د. نوره المري - عنصر الراوي في قصة " بكاء الأجساد" لناصر الجاسم

الراوي: ويسمى السارد، أو حامل وجهة النظر، وشخصية الراوي مأخوذة من القصّ الشفهي القديم، والجديد أن النقاد بدأوا يهتمون به. ويعدّ عنصر الراوي من أهم العناصر في القصة الحديثة، ولا ننظر إليه كما ينظر إليه النقاد الذين يعتبرون الراوي أحد الشخصيات، وإنما نعتبره عنصراً بنائياً يحتاج إلى وقفة خاصة لأهميته في التشكيل الفني للعمل القصصي. فالراوي مثل نائب الفاعل ينوب نيابة كليّة عن المؤلف، لذلك هو الوسيط والكاتب الاعتباري الذي يعطي القصة وجهة النظر المطروحة، وهو المسؤول عن جودة القصة وعدم جودتها، وهذا الراوي ليس نمطاً واحداً وإنما هناك أنواع للرواة:

أ/ الراوي من الخلف:
وهو الراوي لا يكون حاضراً أثناء عملية السرد، ويعلم مصير كل شخصية في القصة، وهذا النمط يعتبر أقدم أنواع الرواة وأسهلها في الوقت نفسه وأكثرها تداولاً، وهو راوٍ محايد.

ب/ الراوي المشارك:
وهو أكثر حداثة من الذي قبله.

ج/ الراوي المتعدد الأصوات:
وهو أكثر الأنواع جدّة، الذي تتجلى من خلاله حداثة القصة وأهمية منظورها الاجتماعي، يقول عنه الدكتور طه وادي في كتابة الرواية السياسية (ص150، 151): "يعدّ أكثر الرواة جدّة وأشدها ملائمة لطبيعة قص الحداثة، لذلك لا نجده بشكل واضح إلا في مرحلة معاصرة متأخرة، وعند كتّاب تجاوزا الثقافة المحلية، واطلعوا على نماذج عالمية تهتم بهذه النوعية. ووظيفة هذا الراوي أنه يقدم الحدث المسرود من خلال وجهات نظر متباينة أو متعارضة أحيانا، على المستوى الإنساني والفكري. وهذا لا يجعل الرواية حزمة من الأوراق الجافة، وإنما شريحة حية من الواقع المعاش بصراعاته وجدله وتناغمه وتصبح الرواية- من خلال وجهات النظر المتعددة- مثل "جوقة" يعزف كل فرد منها بآلة خاصة.. لكن الجميع يصدرون سيمفونية متناغمة".

وفي مطلع قصة "بكاء الأجساد" يأتي صوت الراوي من الخلف الذي يحكيها بضمير الغائب، يقول متحدثاً عن الرواة الثلاثة الذين يأتي دورهم فيما بعد:

"وجاء زمن تعبوا فيه فحملتهم أقدامهم المشعرة إلى ساحة الرقص حيث الأنوار الملونة المعلقة بالسقف تدور فوق رؤوسهم ليفرغوا هناك على طاولتهم المنعزلة حمل الأيام الماضية".

فالراوي من الخلف يبدأ القصة بوصف شامل للرواة الثلاثة الذين- كما يفهم من القصة- جاءوا إلى مكان غير معتاد حضور من هم في لون وجوههم أو مكانتهم الاجتماعية إليه..

وهذا المكان يعلو فيه صوت الموسيقى الصاخبة والطاولات يحتلها جماعات متعبة تراقب الأفريقي الأسود الذي بدأ يرقص بشكل يلفت نظر هذه الأجساد المتعبة التي تراقبه من خلف الطاولات، والرواة الثلاثة من ضمن المعجبين برقصه رغم وقارهم الظاهر، فهم عندما يشاهدون هذا الأفريقي يعبر عما في داخله بكامل الحرية وذلك عن طريق حركات جسده، تتحرك داخلهم الرغبة في التعبير عن المكبوت وهو ما أسماه الكاتب بـ "بكاء الأجساد"، وأول هذا التعبير كان في إخراج القلم وكتابة ما يجول في أنفسهم، ومن هنا يبدأ عمل الرواة الثلاثة، ويتحول الحديث من الضمير الغائب إلى الضمير المتكلم، والجاسم يتحول إليه ليلج إلى نفوس الشخصيات ويتفاعل معها القارئ لشعوره بصدقها بما أن الحديث جاء على لسانها، كما أن هذا الراوي يجعل هناك نوعاً من الحيوية في القصة؛ لأن الإنسان عندما يتحدث عن نفسه يكون منفعلاً ومتوتراً.

والراوي هنا يقوم بدورين: الدور الأول أنه الراوي، والدور الثاني أنه أحد شخصيات الرواية.. والكاتب يأتينا بثلاث وجهات نظر من خلال ثلاثة رواة يؤكدون حقيقة واحدة وهي أن داخل كل إنسان كائن آخر مكبوت يصعب أن يظهر بسبب ما يمليه المجتمع من قيود. فالطبيب (الراوي الأول) يكتشف أنه لم يوظف أحد أجهزته عندما يرى الشاب الأفريقي يتحرك بعفوية، وهذا الجهاز هو جهاز العصب والاستجابة.

والمهندس (الراوي الثاني) يكتشف أيضاً أنه نظري وجاف، وأن أول حديث له مع امرأ كان عن فيروس الحاسوب:

"أول حديث لي مع امرأة كان عن فيروس الحاسوب وآراء فريدريك تايلور.. كم كنت غبياً وجافاً؟! بعد عشر سنوات أكتشف أن أي طموح لا يرضي الجسد يعدّ سخافة مقيدة... الآن فقط أفكر تفكيراً سليماً وأرضي الإنسان العملي المعطل بداخلي وأقرر الرقص خالياً رأسي من أية نظريات".

والمعلم (الراوي الثالث) يحسد الأفريقي الأسود لأنه لا يعرف الخجل، ويتصرف بثقة من خلال الرقص، فيقول:

"قدري أنني أصنع حرماني بنفسي.. منحرف أنا وأبحث عن زوجة مستقيمة... أي أنانية هذه التي أفرضها على الغير؟ أمي تقول: إنني أتكلم كثيراً عندما أكون نائماً بكلام لا تفهمه.. وأبي قال عني: إنني معقّد.. وهي قالت: إنني ذكي جداً.. أي ذكاء هذا الذي يجعلني أخاف أن أرقص خشية أن يراني تلاميذي؟! بالتأكيد أن لديّ رغبة كبيرة في الصياح بأقصى ما تستطيع حنجرتي وأنني سأرقص بأقصى ما تستطيع قدماي".


أما الحقيقة الأخرى التي أراد القاص الجاسم إيصالها هي أن الحياة امرأة، فالرقص- كما يظهر- مربوط بالمرأة، وكلاهما يمثلان خطين متلاقيين للحياة؛ لأنهما- في مفهومه- يؤديان وظيفة مشتركة وهي إرضاء الجسد..

فالرواة الثلاثة أجمعوا على أن الطموح الحقيقي هو الذي يرضي الجسد. فالراوي الأول كما قال عن حياته:

"كان الأولى أن أقضيها في النظر إلى امرأة وأبناء...".
وقوله: "كان يفترض أن أعيش في مكان آخر وأن أدرك من قبل ثماني سنوات أن الرقص حاجة غريزية يجب أن تُلبّى".
والراوي الثاني: "أول حديث لي مع امرأة كان عن فيروس الحاسوب وآراء فريدريك تايلور.. كم كنت غبياً وجافاً؟! بعد عشر سنوات أكتشف أن أي طموح لا يرضي الجسد يعدّ سخافة مقيدة...".
" الآن فقط أفكر تفكيراً سليماً وأرضي الإنسان العملي المعطل بداخلي وأقرر الرقص خالياً رأسي من أية نظريات".
والراوي الثالث: " منحرف أنا وأبحث عن زوجة مستقيمة..."
"؟! بالتأكيد أن لديّ رغبة كبيرة في الصياح بأقصى ما تستطيع حنجرتي وأنني سأرقص بأقصى ما تستطيع قدماي".



وبعد تعبير هؤلاء الرواة الثلاثة عن هاتين الحقيقتين المرتبطتين أشدّ الارتباط في حديث كل واحد منهم في مذكراته، تظهر المرحلة الثانية من التعبير وهي حركة الأجساد "الرقص الجماعي". وهذا الفعل هو ما أسماه القاص بالبكاء؛ ليثبت حقيقة اجتماعية ونفسية هامة وهي أن الرقص لا يعبر عن الفرح دائماً، بل هو فن يعبّر به عن الحزن أحياناً كثيرة كما هي العرضة التي تُرقص أثناء الحرب... فيقول الراوي من الخلف الذي يظهر في آخر القصة معلناً النتيجة التي وصل إليها الرواة الثلاثة، قال الراوي:
"حين رقصوا جذبوا أجساد أفراد بعض الجماعات المتعبة وسحبوا الأضواء من الشاب الأفريقي وكان رقصهم كالبكاء".

وقد جاء المؤلف بهذا الراوي لينفي عنه تهمة التدخل في القصة، فتصبح في هذه الحالة شكلاً مختلفاً من أشكال القص، أي أن الراوي من الخلف حكى القصة بلسان غير لسان المؤلف، ليوهمنا بكامل حياديته، ففي بداية القصة كنا نظن أن الكاتب يحكيها بنفسه، ثم حدث تحول عندما أسند الحديث إلى الشخصيات (الراوي متعدد الأصوات)، ثم نكتشف أن من كان يحكي القصة راوٍ آخر غير المؤلف، وبالتالي ندخل مع "ناصر الجاسم" في عملية معقدة للراوي، وشكل آخر غير معتاد حتى في القصة المعاصرة.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى