكن الإنتقام لن يكون سريعاً و لا رحيماً. يجبُ أن يدفع الوجيعي نحو الجنون، يجب أن يجعله يمتلئ هلعا و رعبا قبل أن يموت. يطلب إبراهيم من ابن عمه أن يغرز الخنجر فوق باب الوجيعي. يراقب باهتمام الحركة التي عمت دار الوجيعي بعد أن دخل الأخيرُ داره . لا بد أنه يعتزم السفر، لا بد أنه يزمع الهرب، و لا بد أنه سيحتاج إلى مطايا ينقل فوقها متاعه و حمله. يعمد إبراهيم نحو رواحلهم لينزل الأحمال من فوقها. يطلب من ابن عمه أن ينتظر قرب بيت الوجيعي علّ الأخير يستعمله كدليلٍ أو مطية. عندما يخرج الوجيعي يتبعه إبراهيم و هو يتخفى في الضباب و الظلام. يشاهده يدفن الخنجر في تلك الزاوية المهجورة. يشاهده يغادر. يعمد إلى نفس الموضع و يحفر باحثا عن الخنجر إلى أن يعثر عليه. يخفيه داخل ثيابه و هو يعتزم أن يستخدمه أداة انتقام في اللحظة الأخيرة. يقع الفأر في الفخ و يستأجر الوجيعي البعارين كي تقله في رحلة هربه. يسمي إبراهيم قصر ابن عالج كمكان مناسب كي يتوقف فيه ابن عمه بصحبة الوجيعي إلى أن يلحقا بهما. يبتاع إبراهيم و ابن عمه جيادا و ينطلقان متجهين نحو قصر ابن عالج حيث تتواجد بغيتهما. يختلق إبراهيم قصة الوثيقة كي لا تتبينُ زوجة الوجيعي هويتهما أو السبب الذي من أجله يقتلان زوجها. يتم الأمر، و تكتمل العقد، و يسقط الخنجر الذي قتل الضحية فوق جسد القاتل.

هل أنا راضٍ تماماً بهذا التفسير؟ هل يملك من الصلابة و التتابع و المنطقية ما يجعله عصيّا على مطرقة الشك؟ لا أظن! فمثلاً، لا أستطيعُ أن أفسرَ كيف يمكنُ لرجلِ أن يتركَ ابنه الوليد و زوجته النفساء، ثم يرحل مسافراً من مكان إلى آخر، ليس لشيء إلا كي يشبع عاطفة سوداء يسميها الثأر، دون أن ترجع تلك العاطفة والده الميت. لا أستطيع أن أفسر ذلك و لا أفهمه، و لكني أعلمُ تجربة أنه يحدث، بينما أعلمُ تجربة أن الخنجر لا ينتقل من مكان إلى آخر دون يدٍ فاعلة، و هذه التجربة هي كل ما أعتمد عليه في إقامة هذه السلسلة السببية المتهالكة كي أفهم أو أصل إلى شيء يقارب الفهم.

ما أستطيعُ أن أقوله هو شيء واحد، أعتقدُ أنه يملك من المنطقية و الصلابة ما يجعله جديراً بالقول: عندما قُتلَ مطلق الوجيعي، ماتَ و هو يؤمنُ بأن الخنجر الذي قتله هو نفس الخنجر الذي ابتاعه من سوق الحدرة، و لكني أزعم أنه كان خاطئا في تصوره. صحيح، لقد كان الخنجر يخصه، و لكنه ليس نفس الخنجر اليماني. الخنجر الذي قتل مطلقا ليس النصل المعدني ذا الذبابة المكسورة. الخنجر الذي قتل مطلقا هو خنجر صنعه بنفسه، شكله من العدم، بدأهُ كفكرةٍ في مسجد الرسول، تعهده بعنايةٍ و بطء في طريقه إلى القصيم، ثم أخرجه أخيراً إلى الواقع المادي شمال الحناكية، في نفس اللحظة التي انهال فيها بخنجره المعدني فوق رقبة النشيّان. لقد صنع خنجراً أسوداً من شأنهِ أن يقتله، صنعه و قذفه و نسيه، دون أن يدري أن مثل هذه الخناجر السوداء لا تستريح و لا تهدأ إلى أن ترجع إلى قلوب صانعيها. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي أؤمن بها، و هي الطريقة الوحيدة التي أستسيغها كتفسيرٍ لأحداث هذه القصة الغريبة.



عدي الحربش
Jan 08 / 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى