أدب السجون أحمد المرزوقي - عن "الأسنان الذهبية" وعودته إلى تازمامارت المنسية

جلست القرفصاء وسط ذلك المربع من الأرض الذي ترسم ضلوعه بقايا أساس، كانت تقوم عليه أربعة جدران صخرية قاتمة. حولي يتطاول حشيش عنيد يابس، وهنا وهناك، تتناثر أحجار بلون الحناء تارة، ولون الرماد تارة أخرى. أمامي سور صخري رهيب يدور شمالا ويمينا على شكل زاويتين قائمتين تمثلان نصف مستطيل.

أسفل السور، تصطف قبور بلا لوحات، تشير إلى هوية أصحابها وكأنها لحود جنود مجهولين سقطوا في ساحة شرف لم يعترف بها أحد. المربع الصلد الأقرع، كان قبر شبابي لمدة فاقت ثماني عشرة سنة، أما القبور، فهي قبور رفاقي الذين استعملهم خبراء الموت البطيء فئران تجربة، طبقوا عليها جميع الوصفات المتطورة، المفضية إلى أسفل دركات الجحيم.

المكان: تزممارت. والزمان: يوم الأحد 12 مايو الماضي .

صاحب الأسنان الذهبية

في انتظار قدوم قافلة طبية ( نظمها منتدى الحقيقة والإنصاف بمعية جمعية تأهيل ضحايا التعذيب بالمغرب وجمعيات أوربية متعددة ) انطلقت من البيضاء يوم 8 مايو في اتجاه مدينة فكيك، وبوعرفة ومدن هامشية أخرى، حللنا نحن قدماء معتقل تزممارت، أو قل بالأحرى ما تبقى منهم، للمرة الثالثة على التوالي إلى المكان الذي نزلت بساحته لعنات المخزن صبا صبا، لنترحم على أرواح أصدقائنا الراحلين، ونقرأ سورة ياسين على شبابنا.

المكان هو هو، إلا أن أيادي البشر وعوادي الزمن عاثت فيه فسادا: هُدمت الزنازين، وتهاوت أحجار الأسوار، ونبت الحشيش بين الأجداث، وتقوضت بعض المباني المبنية بالطين، وأصبح كل ما بداخل المعتقل يعطي الانطباع بأن إرادة خفية تسعى جادة لطمس معالم هذه الوصمة الحالكة، التي صبغت في عهد الرصاص جبين المخزن.

لماذا هدم معتقل تزممارت؟ ومن كان الآمر بهدمه؟ لماذا يتكلمون عن حفظ الذاكرة، بينما هم يفعلون عكس ذلك؟ لماذا لم يتم إلى اليوم تحديد هوية كل قبر من هذه القبور؟ أين ذهبت الوعود التي أعطيت منذ اثنتي عشرة سنة لتأهيل هذه المنطقة؟

أسئلة عديدة تبادلها المعتقلون السابقون مع سكان القرية الوديعة، التي كانت آمنة مطمئنة إلى أن ضُرب عليها الحصار ذات صباح دون أن تدري لذلك سببا. "من غرابة الصدف أني كنت ضمن العمال الذين بنوا المعتقل، وكنت ضمن من حفروا الأرض للبحث عن القبور" يقول أحد السكان ببساطة وهو يسترجع حكاية طريفة وقعت فور الانتهاء من بناء المعتقل: "دخل المقاول المرنيسي إلى إحدى الزنازين لإلقاء نظرة على التحفة التي أنجزها، فإذا بأحدهم يغلق الباب عليه من باب البسط، وما أن غمره الظلام والضيق حتى انطلق يصرخ ويستنجد بكل قواه، بينما أصدقاؤه ينفجرون ضحكا". ثم يسألنا وهو يجد في تزويدنا بمعلومات إضافية: "من من الراحلين كان يمتلك طاقم أسنان من ذهب؟"، نجيب بالإجماع:

"إنه الديك الجيلالي..."

بعد هذا الجواب الشافي علق الرجل: "لقد كان ملفوفا في غطاء لم يتآكل منه إلى القليل، وبقيت البذلة العسكرية التي كانت عليه مصانة كأنه لم يلبسها إلا بالأمس، أما شعره فقد كان فاحما غزيرا...".

تخترق أجسادنا شحنة كهربائية عنيفة، ونشعر بأيادي خفية تعتصر قلوبنا ونحن نستمع للرجل الذي بدا وكأنه يسرد علينا لقطة من فيلم مصاص الدماء "دراكولا"...

القرية المنسية

نعود إلى القرية، فنجد مجموعة من قدماء ضحايا إملشيل قد وصلت وفي مقدمتها شيوخ ونساء بلغوا من الكبر عتيا. يأخذ الكلمة رجل خمسيني فيتحلق حوله سكان القرية وتتطلع إليه عيون الأطفال ملتمعة بفضول بريئ: "جئنا إلى هنا لكي يندد بقوة بكل الوعود التي أعطاها المسؤولون ولم يتحقق منها شيئا. كنا نستبشر خيرا لما كان المرحوم بن زكري على قيد الحياة، ولما مات ماتت معه توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة...".

ينبري للساحة شاب في الثلاثين من عمره، ويتوجه إلى الخطيب المتحمس بلهجة تتميز غيضا: "أنت لست من تزممارت، وقد جئت ومن معك لكي تغطوا على هذا الحدث، نحن من لنا الحق في فضح التهميش الذي طال هذه المنطقة، نحن شباب موجز، عشنا وآباؤنا القهر والذل والإقصاء ومللنا من الخطب العصماء التي تتبخر في الهواء...أنت مسخر من ...".

تتهاطل التهم، ويتطور الصراع إلى بداية الاشتباك بالأيدي. في هذه اللحظة، تصل القافلة القادمة من فكيك، يتقدمها الدكتوران عبد الكريم المانوزي وعمر بن عمر.

تتوقف الحافلة القادمة من فكيك، وينزل راكبوها وعلى سحناتهم آثار التعب الشديد. حقوقيون، أطباء من مختلف التخصصات وأجانب، فيهم فتاة إيطالية متخصصة في علم الأنتربولوجيا، وأخرى تحضر دكتوراه في حقوق الإنسان. الحافلة الفاخرة التي جاؤوا على متنها، يسيل بنزينها بعدما ارتطم خزانها بصخرة مرمية في عرض طريق تزممارت غير المعبد.

ازداد تقاطر السكان بعد مجيء الحافلة، وتحلقوا حول الوافدين الجدد تحت خيوط شمس حارقة. هذا يوم تاريخي بالنسبة لهذه القرية المنسية المنكمشة على جرحها الغائر، كفارس مطعون ينزف في صمت وإباء. قرية طار اسمها في الآفاق وصار رمزا ممقوتا للبشاعة البشرية، وعنوانا قاتما للقساوة الإنسانية، دون أن يلمسها شيء من تلك الوعود المعسولة التي أطلقها المناضلون القدامى المتعاقبون على الكراسي الوثيرة لمجالس حقوق الإنسان المختلفة في التسميات والمتواضعة في المردودية والأداء... لماذا حين "يتمخزن" المناضلون القدامى، ينقلبون إلى أفاعي سامة تستمرئ نهش لحوم من كانوا يشاطرونها برودة الزنازين ورطوبة الأقبية؟

يتوجه الجميع إلى المقبرة ويقرؤون سورة ياسين وتبارك ترحما على المفقودين. تلتقط الصور التذكارية مع الناجين. سيدة اسمها نعيمة باح باح، تتمتم وهي تتنقل بين القبور وبين يديها صورة مكبرة لأخيها الراحل: "في أي لحد من هذه اللحود طمروك أيها الرجل العزيز؟"

يقصد الوافدون ملحقة مدرسة القرية حيث نصبت طاولات متلاصقة عليها مشروبات وشاي وأطباق من حلويات. بعدها يتوجهون بمعية المدير إلى فناء المدرسة. هناك وقف صفان من التلاميذ، الفتيات عن اليمين والأطفال عن الشمال. يبدو أن أهلهم بذلوا قصارى جهودهم ليكونوا في أبهى الحلل، ولكن الفرق رغم ذلك يبقى بين لباسهم ولباس أطفال المدن كبيرا. حين ينضاف الحصار الجائر إلى الفقر المدقع، تكتمل المأساة وتنطق المرارة من عيون الأطفال ولو كانوا صغارا.

تتعالى أصواتهم الرقيقة مرحبة بالضيوف: "هللي هللي يا رياح...وانسجي حول نومي وشاح". أطفال أبرياء دبغت الشمس مع شظف العيش وجوههم الصغيرة، فبدت كوجوه أطفال الهنود الحمر الذين شردهم وآباءهم الغزاة القساة القادمون من القارة العجوز.

هم لم يشردهم غزاة وإنما طالهم العسف والنسيان من أبناء جلدة يقطنون في حي بعينه يتواجد بقلب الرباط، ينامون على ريش النعام ويتكلمون عربية ركيكة على شاشات التلفزات، وفرنسية طليقة في البيت والصالونات.

القناة الرسمية الثانية تصور المشهد مركزة على الضيوف الأجانب وتسجل تصريحات من هنا وهناك، لتقتطع منها في عملية المونتاج ما تشاء وتبقي على ما تشاء. المهم هو أن يقدم الحدث في غلالة وردية شفافة تعطي الانطباع بأن المغرب العميق يعيش في بحبوحة النعيم والرخاء. يتواتر على أخذ الكلمة بعض الدكاترة ويتكلمون بإسهاب حول الغاية من الزيارة. يظهر عليهم بعض التوتر الناتج عن قلة ما لديهم من إمكانيات.هم يدركون أن الخصاص أكبر من أن تحد منه أدوية قليلة أو توزيع محدود للحقائب المدرسية. لسان حالهم يقول: العين بصيرة واليد قصيرة يا إخوان.

ما أن يأخذ الكلمة المندوب الإقليمي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان ويشرع في تعداد منجزات لا يراها إلا هو، حتى يقاطعه أحد شباب القرية بلهجة تتميز غيظا: كفاك هراء يا هذا ... هل رأيت في حياتك مستوصفا بلا طبيب ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء؟ كان عليك أن تفسر لنا أين ذهبت المساعدات التي أرسلها الاتحاد الأوربي لتأهيل المنطقة؟ يشعر الرجل بالحرج فيسكت وفي جعبته قناطير مقنطرة من لغة الخشب.

مجلس المحنة

عبد الله أعكاو، الساكن القديم للزنزانة رقم 5، والمرافق للقافلة مع محمد الزموري منذ الدار البيضاء، يأخذ الكلمة ويصرخ ملء حنجرته شارحا للحضور محنة رفاقه مع مجلس معاند، يأبى إلا أن يبقى ملف تزممارت معلقا.

يقترب ميكروفون دوزيم من أحد المعتقلين القدامى سائلا، فيجيبه هذا بجواب مختصر قائلا: لقد قمنا هنا سنة 2006 بتصوير ربورتاج حول المعتقل مع الصحفي رضا بن جلون في برنامج "الزاوية الكبرى"، لكنه لم يبث إلى اليوم. المشكل باختصار، هو أن هنالك يد خفية تسعى من باب العناد أن يبقى الملف معلقا، ولو على حساب صورة وسمعة الوطن في الخارج... نرجو ألا تركب دوزيم على الحدث وتقدم الملف وكأنه حل نهائيا".

تغيب الشمس على قبور وقرية تزممارت، وتغيب معها الوعود إلى أجل غير مسمى...




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى