أدب السجون السي محمد فكري - عن معتقل درب مولاي الشريف

السي محمد فكري - عن معتقل درب مولاي الشريف – 1 –


يوميات درب مولاي الشريف ليلة الاثنين الثلاثاء 4 نوفمبر 1974

أول ما ولجت هذا المكان المخيف، الذي كنت سمعت القليل عنه وعن أمثاله كدار المقري مثلا الذي مر منه المعتقلون الاتحاديون في يوليوز من سنة 1963 وما بعدها، لا أقول خفت أو أصبت بالهلع، لأنني لست وحدي بل معي العشرات من رفاقي، مما يعني أن مصيرنا واحد، يقول المثل “در راسك بين الروس وعيط أقطاع الريوس”، وإنما الذي شغلني في تلك اللحظة، هو كم من الوقت أستطيع الصمود والتماسك في مواجهة تلك الأوضاع للحفاظ على وجودي المادي.

ـ الاستقبال كان حافلا عند الدخول، كنا نسمع صوت السياط، أو “المصويتا” في يد حراس المكان، كأنهم يروضون الوحوش الكاسرة، كما كان يسمع صوت المياه المتدفقة من طرادات المراحض شبيه بصوت شلال متدفق من علو جبل، تصورت أنني سنعيش وسط برك مياه وسياط الجلادين، خصوصا حين طلبوا منا نزع كل ما نرتديه، قبل أن يسلمونا أسمالا قديمة ومهترئة عبارة عن قميص وبنطلون، وبما أنني كنت نحيف الجسم قصيره، اختفيت وسط ذلك القميص الذي كان أكبر من جسمي وبعد ذلك وضعوا على أعيننا قطعة قماش متسخة يسمونها “بانضة” كي لا نرى ما يجري أمامنا أو نتعرف على الجلادين والمكان الذي نتواجد به. بعد هذه العملية أخذونا لغرف مصففة وأعطونا أفرشة وأغطية قديمة “كواش” اتخذنا البعض منها كفراش والبعض للغطاء، حين رأيت هذه العملية تنفست الصعداء وتبدد جزء من الخوف، قلت مع نفسي على الأقل يوجد فراش وغطاء ولن أبقى عريانا وسط المياه.

في الليلة الأولى بعد أن قضينا بضع دقائق بدأوا ينادون علينا وأعطوا لكل واحد منا رقما معينا يجب عليه أن يحفظه لأنهم سينادونه به وبذلك يتحول لمجرد رقم، وكان الرقم الذي أعطي لي هو 19، إن لم تخني ذاكرتي.

بعد هذا أخذونا لوجبة دسمة استضافونا بها كمقدمة ومدخل للوجبات التي ستخصص لكل واحد منا، كل حسب حاجته وأهميته.. وهذه الوجبة الدسمة كانت عبارة عن صفع وركل وخنق بالمياه الآسنة الممزوجة ربما بماء جافيل وكذلك ما يسمى بعملية الطيارة، هذه الوجبة ذاق منها الجميع بالتساوي لا فرق بين الكبير والصغير ولا بين المرأة والرجل، فهم يؤمنون بالمساواة ويطبقونها.

بعد هذه الوجبة عدنا لأماكننا وبدأ العقل يستوعب ويكتشف المكان ويحاول استيعاب الوضع والتفكير في طرق المواجهة والصمود، أول شيء قمنا به هو التعرف على بعضنا نحن المتواجدون في نفس الغرفة رغم العصابة الموضوعة على أعيننا والقيد الحديدي المقيد لأيادينا والحراسة المشددة التي تمنع الهمس أو حتى مجرد التململ في المكان.. حين تحس أنك في حاجة للمرحاض عليك أن تنادي باسم الحاج وتقول “الحاج نوض نبول” إما أن يستجيب لرغبتك تحت وابل من السب والشتم، أو أن يتركك تنادي إلى أن يبح صوتك، والحقيقة لا بد أن تقال، هناك بعض الحراس، فيهم بعض الإنسانية هم من يطلبون منا أن نقوم للمرحاض دون أن نطلب منهم ذلك.

الأكل: يسلموننا خبزة واحدة في اليوم صباحا مع البيصارة وفي الغذاء إما حبات عدس تسبح في بحر من المياه وأحيانا جزر مطحون وفي بعض الأحيان قطع من لحم الجاموس، ومرة في الشهر أو أكثر كأس شاي وأحيانا علبة سردين عادي يقسمونها على اثنين أو ثلاثة.

بعد أن إستوعبنا المكان والزمان تكيفنا مع الوضع وبدأنا نشغل أدمغتنا ونفكر في كيفية مواجهة الجلادين والمحافظة على صمودنا وتماسكنا والتفكير في مستقبل وطننا قبل التفكير في خلاصنا. أول شيء فكرت فيه هو أن أجر المحققين لما أريده أنا لا الذي يريدونه هم وأن أتمسك بما قلته في المرة الأولى ولا أدعي معرفة ما لم أعرف أو أنكر ما الذي عرفوه عني وقاله الآخرون..


****

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 2 –

يوميات درب مولاي الشريف ـ 2 ـ

في الأيام الأولى كان الجلادون يركزون في استنطاقهم على معرفة أسماء من لم يتم إعتقالهم من أعضاء التنظيم والمتعاطفين معه، ولهذا كان التعذيب قاسيا، سواء الجسدي بكافة أنواعه المعروفة وغير المعروفة، أو المعنوي، ورغم صمود أغلب الرفاق فقد كان يسمع بين الحين والآخر أنين البعض من شدة ألم التعذيب، وأتذكر في أحد الأيام من بداية وجودنا، أنني سمعت أنين ألم رفيق أتوا به بعد وجبة تعذيب قاسية وتم وضعه في الممر قريبا من الغرفة التي أتواجد بها، وكنت أسمع أنينه الخافت ولفت انتباهي كثرة الحركة حوله، فتيقنت أنه من الأشخاص المهمين المبحوث عنهم، فاعتقدت أنه السرفاتي، وبعد حين سمعت أحد الجلادين يناديه باسم عبد اللطيف زروال، هذه العملية تمت ليلا ولساعات محدودة، بعد ذلك أخذوه ربما لمستشفى ابن سينا، نظرا لخطورة وضعه الصحي.

في الوضع الذي كنا فيه، لم نكن نفرق بين الليل والنهار، كل أوقاتنا ليلا لا نرى ضوء الفجر أو شروق شمس الصباج ولا نستطيع تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود. محرومون من رؤية ضوء النهار وحتى من ظلام الليل، فقد وضعوا على أعيننا خرقة قماش متسخة وأحكموا وثاقها، ولم يعلموا أن ضوء البصيرة، أهم أحيانا، من ضوء البصر، وهذا ما عجزوا عن انتزاعه منا، رغم كل ما فعلوه.

بسرعة استطعنا التكيف مع وضعنا الجديد وبدأنا في إيجاد وسائل للصمود والحفاظ على الذات، فكان أهمها التمسك بالحياة وعدم فقد الأمل، رغم قساوة الظروف، وهذا ما شد من أزر من تسرب الشك لنفسه، مما ساهم في رفع معنوياتنا، وحولنا ما نحن فيه إلى كوميديا أبطالها الجلادون وحراس المسلخ والمتفرجون نحن. فتم إختراع اسماء لحراس المسلخ نعرفهم بها، من خلال أصواتهم، مثل: (القوادة، نوض تبول، القرد، الزامل، الجبلى اعطي ليماه، الذيب، الفلاح، الفْلوس، المثقف… الخ)

وكان الشعراء ينظمون الشعر، صلاح الوديع، عبد القادر الشاوي، ومن ينظم الزجل، عبد الله زعزاع، وربما يوجد رفاق آخرون لهم إسهاماتهم، إما في الغناء أو التنكيت أو أي شيء يساهم في رفع منسوب جرعات الصمود.. وهناك من أعطى كل جهد تفكيره للوضع السياسي وكيفية خروج القوى التقدمية من أزمتها والتفافها حول برنامج للإنقاذ وللثورة الوطنية الديمقراطية، الرفيق المرحوم عبد السلام المودن.

كانت عملية التنسيق تتم بيننا بطرق مبتكرة وكنا نعرف من ذهب للاستنطاق حين نسمع صوت مشيته، كنا نميز مشية بعض الرفاق، كالمرحوم السرفاتي والمرحوم مداد مثلا.

كنا نتحايل على الجلادين ونتبادل الكلام، نستغل فرصة انشغالهم أو غفلتهم، فيتكلف أحدنا بالحراسة ويتبادل الباقي الحديث، والأحاديث ذات شجون في هذا المكان، وقد تكلفت أحد المرات بمهمة الحراسة، فقد كان ثقب غير مرئي في الخرقة التي أغلقوا بها عيني من خلالها أرى شبح الحارس حين يبدأ بالاقتراب، وقد سببت لي هذه المهمة انتفاخا في العين دام عدة أيام.

في المعتقل وجدنا من مكث هناك مدة طويلة، كالجعواني الذي اتهم بتهريب السلاح من الجزائر، سمعت عنه أنه كان شخصا قويا يخاف منه حراس المسلخ، وفرض عليهم إزالة البانضة على عينيه والقيد من يديه وخصصوا له زنزانة لوحده، هذا ما سمعت عنه ولم يحصل لي شرف رؤيته أو التعرف عليه. وقد سمعت عنه أنه يرفع من معنويات المعتقلين ويحثهم على الصمود. ومن بين من وجدناهم هناك، شقيق الجنرال أفقير كان قائدا في إحدى مناطق شرق المغرب، اعتقل بعد فشل محاولة انقلاب شقيقه، وهو شخص مسن هزيل الجسم معنوياته في الحضيض، هذا رأيته في أحد المرات.

ومن بين من وجدناهم أيضا شخص يسمونه أولعيد لا أعرف عنه أي شيء، هذا الشخص كان يساعد الحراس في توزيع الأكل على المحتجزين وفي بقية الأعمال الأخرى، كتنقية العدس والفول من بعض حصى الحجر، وليس كله. هذا الإنسان كان طيبا وفي أثناء توزيع الأكل كان يستغل الفرصة لتوصيل معلومة أو خبر، في غفلة عن الحراس.

للكلام بقية

ملاحظة لا بد منها:
أعتذر عن كل ما قد يرد في هذا السرد من الذاكرة مباشرة، من نسيان لبعض الأحداث أو لشخصيات ووقائع، وكذلك لأخطاء نحوية أو لغوية وربما حتى إملائية، لا أدعي الكمال ولا المعرفة، أحاول أن أسجل للتاريخ ما عرفته وعشته، بتواضع جم، حفظا لذاكرة جيل آمن بالحلم الجميل وشد على الجمر في سبيل تحقيقه، ولا يزال، رغم ما لحق به من أذى، ليس من الأعداء والخصوم فقط، بل حتى من بعض الأصدقاء أيضا، سامحهم الله.

محمد فكري، الإسم الحركي البدوي ثم بوعزة في مرحلة لاحقة.


****

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 3 –

جهاز البوليس السياسي الذي اعتاد فبركة تهم كبرى للمناضلين التقدميين، الاتحاديين على الخصوص، مثل حمل السلاح ومحاولة قلب النظام بالقوة والمس بالأمن الداخلي والخارجي للدولة، وجد نفسه في حالتنا أمام مشكل آخر لا يفقه فيه شيئا، أمام أشخاص يحملون أفكارا وأداة إتهامهم هي كومة من الأوراق والكتب والمجلات، إستعصى عليهم (البوليس) فك ألغازها وفهم معناها، هم لا يفقهون شيئا في الثورة الوطنية الديمقراطية، ولا القواعد الحمراء المتحركة، أو رب شرارة أحرقت سهلا، ولا في التناقض الأساسي والتناقض الثانوي، أو خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء. ربما تساءلوا في قرارة أنفسهم، كيف سيغير هؤلاء الدولة والنظام ونحن لم نجد لديهم، مما حجزناه، ولو إبرة أو مسمارا وكل ما كان في حوزتهم أكواما من الأوراق والمئات من الكتب من مؤلفات ماركس وأنجلز ولينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وستالين وماو تسي تونغ وغرامشي، ومهدي عامل وإلياس مرقص وياسين الحافظ، وحسين مرة وطيب تيزيني وجورج طرابشي وصادق جلال العظم وغيرهم. وقد استغرقوا أشهرا عدة في البحث عن إيجاد تكييف لما سيتهموننا به.

في هذا المسلخ البشري، أنت ممنوع من الكلام، من الهمس، ممنوع من الضوء، كنا نعرف تعاقب الليل والنهار من أصوات الحراس الذين يتناوبون على حراستنا، كما قلت سابقا، منهم السيء جدا والخسيس الذي يبحث عن السبب لتعذيبنا، ومنهم الأقل سوءا، الذي يقوم بواجب الحراسة كما أمر بها ولا يتسامح ويعاقب من وجده يتكلم مع رفيقه بمجرد الوقوف لمدة معينة دون ضرب. أما الأشد سوءا فيعاقب بالوقوف على رجل واحدة لساعات زيادة على الضرب، وأسوأهم ممن ذكرت، شخص أطلقنا عليه لقب (زامل) يمتاز بسادية قل نظيرها، وربما لميولاته الشاذة، وشخص آخر كنا نسميه (الهيش) وهو فعلا كذلك. يليهم من نسميه المثقف، فهذا لديه عقدة مع المثقفين، حين يسألك عن مهنتك وتجيبه بأنك أستاذ أو مهندس، يبدأ في ترديد: “ولد الحرام مهندس وتيشد مائة ألف ريال في الشهر” ويبحث عن ذريعة لعقابك، إما بحرمانك من الذهاب للمرحاض أو يتهمك بالكلام لينتقم منك دون سبب، والحقيقة أنه في أوقات حراسة هؤلاء الأشد سوءا، نجد راحتنا في الكلام وتبادل الحديث، لأن ترترثهم في الكلام تجعلهم لا ينتبهون لنا، وفي أوقات حراسة هؤلاء يحرم بعضنا على نفسه الذهاب للمرحاض، ومنهم أنا.

تتوالى الأيام والأسابيع والشهور، ونحن في ظلام الليل لم نعد نفرق بين نهارنا وليلنا ولا أسماء الشهور والسنة التي نحن فيها. أجسامنا متسخة والقمل يسرح ويمرح في أجسادنا ويمتص من دمائنا، والأخطر من القمل، حشرة أخرى تسمى البق، وهي أشد إيلاما وامتصاصا للدماء.

حين قرأت ما كتب عن تازمامارت أو تكنيت وأكدز وما عاشه رفاقنا في معتقل أنفا والكوربيس، اعتبرت ما عشناه نزهة وإقامة في نزل من خمسة نجوم.


٠٠٠٠

ملاحظة على الهامش:
أفتخر وأعتز بتعليقاتكم وملاحظاتكم وحتى تقويمكم، عزيزاتي أعزائي، وأؤكد مرة أخرى أنني مجرد إنسان بسيط، ما تعرضت له يعتبر لا شيء، مقارنة بما تعرض له رفيقاتي ورفاقي وما تعرض له المناضلون الذين سبقونا وكانوا قدوة لنا.. تحية لكن ولكم من أعماق القلب

****

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 4 –

نعيش بالأمل وعيوننا على المستقبل
في درب مولاي الشريف الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود

بدأت الاعتقالات ليلة الجمعة السبت أول وثاني نوفمبر، وبسرعة تمكن البوليس من اعتقال عدد كبير من الرفاق والمناضلين. تجربة مريرة حقا، فالأمر ربما يعود في نظري، أنا المواطن البسيط، إلى أن الإنسان لما يتصدى لحمل رسالة كبرى، يجب أن يكون على قدر المسؤولية ولديه الاستعداد للتضحية، ومن تم إرادة أقوى والاستماتة في الحفاظ على أمن وسلامة رفاقه. من يتصدى لقيادة تنظيم أو حزب ثوري يسعى للتغيير، يكون دائما في مقدمة من يضحي بنفسه، فقائد فرقة عسكرية يكون في مقدمة الجنود ويحرص أشد الحرص، على الحفاظ على حياتهم وأمنهم، فمعهم سيواجه العدو وبهم سيحقق النصر. أما إذا كان القائد يضعف أمام أول إمتحان يواجهه ويبحث عن الخلاص الشخصي، مضحيا بأمن وسلامة رفاقه ومن ثم سلامة وأمن التنظيم من أجل الحفاظ على حياته الشخصية مضحيا بالجميع مرددا في دواخله “أنا ومن بعدي الطوفان”، فلا يستحق أن يحمل صفة القائد أو المسؤول، والحقيقة أنه قدم نفسه قربانا لعدو لا يرحم ولا يحسب أي حساب للذين ينهزمون عند أول امتحان.. وهنا أفتح قوسا لأؤكد أنني لا أقصد أحدا بعينه، وإنما أطرح الأمر من وجهة نظري المتواضعة، بشكل عام..

أقول بدأت الاعتقالات في ليلة الجمعة ـ السبت أول وثاني نوفمبر من سنة 1974 واستمرت، بشكل جنوني حتى نهاية سنة 74 والأشهر الأولى من سنة 75، يعتقلون كل من ورد اسمه في الاستنطاق، أو وجدوا اسمه في قصاصة ورقة أو غلاف مجلة أو كتاب، وكان من بين ضحايا هذه الاعتقالات مواطنون لا علاقة لهم بالتنظيم ولم يعرفوا بوجوده، منهم من كان صديقا لأحد المتهمين بالانتماء للتنظيم أو زميلا له في العمل، بل إعتقلوا بعض المواطنين لمجرد مرورهم من أمام عمارة يوجد فيها منزل من يبحثون عنه، ولفتت نظره الحراسة المشددة فتوقف ليسأل أو فقط يرفع بصره نحو الشقة المحروسة، فكان هذا سببا كافيا لاعتقاله والإتيان به للمعتقل السري واستنطاقه تحت التعذيب وكلما أنكر جهله بالأمر، إزداد تعذيبه، منهم من قضى أسابيع وأشهرا في درب مولاي الشريف قبل أن يخلوا سبيله، ومنهم من حوكم وقضى سنوات في السجن وحكم عليه بسنتين ونصف سجنا وهو لا يعرف شيئا عن التنظيم ولا علاقة له به، بل الأدهى من هذا، كان مريضا عقليا وأعني هنا المواطن وهام.

الأحداث التي جرت في سنة 75 كاغتيال ملك السعودية، فيصل، ووفاة أم كلثوم وفريد الأطرش، علمنا بها من خلال استراقنا السمع لأحاديث الحراس، الذين يسمونهم الحجاج، وهذا ما جعلني أمقت وأكره لقب الحاج، لارتباطه في مخيلتي بجلادي درب مولاي الشريف.

وأهم حدث علمنا به ونحن في ضيافة الجلادين، هروب الأمريكيين من الفيتنام وتحرير سايغون من العملاء على يد الجيش الفيتنامي بقيادة البطل جياب. في إحدى الصباحات الباردة، ونحن ما زلنا لم نستلم فطورنا، الذي هو عبارة عن خبزة لليوم كله، تناولها كلها في الفطور، أو احتفظ منها لما يسمى الغذاء والعشاء، ومن سخرية الأقدار بنا، أن الزنزانة التي وضعنا فيها، كانت تقع أمام المطبخ الذي يعدون فيه أكل ضباط وأفراد حراس المخفر، وكانت روائح مختلف الأطعمة التي يطبخونها تزكم أنوفنا، من لحم وسمك الخ..

أقول، في إحدى هذه الصباحات وقبل استلام الحجاج مهامهم، سمعتهم يتحدثون عن هروب الجنود الأمريكيين من سايغون بالطائرات، ففرحت بانتصار ثورة الشعب الفيتنامي، الذي استطاع بفضل تضحياته الجسام، من هزم أعتى قوى امبريالية في القرن العشرين، كما سبق له أن هزم الامبريالية الفرنسية في معركة ديان بيان فو، والحقيقة أن هذا الانتصار العظيم، أعطاني جرعات قوية من الأمل والاصرار على الصمود ومواصلة الطريق وتيقنت أن من ينتصر دائما هي قوة الشعوب وإرادتها ومن ينهزم هي قوة الشر والعدوان ومن يسلبون حرية الشعوب ويسرقون خيراتها.

للحديث بقية


***


محمد فكري يروي يوميات معتقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة(5)


إذا كانت إرادة الإنسان قوية وإيمانه بقضيته أصلب، فبإمكانه قهر الظروف القاسية التي يوضع فيها، وهذا ما يغيض الأعداء، لأن غايتهم دائما هي قهر المناضل وكسر صلابته وزعزعة ثقته بمبادئه وقتل بذرة الأمل في المستقبل داخله.

قلت في بداية هذه الشذرات، أو الخربشات، أن أول ما تبادر لذهني، حين ولجت المكان، كم من الوقت سأبقى صامدا وحيا داخل هذا المسلخ، ولكن بعد أن تطبعت مع الوضع، لم يعد يهمني خلاصي الشخصي، بل بدأت أفكر في رفاقي وبعض أقاربي، خوفا من أن يمسهم القمع.

وكنت أحسب وأعتقد، أن لا أحد يعرف علاقتهم بالتنظيم سواي، وأول هؤلاء رفيقي وأخي وصديق العمر، إبراهيم موطى، كنت أخاف أن يعثروا في كومة الأراق التي حجزوها من بيت الرفيق الفقيد عبد السلام المودن بكاراج علال، عمارة رزق، الذي كان مقرا من مقرات 23 مارس، وكان يقيم فيه الرفيقان العزيزان، علال الأزهر وعبد العالي بنشقرون بعد أن أصبحا متابعان، إلى جانب الفقيد المودن وأنا، كان هذا الأمر يزعجني ويقض مضجعي، زيادة على العذاب اليومي للمعتقل، إلى أن سمعت في أحد الأيام، أن الرفيق الموطى اعتقل ويوجد معنا في درب مولاي الشريف، كيف تم اعتقاله لا علم لي بالأمر لحد الآن.

وهناك رفيق آخر عزيز وصديق العمر أيضا، كنت أحرص وأخاف أن يمسه سوء، هو مصطفى فنيتير، كما وضعت بين عيني أحد أقاربي الذي كان يعمل بمدينة جرادة، لم تكن له علاقة بالتنظيم ولكن كنت أتراسل معه، وفي إحدى المرات بعث لي بتقرير مفصل عن إحدى إضرابات عمال جرادة، أستعمل كمادة خام لمقال نشر في 23 مارس، كما كان من بين الأوراق المحجوزة رسائل من الرفيق مصطفى مسداد من فرنسا يسأل فيها عن أحوالي وأحوال التنظيم، طبعا لا يوقعها باسمه.

وما كان يزعجني ويثير مخاوفي في هذا الأمر، أن عنوان المراسلات، كان محلا تجاريا لأحد معارفي المنتمين لمسقط رأسي، وهو لا علاقة له بالسياسة ولا يعرف أي شيء عن ميولاتي التنظيمية، أخاف أن يمسه أي ضرر بسببي.. وقد أرقني هذا الأمر لأيام وليالي، وكنت أفكر في الجواب الذي سأجيب به عن أسئلة الجلادين، إن اكتشفوا الأمر.

في أحد الليالي، أخذوني لمكتب الجلادين الذين يسمونهم المحققون، طبعا لا أرى من في المكان، ولكن أسمع أصواتا متعددة، أجلسوني على الأرض وبادروني بالسؤال، هل اسمك البدوي، أجبت بالنفي، وللوهلة الأولى تذكرت رسائل الرفيق مسداد، ألحوا في السؤال، من هو البدوي، فكان جوابي ربما سموني بهذا الاسم في التنظيم دون أن يخبروني به، ثم بادروني بسؤال آخر، هل تعرف محمد الحبيب الطالبي، قلت لهم أسمع به فقط ولم يسبق لي أن التقيته، ولحسن حظي أنهم اكتفوا بهذا القدر من الأسئلة، ربما لاستنتاجهم بعدم أهميتي في التنظيم وعدم معرفتي بهيكلته، وقد كنت أخبرتهم أنني مجرد عامل مقابل أجر، ولما سألوني عن مقدار الأجر التي أتلقاه مقابل عملي، أجبت مائة درهم، فاستهزأ مني كبيرهم بقوله: هل مائة درهم ستأكل بها أو تمارس بها الجنس، وقد قالها باللهجة الدارجة، ربما هذا الذي جعلهم لا يركزون علي كثيرا، قالوا في أنفسهم أن هذا مجرد راقن على الآلة الكاتبة.

ولا تفوتني الفرصة هنا دون التوجه بتحية إكبار وتقدير وإجلال لرفيقيا العزيزان، علال الأزهر وابراهيم الموطى لكونهما تجنبا ذكر اسمي وعلاقتي التنظيمية القديمة بهما منذ مرحلة التأسيس، وهذا ما جنبني الكثير من العذاب الجسدي الذي لا قوة لدي لتحمله. أما بقية الرفاق فعلاقتي بهم جديدة تعود لما بعد اعتقالات أبريل 1972.

في أحد الأيام أيضا أخذوني عند كبيرهم، أو صغيرهم، لست أدري، فبادروني بالسؤال:
- أجي أولد الحرام أولد القحبة، أنت اسمك علال الفاسي،؟
قلت:
- لا، علال الفاسي زعيم وطني وأنا مجرد إنسان بسيط، كيف أصل لقامته وأحمل اسمه
وحكايتي مع هذا الاسم، أنني وقعت به شيئا في النشرة الداخلية الخاصة بالتنظيم والتي يطرح فيها النقاش الداخلي السياسي وآراء الرفاق حول التنظيم، كان عددا خاصا بنقاش مسألة الصحراء نشرت فيه آراء الرفاق حول الموضوع. ولما انهيت طبع العدد ذيلت آخر صفحة فيه برأيي في النقاش الجاري، ولم يكن هذا مقررا ضمن مواد العدد ولا متفقا عليه من هيأة التحرير التي كنت عضوا فيها، وقد وقعته باسم علال الفاسي، وأتذكر أن رفيقي الراحل عبد السلام المودن عاتبني برفاقية على هذا التصرف والنشر غير المتفق عليه.

أتوقف هنا وسأواصل حكاية ما علق بالذاكرة عن مولاي الشريف

استطراد على الهامش:

تحية للعزيزات والأعزاء وشكرا جزيلا لهن ولهم على تفاعلهن وتفاعلهم، وخصوصا للرفاق الذين صححوا بعض التواريخ أو الأحداث، وأتفق مع إضافتهم أو بعض آرائهم.
هذه الخربشات للتاريخ ولحفظ ذاكرة المكان والزمان



****


السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 6 –

وتتكرر الأيام بليلها ونهارها وتتابع الشهور التي لم نعد نتذكر أسماءها، فكل الأيام والشهور متشابهة، كلها عبارة عن ليل مظلم لا يأتيه النور لا من أمامه ولا من خلفه، نميز الوقت بأصوات الحراس حين تنتهي وقت حراستهم ويعوضون بآخرين، أو بصوت رئيسهم (الشاف) الجبلي وهو يزعق بلهجته الجبلية، “إعطي ليماه والا نجمعك معه بالحمار الآخر” والغريب أن هذا الجبلي نسمعه أحيانا يجود سورا من القرءان بشكل جميل، سبحان الذي جمع الخبيث والطيب في ذات واحدة.. وللإنصاف فهذا الشاف الجبلي يحرس أحيانا على نظافتنا، بين قوسين، فيسلمنا مقص الأظافر ويطالبنا بقص أظافرنا الطويلة والمتسخة وتبديل ما نرتديه من أسمال حين يرى بأم عينيه القمل يسرح ويمرح في أجسادنا، كما يقوم بتغيير الخرق الموضوعة على أعيننا بأخرى يعتبرها نظيفة، وفي بعض الأحيان يغير الأفرشة والأغطية. ومع ذلك فإن بذرة الشر وصفة الجلاد الشرس هي الغالبة في شخصه.
في إحدى الليالي أُمِر هذا الجبلي بأن يحضر أحد الرفاق للاستنطاق من طرف معلمهم الكبير، كما يسمونه، قد يكون قدور اليوسفي، أو مساعدا له يسمى الفاسي، وأعتقد أن الجبلي ومساعده الذيب، وهو أكثر خطورة منه، لأنه يعمل بصمت، يحضرون الاستنطاقات، ووجبات التعذيب..

في إحدى الليالي الباردة أخذوا أحد رفاقنا إلى مكتب الاستنطاق وحاولوا أن يكون النقاش معه فكري فلسفي فاستدرجوه ليعبر عن رأيه، بما أن الموضوع في نظره، ليس تنظيميا ولا سياسيا، وبعد إنهاء النقاش وعودة الرفيق لمكانه، جاء المجرم الجبلي ومعه مجموعة ممن يأتمرون بأمره وأوقفوه وبدأوا في تعذيبه بالسياط وهم يصرخون “دوي أولد الحرام، الكافر” ونحن نسمع ما ينزل برفيقنا من عذاب، وما يتحمله جسمه النحيل من ألم ضرب المجرمين، بصبر وثبات، أنا في تلك اللحظة بكيت وتمنيت لو أنني مت أو انشقت الأرض وبلعتني، ولا شك أن أغلبية الرفاق، أو كلهم، كان لهم نفس ردة الفعل في صمت. وأعتقد أن ما قاموا به كان مقصودا ومبيتا، الغرض منه بث الرعب ونشر اليأس والإحباط في نفوسنا.
تلك ليلة سوداء لا يمكن نسيانها.

في إحدى الليالي سمعت صراخا قويا وحين أصخت السمع جيدا تبين لي أنه صوت الرفيق الفقيد عبد السلام المودن، كان يسب ويلعن ويردد: الثورة الديمقراطية آتية يا كلاب، كان في حالة من الحالات التي بدأت تنتابه منذ ذلك الوقت، حين يرهق دماغه بالتفكير، فحتى وهو بين فكي فم الجلادين، كان يفكر في الثورة الوطنية الديمقراطية ومصير الوطن، لم يكن مهتما بمصيره الشخصي ولا بمستقبله.

بعد لحظة من هذه الواقعة حملوه إلى الزنزانة التي أتواجد بها، ومن حسن الصدف، وضعوه جنبي وبدأ الحديث معي وأطلعني على التصور الذي وضع خطوطه وبرنامج تنفيذه، والذي انبنى على ثلاثة محاور:

المحور الأول، تكوين جبهة وطنية عريضة من القوى التقدمية والاتفاق على برنامج للثورة الوطنية الديمقراطية، لإنقاذ البلاد من وضعها المتأزم.
المحور الثاني، إعادة بناء الذات وجمع شمل التنظيم الذي تلقى ضربة قوية من جراء القمع وبسبب الاعتقالات التي تعرض لها. بحديثي في ذلك اليوم، مع رفيقي المرحوم عبد السلام، بومارس، ارتفعت معنوياتي وازددت تشبثا بالأمل وثقة في المستقبل.. تحية لروحك الطاهرة رفيقي بومارس.

تحدثت عن حراس المسلخ، السيئين منهم، والأكثر سوءا والأشد قسوة، والمقام يقتضي الحديث عن بعض الاستثناءات، وهنا أشير إلى أحدهم أطلقنا عليه (الفلاح) كان ظاهرة فريدة في دار جهنم التي مررنا بها.

الفلاح، قليلة هي المرات التي حرس فيها بالمكان الذي كنت أتواجد به. كان يقول لنا أنا أصلي فلاح أرعى غنمي وأشذب أشجار زيتوني وقد تواجدت في هذا المكان، رغما عني، لن أضركم ولن أنفعكم ولكنني أتعاطف معكم وأرى فيكم أبنائي وإخوتى، كل ما أستطيع فعله في هذه الساعات التي أتواجد فيها معكم، هو أن أترك لكم حرية الكلام مع بعضكم البعض وتخفيف البانضة عن أعينكم، وكان هو يحرسنا خوفا من أن يرانا الجلادون السيئون، ونحن بدورنا نخاف عليه ونحرص أن لا يمسه سوء بسببنا. تحية لهذا الإنسان الذي لم يستطيعوا قتل بذرة الإنسانية داخله، وتحويله إلى وحش كاسر. فسلام عليه حيا أو ميتا، إن كان حيا أتمنى له الصحة والعافية وطول العمر، وإن كان ميتا عليه الرحمة والسكن في جنة الرضوان.

****


محمد فكري يروي يوميات معتقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة7)


سئل أصحاب الكهف كم لبثتم، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.. وإذا سئلنا نحن كم لبثنا في جهنم درب مولاي الشريف، منقطعين عن العالم والحياة العادية، سنجيب، لقد لبثنا سنة أو بعض أشهر. وإن كان الزمن قد توقف منذ الساعات الأولى التي دخلنا فيها دهاليز هذا الجحيم.

بعض طاقم حراسة هذا الدهليز، يتكون من أشخاص ينحدرون من قبيلة الجنرال سيء الصيت، محمد أفقير، البعض منهم لا يزال على الفطرة لا يعرف من المغرب أو العالم كله سوى قريته (عين الشعير) ولا من الشخصيات المسؤولة سوى الجنرال أفقير، ولاؤهم الكامل له به يسبحون ويهللون، وقد كانوا هم أيضا في وضعية احتجاز بطريقة ما.

من الطرائف التي كانت تقع مع أحد هؤلاء، في أحد المرات إشتكى أحد الرفاق المحتجزين من إصابته بمرض البواسير لأحد هؤلاء عله ينادي كبيرهم ـ الشاف ـ ليحضر له ما يسكن ألمه، وحين سمع هذا الحارس، كلمة البواسر بدأ يصيح بأعلى صوته وينادي أصحابه، “أجيوْ تسمعو ولد الحرام تيكول البواسير”، استغرب من كلمة بواسير واعتبرها ربما شتيمة، ورغم أن أصحابه حاولوا تهدئته وشرحوا له ما معنى كلمة بواسير، لم يقتنع وبقي يردد هذه الكلمة لأيام.

وفي إحدى المرات أيضا، طلب من رفيق أن يقوم لحلاقة شعررأسه، فقال له الرفيق، “واش ضروري”، فبدأ بالصياح، “واسمعوا ولد الحرام كال ليا واش ضروري”، كلمات يسمعها لأول مرة ويجهل معناها. كثيرة هي الطرائف المسلية التي كانت تحدث في هذا الجحيم نتسلى بها ونضحك، رغم كل ما نحن فيه وما نعانيه من عذاب أليم. إنها إرادة الحياة التي لم يستطيعوا قتلها فينا.

بعد أن مكثنا ما يقرب من السنة، بدأوا في فبركة المحاضر وصكوك الاتهام، فأخذوا كل واحد منا إلى مكان ما في هذا الدهليز، وسلموه ورقة وقلما وقالوا له أكتب عن شخصك منذ ولدت إلى اليوم واذكر الأعمال التي قمت بها، يتركونك وحدك لبعض الوقت. طبعا ما ستكتبه أنت لن يعتدوا به أو يأخذوه بالاعتبار.

مع بدء كتابة المحاضر بدأ بصيص من الأمل يتسرب لنفوسنا، معتقدين أو متوهمين، أن وقت خروجنا من هذا الجحيم وذهابنا للسجن، بات يقترب.

ولكننا كنا واهمين، فمسألة بقائنا أو خروجنا، مرتبط بتطور الأوضاع السياسية في البلاد وبضغط المنظمات والجمعيات الحقوقية والشخصيات العالمية في الخارج وخاصة فرنسا وببعض الدول الأوربية، وكذلك نضال عائلات المختطتفين، التي لم تترك بابا إلا طرقته.

في إحدى الصباحات، تفاجأنا بسماع أصوات تختلف عن الأصوات التي ألفنا سماعها، وتفاجأنا أيضا باختلاف في المعاملة، كنا حين نطلب من الحارس الذهاب للمرحاض، وننادي “الحاج نوض نبول” يجيب بكلمة “نوض” وهو جالس على مقعده، في ذلك الصباح، لم نكن نسمع كلمة نوض بل نحس بشخص يأخذنا ويذهب بنا للمراحض دون أن ينبس ببنة شفة. استغربنا من هذا التبدل المفاجئ، ومن غياب صوت “القوادة” و”القرد” و”نوض تبول” وغيرهم، كأن الأرض انشقت وبلعتهم وغابوا عن الوجود، إلى أن تقدم النهار وعلمنا بطرقنا الخاصة، أن طاقم الحراسة قد تم تغييره على إثر هروب بعض الضباط الذين شاركوا في محاولة انقلاب الصخيرات ومعهم المناضل المختطف، الحسين المانوزي، من معتقل بضواحي مدينة عين عاودة.

//*//

مرة أخرى، تحية للعزيزات والأعزاء، صديقات وأصدقاء، رفيقات ورفاق، ممن تفاعلوا مع هذه الخربشات وأغنوها بملاحظاتهم وتقيمهم الإيجابي أو تصحيح بعض التواريخ أو الوقائع، أو التعبير عن رأي مخالف.

تحية محبة لكل من مروا من دهاليز درب مولاي الشريف.. وسلاما لأرواح من غادرونا للعالم الآخر وما أكثرهم.


*****

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 8 –


إن وجودي في السجن لا يعني بالضرورة حرماني من الحياة، إن حياتي لها عدة معان
الشهيدة سعيدة المنبهي


من عذاب مخفر درب مولاي الشريف إلى عذاب غبيلة 8

بعد كتابة المحاضر وطبخ التهم وتكييفها، أخبرنا قدور اليوسفي أننا سننقل للسجن، وقد استبشرنا خيرا بهذا لأننا أخيرا ستبصر أعيننا ضوء النهار وربما تستدفئ أجسادنا بأشعة الشمس التى كدنا ننسي شكلها ولذة دفئها. وأخذنا نتخيل شكل عيوننا وردة فعلها، حين تقع على ضوء النهار وتواجه أشعة الشمس لأول مرة، بعد أن حرمنا منها لما يقرب من سنة.

في إحدى الصباحات حلقوا لنا شعر رؤوسنا التي كانت مرتعا للقمل يسرح فيها على هواه، ثم بعد ذلك سلموا لنا الملابس التي كنا نرتديها حين اختطافنا، وقد كنت أرتدي قميصا إشتراه أحد الرفاق من سوق الملابس المستعملة شبيه لما يردتيه الجنود، وبسببه أكلت “طرحة عصا” وسب وشتم وأسئلة عن مصدر هذا القميص ومن أين أتيت به، ولم يريدوا الاقتناع بما قلته، ربما كانوا يظنون، أو يعتقدون، أنني أنتمي لخلية عسكرية. وعلى ذكر ما حدث لي مع القميص العسكري، أتذكر في بداية تواجدنا بالدرب أتوا في أحد الصباحات، أو الليالي، فلا فرق لدينا بينهما، وبدأوا في جمع أنواع من الأحذية وأخذ أصحابها لاستجوابهم والتحقيق معهم حول مصدرها ومن أين اقتنوها.

في ذلك الوقت إنتشر نوع من الأحذية خفيفة وعملية، تتشابه في اللون والشكل (الدان)، بالصدفة كان عند العديد من الرفاق المختطفين هذا الحذاء. وربما ظنوا، أو شبِّه لهم، أنه ليس صدفة أن يكون هذا العدد من الناس ينتعلون نفس الحذاء شكلا ولونا.

أغلق هذا القوس، وأعود لأقول، سلمونا ملابسنا وشحنونا في سياراتهم ووجدنا أنقسنا في قبو محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، مكثنا هناك لساعات تم أخذونا وأدخلنا لأحد المكاتب وجدنا شخصا جالسا وراء مكتبه وأمامه أكواما من الملفات، بادرنا بالقول أنتم الآن أمام قاضي التحقيق، اطمئنوا ولا تخافوا. وبدأ في سرد التهم: أنت فلان الفلاني، متهم بمحاولة قلب النظام، والمس بالأمن الداخلي للدولة، وتكوين جمعيات سرية هي: 23 مارس، ولنخدم الشعب، وإلى الأمام، وطبع وتوزيع منشورات من شأنها الإخلال بالأمن العام.

الحقيقة أقول، صدمت بهذه التهم الثقيلة وساورتني الشكوك بأن الذي قرأ علي هذه التهم هو فعلا قاضي تحقيق همه الوصول للحقيقة، لقد اكتفى بسرد التهم الثقيلة ولم يكن يهتم بمعرفة الجواب أو تحري الحقيقة.

من هنا أخذنا لسجن غبيلة، وللعلم فغبيلة إسم مقبرة، على ما أظن.

كنا نتوهم أن المعاملة في السجن ستختلف، شكلا على الأقل، على ما كانت عليه في الدرب، ولكن سرعان ما تبدد هذا الوهم حين وجدنا في استقبالنا رئيس حراس الحي الذي سنقيم فيه والذي يسمونه، ويا للغرابة، الحي الأوربي، هذا الشخص إسمه العاود، ضخم الجثة طويل القامة يمضغ الكلمات مما يجعل فهم ما يتفوه به صعبا، ومعه رئيس الحراس إسمه الصبان، من لهجته فهمنا أنه مراكشي. كان هاذان الشخصان يزعقان بصوت مرتفع قصد إثارة الرعب في أنفسنا وللتدليل أن لا فرق بين مخفر درب مولاي الشريف وسجن غبيلة في طريقة المعاملة.. نحن في الحقيقة قابلنا طريقة استقبالهم بالابتسامة والسخرية. كان أحد رفاقنا يحمل في يديه مصحفا سلم له في الدرب، ولما رآه العاود خطفه منه بطريقة همجية وبزعيق شبيه بصوت الذيب، بما مفاده أننا هنا لا حرمة لدينا لأحد سواء حمل في يديه قرءانا أو أنجيلا أو زبورا أو أي شيء آخر.

قالوا لنا الآن ستذهبون للحمام واعتقدنا أنهم يريدوننا أن ننظف أجسادنا من وسخ مخفر درب مولاي الشريف، ولكنهم دخلوا معنا لما سموه حماما وطلبوا منا إزالة ملابسنا ففعلنا واحتفظنا بما يستر العورة، فزعق العاود “حيدو كل شي حتى السليب”. ظنا منهم أنهم سيهزموننا ويجعلوننا نفقد الثقة بأنفسنا، والعكس هو الذي حدث، هذه المعاملة الهمجية زادتنا إصرارا على المقاومة وعدم الاستسلام.

من هنا سأبدأ يوميات غبيلة.


*****


محمد فكري يروي يوميات معتقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة9)


تكونت لدي فكرة عن السجن، سواء قبل الاعتقال، أو حين تواجدنا بمخفر درب مولاي الشريف، على أنه مكان يُحترم فيه المعتقل السياسي، ويجد تعاطفا ومساندة من بعض حراسه وموظفيه. وقد ترسخت عندي هذه الانطباعات، سواء من خلال قراءتي لبعض الروايات، أو مذكرات الوطنيين والمناضلين الذين مروا من هذه السجون، سواء في فترة الحماية أو بعدها، خصوصا رواية “سبعة أبواب” للمرحوم عبد الكريم غلاب، وكذلك بعض ما سمعته شفاهيا من أصدقائي من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنوات الستينيات، ولكن كما يقول المثل، ليس من رأى كمن سمع.

بعد الترحيب بنا من طرف “العاود” ورئيسه “الصبان” ومن معهما، أُخذنا، عبد الحفيظ الحبابي ورشيد فكاك وأنا ووُضعنا في أحد الزنازين أرضيتها بلا فراش إلى أن أحضروا لنا بعض الأغطية المهترئة، “كواش”، كما يسمونها، اتخذناها كفراش عساها تقينا برودة أرضية الزنزانة الضيقة، رمونا هناك دون أكل أو شراب لساعات طويلة قبل أن يأتوا لنا بخبزة يابسة، إذا ضربت بها أحدهم قد تسيل دماؤه، وإناء من قصدير فيه سائل يشبه لونه تراب أرض يسميها الفلاحون “التيرس”، ووسط هذه المياه تسبح حبات عدس وذرات حصى وحشرة سوداء التي تسمى “الكوز”، كانت هذه هي وجبة اليوم كله. وضعونا في هذا المكان بشكل مؤقت، قبل أن يهيؤوا ما يسمونه الحي الأوربي ويفرغوه من المقيمين به، ليصبح مكان ضيافتنا لما يقارب ثلاث سنوات.

وهذا المكان يشبه زقاقا ضيقا بممره الطويل وغرفه المصفوفة بأبوابها الحديدية الداكنة اللون.

وضعوني في إحدى غرف هذا الدهليز لم أعد أتذكر رقمها ربما 8 أو 24 أنا والرفاق عبد الحفيظ الحبابي والمرحوم عبد اللطيف حسني، والرفاق محمد المهدي ومصطفي بنسعيد وعلى ما أذكر محمد فلوس ومحمد أزماني إن لم تخني الذاكرة. وفي فترة لاحقة أقام معنا عبد القادر الشاوي ومحمد الغريسي.

هذا المكان، الذي أطلقنا عليه صفة غرفة تجاوزا، كان بداخله مرحاض دون باب يستر من يلجه لقضاء حاجته، يجب أن تتعود على إفراغ فضلاتك أمام أنظار رفاقك، وأن تتكيف مع شم روائح ما تلفظه أمعاؤهم. ولهذه المراحض طرادات عجيبة، تطلق صفاراتها في وقت واحد وفي كل الزنازن وتحدث صوتا مزعجا يوقظ من كان نائما، والأخطر من هذا قد يفيض ماؤها في بعض الأحيان على الزنزانة ونحن نائمون. وهنا أشير لبعض الطرف التي وقعت لنا حين فاض علينا ماء المرحاض بسبب الطراد ونحن نائمون، استيقظنا مفزوعين وبدأنا في جمع أفرشتنا وأمتعتنا كي لا يصلها الماء، وبقي المرحوم عبد اللطيف حسني في فراشه ينادي بلهجته المحببة، “الكورفي الكورفي”. كنا في الزنزانة نتناوب على أعمال تنظيف أرضية الزنزانة وهذا يسمونه بلغة السجن “الكورفي”.. لروح رفيقنا عبد اللطيف حسني ابن البيضاء المحبب، السكينة والتحية والسلام.

+في اليوم الأول الذي وزعونا فيه على هذه الزنازن وأعطونا “كواش” الفراش والغطاء، وزعوا علينا أيضا أواني قصديرية، يسمونها بلغتهم، الستيام، سألني أحدهم واش عندك الستيام، فاعتقدت أنه سألني هل جئت للسجن على متن حافلة الستيام.

أول شيء فعلناه بعد أن رتبنا مكان إقامتنا، هو التعرف على بعضنا البعض، لأن من تواجدت معهم لا أعرف أي واحد منهم من قبل، باستثناء عبد الحفيظ الحبابي الذي تربطني علاقة صداقة منذ أيام الرابطة الفكرية بمراكش، ثم بعد ذلك داخل تنظيم 23 مارس الذي كان عضو لجنته الوطنية بعد إحدى الندوات التنظيمية التي انعقدت بمدينة الدار البيضاء وأطاحت بالقيادة السابقة عنها المكونة من المكتب السياسي، باقي رفاقي في الغرفة ينحدر أغلبهم من منطقة الشمال، طنجة، واد لاو، والمرحوم عبد اللطيف حسني من مدينة الدار البيضاء.

بعد استقرارنا بثوان، بعض الرفاق المدخنين شعروا برغبة وحاجة للتدخين ولا أحد لديه سيجارة، فكيف السبيل لإطفاء هذه الرغبة، فاقترح أحدهم أن يدخنوا “اللويزة” لأن طعمها وهي تحترق تشبه السيجارة الحقيقية، وقد كانت بعض أوراق اللويزة متوفرة في الزنزانة، نسيت من أين أتت، المهم، تم لف أوراق اللويزة في أوراق علب السكر، ودخنها المدخنون وأحسوا بعدها بنشوة، تكاد تقترب من نشوة سجارة التبغ الحقيقية. وحين جاء العاود وفتح الزنزانة لعدنا، وهذه العملية، العد، يقومون بها مرتين في اليوم، صباحا وفي المساء، وبشكل استثنائي، وربما لغرض استفزازنا، كانوا يمارسون عملية العدد أكثر من مرتين في اليوم..

لما فتحوا علينا في ذلك اليوم وشموا رائحة اللويزة، قالوا إنها رائحة الكيف، فاستغلوها فرصة وقلبوا الزنزانة رأسا على عقب بحثا عن الكيف، قلنا لهم إنها اللويزة فلم يصدقوا. وبعد التفتيش لم يجدوا شيئا، وهم يعرفون أننا بعيدون وبريؤون من تناول المخدرات.

وتتوالى أيام وليالي وشهور سجن غبيلة، ويزداد الصمود ومقاومة الخوف وتحدي الطغيان بكل أنواعه وتجلياته..

وللحديث بقية

ملاحظة على الهامش، من جديد تحية مودة وتقدير لكل من تفاعل مع هذه الخربشات، من رفيقات ورفاق عزيزات وأعزاء ممن عايشوا تجربة المعتقل السري وسجن غبيلة، وتحية موصولة للصديقات العزيزات والأصدقاء الأعزاء اللواتي واللذين جمعني بهن وبهم هذا الفضاء دون أن أحظى بشرف التعرف عليهم في الواقع. أشد بحرارة على أيدي كل واحدة وواحد.. أشكر الجميع.


***


محمد فكري يروي يوميات معتقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة10)


كنت محظوظا لأني وضعت في زنزانة مع بعض الرفاق الذين يسكنون الدار البيضاء أو لهم أقارب بها، وبالتالي لم نكن نتناول أكل السجن إلا لماما، فقد كانت عائلات الرفاق البيضاويين، تزود أبناءها بوجبات غذائية يوميا تقريبا، إلا إذا حدث طارئ قاهر، كامتناع إدارة السجن تسلم قفة العائلات، إمعانا في زيادة قمعنا ومنعنا من أبسط حقوقنا.

في البداية كان الخروج للفسحة لا يتعدى 10 دقائق صباحا ومثلها مساء، وبعد ذلك زادت قليلا، وقد قسمونا لأفواج كل فوج يخرج لوحده كي لا نلتقي أو ننسق مواقفنا. غير أن هذا لم يمنعنا من إحداث طرق وأساليب نتواصل بها ونكسر العزلة التي فرضوها علينا. جربنا أولا أن نتواصل عبر الزنازن بواسطة النقر على الجدار نقرات يفهم متلقيها ماذا تعني. أو الكتابة بأحرف خاصة لا يفهمها غير الشخص الذي كتبها ولمن كتبت. وهذه الحروف خاصة ومن اختراع من كتبها، لا تشبه أي حرف من الحروف المستعملة، ولا حتى الهيروغليفية أو السومارية، بحيث إذا وقعت في يد غير من كتبها والموجهة إليه، لن يستطيع فك رموزها.

كنا نضع هذه الرسائل في ملابسنا ونتركها معلقة في مكان الفسحة ليأخذها من وجهت إليه، ويكون جوابه بنفس الطريقة أيضا. هذه كانت هي وسيلة اتصالي برفيقي ابراهيم موطى وبالرفيق محمد الغريسي الذي كان معي في اللجنة التقنية المكلفة بإصدار 23 مارس والنشرات الأخرى الخاصة بالتنظيم.

السجن، رغم أنهم حاولوا أن يجعلوا منه استمرارا لدرب مولاي الشريف، بطريقة مخففة، إلا أنه أتاح الفرصة للقاء والنقاش وتبادل الرأي وكذلك الاتصال بالعالم الخارجي، ومعرفة ما يجري وما يحدث من تطورات على الصعيدين السياسي والحقوقي، هذا الاتصال كان عن طريق العائلات، أو بعض المحامين الذين يقومون بزيارة بعضنا من حين لآخر.

زيارة العائلات كانت تتم في ظروف لا إنسانية، في مكان يفصلك عن من تتحدث إليه شباكين يفصل بينهما ممر يتمشى فيه الحارس، مما يجعل من المستحيل أن تسمع كلام زائرك، فقط تحاول أن تفهم ما يقول من خلال حركة شفتيه.

تم نقلنا من درب مولاي الشريف إلى سجن غبيلة، على ما أذكر في أواخر غشت من سنة 1975، نحن مجموعة أولى، وكنا ننتظر أن يتم إحالة باقي مجموعتنا على السجن، غير أن هذا لم يحدث، فقد أحتفظ ببقية الرفاق في الدرب لأشهر طويلة أخرى.

كنا نفكر في وسائل تحريك قضيتنا كي لا نُترك منسيين داخل السجن، إما بإطلاق سراحنا أو عرضنا على المحاكمة. ووسائل النضال الوحيدة التي في متناولنا، هي أمعاؤنا، أن نخوض إضرابا عن الطعام لأثارة قضيتنا أمام الرأي العام الوطني والدولي.

وهكذا بدأنا نتمرن ونستعد للدخول في إضرابات عن الطعام، فكان أول عائق يعترضنا هو العزلة المفروضة علينا داخل السجن. بعد تفكير وتدبر توصلنا لحل مسألة التنسيق بين المجموعات والاتفاق على الاضراب وعلى المطالب التي سترفع للادارة. فبدأنا كتجربة وتمرين بإضراب عن الطعام لمدة 24 ساعة.

قرأت وسمعت عن الاضراب عن الطعام، ولكن أن أعيشه مسألة أخرى، كنت خائفا ومتهيبا، ليس بسبب فراغ الأمعاء فقط، ولكن أيضا ما قد نواجهه من قمع إدارة السجن.

فإدارة السجن تخاف من الاضراب عن الطعام، لأن أصداءه لن تبقى حبيسة جدران السجن، بل ستتعداه لتصل للرأي العام الوطني والدولي، وعائلات المعتقلين لن تبقى ساكتة، بل ستعمل على إيصال نضال أبنائها المشروعة، ومعركتهم العادلة من أجل حريتهم وكرامتهم، إلى كل من يهمهم الأمر، أحزابا ونقابات وطنية وجمعيات ومنظمات حقوقية دولية، وهذا ما يخشاه النظام ويحسب له ألف حساب.

هذا التمرين التجريبي عن الاضراب، مر دون خسائر أو حوادث تذكر، اللهم ما قامت به إدارة السجن بحرماننا من الفسحة اليومية واستفزازنا بتفتيش الزنزانة وجعل عاليها أسفلها، فاختلط السكر بالزيت وامتزجت القهوة بالشاي الخ.. وتطلب منا إعادتها لما كانت عليه، مجهودا شاقا أتعبنا ونحن مضربون عن الطعام.

أتذكر أن إدارة السجن جاءوا بأشخاص من متهمي الحق العام ووضعوهم معنا في الزنزانة، وربما أفهموهم أننا خطيرون، وبالتالي حذروهم من الكلام معنا، لا نعرف ما هو الهدف من وضعهم معنا، هل يريدون إخافتنا بهم، نحن استقبلناهم ورحبنا بهم وحاولنا أن نتجاذب معهم أطراف الحديث، ولكنهم لم ينبسوا ببنة شفة وبقوا صامتين مطأطئين رؤوسهم لا يرفعون عيونهم فينا، استمروا على هذه الحالة إلى أن أخرجوهم من زنزاتنا.

صارت الأمور عادية بين شد وجذب مع “العود” ومرؤوسيه، والتكيف مع وضع غبيلة.. أشرت أعلاه أنه كان من حسن حظي أن وضعت في زنزانة كان فيها رفاق يأتيهم الأكل من عائلتهم، ولا نتناول “بضانصي” السجن إلا لماما.

أما الرفاق الآخرون في المجموعات الأخرى، التي لا تستطيع عائلاتهم زيارتهم بانتظام، فيعيشون على ما يقدمه السجن من وجبات لا تسمن ولا تغني من جوع. وقد أطلقنا على أحد الزنازين بنغلاديش، لأن جل من فيها عائلاتهم فقيرة وبعيدة عن الدار البيضاء ولا تستطيع زيارتهم سوى لمرات متباعدة جدا.

من حراس السجن آنذاك، شخص اسمه “با دودو” هكذا كنا نناديه، كان عجيبا في معاملته، يقدم على بعض المبادرات لوحده، مثلا ينادي على اسم أحد المعتقلين بصوت مرتفع، ليس في زنزانته، ولكن في الممر، لنسمع نحن اسم المنادى عليه ونعرف أنه من رفاقنا. وفي بعض الأحيان يقوم بتحويل الأكل الذي ترسله أحد عائلة الرفاق في زنزانتنا إلى الزانزانة التي نطلق عليها بنغلاديش، والتي كان يتواجد بها الرفيقان إبراهيم وحسن موطى، يفتح الزانزانة ويضع الأكل ويغلقها ولا يقبل أي سؤال عن مصدر الأكل ولمن أتى. وكثير من المرات سمح لي بأن أقضي ساعات الفسحة مع رفيقي موطى وشقيقه حسن في زنزانتهما.

تحية ل”با دودو” الذي كان يتصرف بإنسانية، رغم التعليمات الصارمة التي أعطيت له بتشديد الرقابة واستبعاد أي تعامل تشم منه رائحة الإنسانية معنا. إن كان لا زال على قيد الحياة، أتمنى له الصحة والعافية وطول العمر، وإن كان قد غادر هذه الحياة إلى الدار الأخرى، أسأل له الرحمة والمغفرة من المولى جل جلاله.

مثل هؤلاء المواطنين البسطاء الذين يقدمون خدمات جليلة، رغم أنها قد تكون بسيطة في وقتها، مثل هؤلاء الناس، يجب علينا عدم نسيانهم وتخليد أسمائهم في سجلات التاريخ.

وللحديث عن غبيلة صلة

أجمل التحيات للعزيزات والأعزاء لتفاعلهم مع ما أخربش وتشجيعهم لي على الاستمرار في تذكر بعض ما جرى وما عشناه داخل معتقلات وسجون النظام. وللعلم فإني أنقل ما أتذكره كما هو دون إضافات أخرى.. أي دون توابل منسمة، وأعتذر إن غابت عني عدة أحداث وتاريخ وقوعها.
محبتي للجميع


***

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف ـ 11 ـ


يوميات درب مولاي الشريفة وغبيلة ـ 11 ـ

لا تسقني ماء الحياة بذلة = بل اسقني بالعز كأس الحنظل

بعد إضراب 24 ساعة، الذي كان تجريبا وتمرينا. فأغلبنا، إن لم أقل كلنا، كانت هذه أول تجربة اعتقال طويل لنا، أول مرة نعرف السجن والسجان، كنا نسمع عنه ونهيئ أنفسنا لدخوله، لأننا كنا على يقين أننا سنعتقل في يوم ما، أو حتى نقتل، لأننا نتصارع مع نظام لا يرحم ولا يتساهل، حين يشعر أن هناك من يهدد مصالحه، وإن كان يعلم أننا لا نملك لا دبابات ولا طائرات، بل ولا حتى مسمارا حديديا. كل ما لدينا أفكارا ومبادئ نؤمن بها ونسعى لنشرها وإشاعتها في المجتمع عن طريق تثقيف الناس وتوعيتهم بحقوقهم وفي أن يعيشوا كرماء أحرارا، ينعمون بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، أي مواطنون يتمتعون بكامل مواطنيتهم، لا رعايا يعاملون كعبيد أو كقطيع يساقون بالعصا.

صارت أيام السجن روتينية وانتظارية، ننتظر إما أن نُعرض على المحكمة لتقرر في أمرنا، أو تقع معجزة ما فتفتح الأبواب الحديدية ويطلق سراحنا، ولكن تمر الأيام والشهور ولا شيء من هذا حدث، ولم يتبق أمامنا سوى التفكير في وسيلة تبدد هذا الصمت وتكسر جدار العزلة الذي أقاموه حول قضيتنا. والوسيلة التي في متناولنا في هذه الحالة، هي الاضراب عن الطعام.

بدأ النقاش والتفكير في دخول معركة الاضراب عن الطعام وضمان نجاحه، ومن تم الاستعداد لمواجهة كل أساليب القمع التي ستقدم عليها إدارة السجن.

الصعوبة الأولى والأساسية التي يجب تدليلها، هي كيف ستتم عملية التنسيق في ظل وضعية العزلة التي فرضت علينا، بعد تفكير تم تجاوز هذه المسألة، رغم تعقيداتها، وتم الاتفاق على الدخول في إضراب محدود لمدة 15 يوما، يتم إعلام إدارة السجون والرأي العام الوطني، على أنه إضرابا لا محدودا.

كانت أول تجربة بالنسبة لي، دخلتها خائفا ومتهيبا من نتائجها، لم أكن أتصورها بنفس السهولة التي عشتها بها بعد ذلك في التجارب اللاحقة. اليوم الأول من الاضراب مر عاديا، بالرغم من استفزاز الادارة المتمثل في تفتيش الزنزانة، ومصادرة قطع السكر التي كانت لدينا، وحرماننا من الماء المعدني الذي أحضرته لنا العائلات.

في اليوم الثاني شعرت بفشل تام في جسدي وعدم القدرة على النوم، بقيت طيلة اليوم ممدا على ظهري وواضعا رجلا على رجل عاجزا عن الكلام أو الحركة، ولحد الآن لم أجد تفسيرا لهذه الحالة.

لم أعد أتذكر كم استمر هذا الاضراب، هل دام خمسة عشر يوما كاملة، أو توقف قبل إتمامها، كل ما أتذكره أنهم أخذوني في أحد الأيام من الزنزانة التي أتواجد بها لمكان يسمونه المصحة، وأغروني بالأكل وقالوا لي بأنهم مستعدون أن يحضروا لي شربة ساخنة وحليبا ساخنا لآكل وأفك الاضراب، ولكنني رفضت هذا الإغراء..
ولا شك أنهم استعملوا هذا الأسلوب مع آخرين غيري وتلقوا نفس الجواب

لقد كان إضرابا في ظل عزلة تامة وهذا ما أضفى عليه بعض الصعوبة، إضافة إلى أنها أول تجربة لي ولبقية رفاقي.

بعد هذا الاضراب، تحركت قضيتنا وتملمت بعض الشيء، كان من نتائجها إطلاق سراح 105 من رفاقنا بعدم المتابعة، أما الحياة العادية داخل السجن فلم يطرأ عليها سوى تغييرا طفيفا، لم يعد تصرف “العود” كما كان في الأول، خفف من روعنته بعض الشيء.

بهذه المناسبة لا بد أن أشير لتضحيات جسيمة لطرف أساسي في معركتنا، هن الأمهات الفاضلات، الجزء الأساسي من المعركة تحملته أمهات المعتقلين، تنقلن من مكان لآخر، وبعضهن لم يسبق لها أن خرجت من بيتها للشارع، وربما لا تعرف اسم الشارع الذي تقيم فيه. تواجهن مع البوليس واعتصمن في مقر وزارة العدل وإدارة السجون وفي مسجد السنة بالرباط، ولم يخضعن للتهديد والوعد والوعيد، بقين صامدات ومصرات على معرفة مصير أبنائهن وبناتهن وأزواجهن وإخوانهن، وهنا تحضرني أسماء العديد من الأمهات المكافحات، أذكر فقط البعض منهن ممن فارقن الحياة، كالمرحومة أمي عائشة، والدة الرفيق المرحوم مداد ووالدة الرفاق الحرش الصديق وعبد الله زعزاع ومصطفى أنفلوس وأحمد حبشي وأمي فاطمة والدة الرفيق حسن السملالي، ولا أنسى المناضلة ثورية السقاط رحمهن الله جميعا وأسكنهن في أعلى عليين. وتحية إكبار وإجلال لمن لايزلن على قيد الحياة، وأخص بالذكر أمي حليمة والدة الرفيق المرحوم عبد السلام المودن، والأخت المناضلة الضاوية شقيقة رفيقنا بلعباس المشتري، شفاه الله. وأعتذر إن لم أتمكن من ذكر جميع أمهات وأخوات رفاق مجموعتنا.

لقد كانت معاناة الأمهات أشد وأقسى، منهن من أصبن بصدمة بعد اعتقال فلذات أكبادهن، وفارقن الحياة بعد هذا الاعتقال بقليل، ومنهن من أصبن بأمراض مزمنة، نتيجة المبيت في الهواء الطلق، أو التنقل أثناء اشتداد قساوة البرد.

أيام السجن تمر ثقيلة، ولكن الإيمان بعدالة قضيتنا، وأننا على سراط الحق سائرون، يزيد في السرعة البطيئة لأيامه، حين يتم استغلالها في التثقيف الذاتي بالقراءة والحوار مع الذات، واستخلاص الدروس من التجربة ومعرفة مكامن القوة والضعف فيها.

في السجن يجب أن تكون عينك على خارجه دائما، ولو كنت محكوما بأقصى عقوبة.

للكلام بقية



****

السي محمد فكري يكتب عن معتقل درب مولاي الشريف – 12 –

هيئة التحرير 28 ديسمبر، 2019 اضف تعليق

يوميات درب مولاي الشريف وغبيلة ـ 12 ـ

بعد هذا الإضراب، بدأت الحياة تسير داخل السجن برتابة مملة، تتوالى الأيام والشهور ولا جديد في الأفق، كنا في وضعية البين بين؛ لا حديث عن مصيرنا ولا عن ماذا يريدون أن يفعلوا بنا، وضعية غامضة ومصير غير معلوم.
الزنزانة التي أتواجد فيها وكنا ثمانية، كانت هي عالمنا، رغم ضيق مساحتها، فبالكاد كانت تسع أجسادنا التي أنهكتها رطوبة وبرودة دهاليز درب مولاي الشريف، في ذلك المكان الضيق نقضي أغلب يومنا، أو كله، لأن ساعات الفسحة قليلة، فيه نأكل ونشرب ونقضي حاجتنا.

وقد حاولنا أن نجعل من زنزازنة ضيقة، عالما خاصا نتعايش فيه بالرغم من اختلاف البيئة التي أتى منها كل واحد منا، شمال المغرب وسطه وجنوبه. أول مرة أسمع بعض الكلمات باللهجة الشمالية، مثل “الخرسي” “الجعدة” وغيرها من أسماء الأشياء. وقد اضفى الرفيق محمد مهدي، الذي كان، قبل اعتقاله، طالبا بالمعهد الوطني للإحصاء، على حياتنا جوا من المرح، سواء بسخريته من الأوضاع التي نتواجد بها ومن حراس السجن، أو بنكته ومستملحاته المستمدة من بيئته بقرية واد لو الجميلة. وكذلك المرحوم عبد اللطيف حسني الذي كانت له لغته الخاصة وطريقته المحببة في السخرية مما يجري، وذلك قبل أن يغادر الزنزانة مع 105 الذين أطلق سراحهم بعدم المتابعة.

إلى جانب هذا الجو المرح، كنا نناقش مواضيع ثقافية وسياسية، ويقدم بعضنا عروضا في بعض المواضيع، ولا زلت أذكر أنني قدمت عرضا حول الحركة الوطنية، كان مثار نقاش مثمر ومفيد، وقدم الرفيق عبد الحفيظ الحبابي، عرضا حول ثورة عرابي في مصر.

وناقشنا مع المرحوم عبد اللطيف حسني كتاب الاقتصاد السياسي لفتح الله ولعلو، الذي كان من مقررات السنة أولى حقوق.

وقد كانت للمرحوم عبد اللطيف حسني طريقة خاصة في مراجعة دروسه، كان يقرأ بصوت عال، وهذا يجعله يصطدم مع باقي سكان الزنزانة، اصطداما حبيا رفاقيا، غالبا ما ينهيه الرفيق عبد الحفيظ الحبابي بإحدى نكته المراكشية التي يضحك لها الجميع، فالحبابي كان هو حكيم دولتنا الصغيرة ومجتمعنا المتعدد ثقافيا وسياسيا وإنتماء تنظيميا.

هكذا كان يمر يومنا داخل عالم محدود ومغلق، هو عبارة عن زنزانة قد لا تتعدى مساحتها ستة أمتار داخل سجن هو عبارة عن ملحق بدرب مولاي الشريف، بما يحاول أن يخلقه في نفوسنا من رعب وهلع، الهدف منه قتل بذرة التمرد ضد الظلم وسوء المعاملة، وإثنائنا عن الدفاع عن حقوقنا. ولكنهم فشلوا في الوصول لأهدافهم الخسيسة والشريرة، لأننا كنا ننظر إليهم باحتقار وازدراء ونُفهمهم أنهم لن يفلحوا في الذي فشل فيه أسيادهم. كنا بلغة المراكشيين “نعطيهم النخال”. وعكس هذا نتعامل مع الحارس “با دودو” الذي سبق أن تحدثت عنه، بلطف، ونكثر عليه من طلباتنا، رغم علمنا أن لا سلطة له، ونحاول أن نفهمه أنه صاحب الأمر والنهي، وكان هذا يعجبه ويحسسه بأهميته. مما جعله يقدم خدمات، رغم بساطتها، إلا أنها في الجو الذي كنا فيه وفي حالتنا، لها أهميتها.

مرة أخرى تحية لـ”با دودو”

استمرت حياتنا، في سجن غبيلة بوثيرة جعلتنا نتكيف مع إيقاعها ونتطبع معها، نستيقظ صباحا على صوت “العود” والرنين المزعج الذي تحدثه أكوام المفاتيح الحديدية الثقيلة التي يحملها في يديه، يفتح الزنازين ويبدأ في عد من فيها، هذه العملية تتم في الصباح والمساء، بعد عملية العد، نعد فطور الصباح، هم يوزعون علينا ماء ساخنا لإعداد الشاي أو القهوة وخبزة اليوم، وطبعا نحن لا نتوفر على وسائل لغلي الماء أو تسخين الأكل البارد الذي يأتي من العائلات، وبما أن الحاجة أم الاختراع، فقد التجأنا لاستعمال وسيلة للتسخين اخترعها نزلاء السجن يسمونها الفتيلة، وهي عبارة عن علبة سردين فارغة أو ما يشبهها، نضع وسطها قطعة صغيرة من الثوب مشبعة بالزيت، نوقدها ونضع فوقها ما نريد تسخينه.

وحتى هذه الوسيلة البدائية البسيطة، كانت من الممنوعات حيث يتم مصادرتها وإتلافها في حملات المداهمات والتفتيش التي كانت تقوم بها إدارة السجن في فترات غير متباعدة، والتي تعد وسيلة من وسائل القمع الهمجي، الغرض منها، ضرب روحنا المعنوية، وتذكيرننا أن غبيلة، لا تختلف في أسلوب المعاملة، عن درب مولاي الشريف، ولا ينقصها سوى “البانضة” و”المينوت”، أما “الجبلي” و”الذيب” فحاضران في شخص “العود” و”الصبان”.
وبالرغم من كل هذا، يستمر التشبث بالأمل والإيمان بأن الليل مهما اشتدت حلكته فإن ضوء الفجر بازغ لا محالة.

للحديث بقية


****

محمد فكري يروي يوميات معنقل سياسي بمعتقل التعذيب درب مولاي الشريف (الحلقة 13)


( كل نهر، وله نبع ومجرى وحياة!
يا صديقي!.. أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، ولها ميلادها..
كل فجر وله موعد ثائر.)
محمود درويش



في أحد الليالي، سمعنا حركة غير عادية في السجن وأصوات الحراس تسمع من على بعد أمتار من زنازيننا، والذي حل لغز هذه الجلبة التي كنا نسمع، مرة أخرى هو “با دود” ففي الصباح الباكر بدأ ينادي بأعلى صوته باسم محمد البشير الزناكي، والرفيق الزناكي كان من ضمن المجموعة التي بقيت بعدنا في الدرب لشهور أخرى، ولأول مرة أسمع إسمه كاملا.

سماعنا اسمه، جعلنا نتأكد أن رفاقنا قد جيء بهم من درب مولاي الشريف للسجن، هم لم يضعوهم في الحي الذي كنا فيه، بل وضعوهم في مكان آخر بعيد عنا. “وبا دودو” ربما كان مارا أو من ضمن المستقبلين، وبقي إسم محمد البشير الزناكي عالقا بذهنه، فأراد أن يوصل لنا هذه الرسالة بطريقته الخاصة دون إثارة انتباه الآخرين، وقد كان يتظاهر أمام الحراس ببعض السذاجة التي كثيرا ما تجلب له سخريتهم، والحقيقة أنه كان يتصرف بذكاء، ولم يكن ساذجا أو مغفلا، بل كان يعرف كيف يستوحذ على ثقة السجناء وعطفهم، وهم بدورهم، يحرصون على تجنب أي شيء يتسبب في ضرره.

بعد حضور رفاقنا للسجن بدأ العد العكسي لإحالتنا على المحاكمة، نحن كنا في عزلة شبه تامة في زنزانتنا، والأصح أنني كنت في عزلة تامة، لا أعرف كيف سيتم التحضير للمحاكمة، وأجهل كيف سأتصرف وأجيب عن الأسئلة التي ستطرح علي. فالمحامي الذي تطوع للدفاع عني، الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، زارني مرة واحدة فقط في الأيام الأولى لوضعنا بغبيلة. ولم يكن لدي أي اتصال بالخارج، ربما قد أكون الشخص الوحيد الذي لم يزره أي أحد، طيلة المدة التي قضيتها بسجن غبيلة، من غشت 1975 حتى مارس 1977.

المهم بدأت تصلنا الأصداء من الخارج عن طريق العائلات، أو من بعض المحامين، أن محاكمتنا على وشك أن تنطلق، وأن هناك هيئة دفاع قد تكونت قد بدأت الاتصال بالمعتقلين، وخصوصا ممن يعتبرونهم في القيادة، للتنسيق معهم ومناقشة الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه المحاكمة، وعلمت أنهم اقترحوا، هيئة الدفاع، أن تطرح كل القضايا المتعلقة ببرنامج الثورة الوطنية الديقراطية باسثناء قضية الصحراء وما يسمى “الجمهورية العربية الصحراوية”، فرفض الرفاق هذا الطرح وأصروا على عدم استبعاد تأييد البوليازريو وجمهوريتها، مما جعل هيئة الدفاع المقترحة والمكون أغلبها من الاتحاديين، تشعر بالحرج أمام هذا الموقف.

ويجب التنويه هنا أن الشهيد عمر بن جلون كان من بين المتطوعين في هيئة الدفاع عنا، وقد زار أحد الرفاق المعتقلين، لا أعلم من هو، قبل جريمة إغتياله بقليل. ومن عادة الشهيد أن ينكت دائما في أحاديثه، فقال في تلك الزيارة: “بعضنا أعتقل على دراجة هوائية “بشكليط” والبعض على دراجة نارية “موطور””.

كان يقصد بالحالة الأولى المرحوم محمد أطلس الذي أعتقل حاملا حقيبة مملوءة بالسلاح على متن دراجة هوائية، عن طريق الصدفة، بمدينة مراكش، وليس هذا فقط، بل إن هذه الدراجة كانت في ملكية لحسن زغلول المقاوم المشهور المكلف بإدارة مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش، والمسؤول التنظيمي عن إقليم مراكش؛ وقد كان البوليس يبحث عنه لاعتقاله في ذلك الوقت، والكل كان يعرف أن تلك الدراجة في ملكية المقاوم لحسن زغلول، فبواستطاتها كان يتنقل من مقر الحزب بشارع فاطمة الزهراء، طريق الرميلة، إلى منزله الواقع بسيدي أيوب أو باب أيلان، لم أعد أذكر الحي بالضبط، وخاصة من طرف البوليس السري السياسي.

والحالة الثانية يقصد بها محمد الكرفاتي الذي اعتقل أيضا صدفة، وهو على متن دراجة نارية بدون أوراق. وبقي صامدا في مخفر الشرطة لأكثر من خمسة عشر يوما دون أن يفصح عن اسمه وهويته، ونحن لم نستغل هذا الوقت لنتخذ الاحتياطات اللازمة والوقائية. وحين أرادوا أن يوجهوا للكرفاتي تهمة سرقة دراجة نارية، ويحيلونه على المحكمة، جاءته “النخوة” فأفصح عن هويته، ومن ثم إكتشف البوليس أنه وقع في يديه كنز ثمين جدا.

إنها أخطاء وقعت وكان من نتائجها الكارثية، في الحالة الأولى، أدت للحكم على المرحوم محمد أطلس بالإعدام، وقضائه حوالي 18 سنة في حي المحكومين بالإعدام، وتصوروا معي حالة محكوم بالاعدام وهو ينتظر وفي أية لحظة يقول هذه هي النهاية، وقد مر من نفس المكان، ضباط الطيران بقاعدة القنيطرة، المتهمون بمحاولة انقلاب غشت 72، أمقران ومن معه، الذين نفذ فيهم الإعدام، وبعد ذلك شهداء أحداث 3 مارس 73، عمر دهكون ومن معه، الذين أعدموا صباح أحد أيام عيد الأضحى، قبل أن يخفض حكمه إلى عشرين سنة، ويخرج من السجن بعد إتمامها. رحم الله محمد أطلس، ورحم كل شهداء وضحايا محاكمات سنوات الجمر والرصاص، دون استثناء، وفي الحالة الثانية، الكرفاتي، والتي أدت إلى هدم البناية التي حفر لها الأساس وشرع في وضع لبناتها الأولى، ولكن في لحظة، بدأ ردم الأساس وهدم ما شرع في بنائه.
/
حديث السجن لا ينتهي
/
أجمل التحيات للعزيزات والأعزاء، وجزيل الشكر لهن ولهم على ما أبدوه من اهتمام ومتابعة وتفاعل.
محبتي للجميع

****





















تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى