أحمد العنيزي - صنعة اليدين.. قصة قصيرة

عرفت سي مسعود في سوق الترك منذ امد بعيد، وكنت امر عليه وهو يجلس على الرصيف في مدخل السوق كان يفترش شوالا فارغا ويضع امامه السندان والصندوق الخشبي الصغير الذي يحتوي على الادوات اللازمة التي يعتمد عليها في القيام بحرفته وجردل الماء الصغير الذي يكون عادة مملوءا بالماء الاسود وقلما يكون بدون فردة حذاء منقوعة فيه تنبعث منها رائحة الجلد.

ورغم ان سي مسعود يذكر دائما بمناسبة وبدون مناسبة عندما يحدث زبائنة وجيرانه انه لا يزال في سن الشباب الاان الناظر اليه يصعب عليه تصديق ذلك، كان سي مسعود سبدو انه تجاوز سن السباب بمراحل وان لم يستطع احد معرفة سنه على وجه التحديد، كانت نظراته الذابلة والشعر الابيض الذي يغطي فوديه دون بقية راسه الاصلع وجسمه الواهن كلها توحي بانه تجاوز الخمسين عاما فعلا، واذا حاول احد ما اقناعه بانه تجاوز العقد الخامس من عمره، دخل معه في نقاش طويلومجادلة مملة لا تنتهي يسوق فيها عدة ادلة وبراهين عن السيبة المبكر الذي ينتج عما يحيط بالانسان من متاعب في حياته وعما يلاقيه من صروف الدهر، ثم ينبى يتحدث عن ايام النضال الوطني ومعسكرات المجاهدين في بنينا ونقطة نجيب والشلظيمة ويسترسل في الحديث عن المقاومة الشعبية الباسلة وصبر الرجال الذين كانوا يحاربون عدوا عاتيا في ظروف سيئة.. وعن عدد المعارك التي اشترك فيها ليدلل بذلك على ان الشيب الذي يغطي فوديه ليس من اسباب التقدم في السن وانما هو نتيجة الاهوال التي مر ت به عندما انضم الى حركة المقاومة وساهم في الجهاد.

وما يكاد ينتهي من سرد احداث الحرب حتى يبدا الحديث عن عودته من بنينا عندما توقفت المقاومة وكيف عبر الاسلاك الشائكة ليلا وتسلل الى داخل المدينة خفية حتى لا تعلم به سلطات الاحتلال.. وبقى فترة مختبئا في ضواحي المدينة، ثم قرر ان يزاول مهنة يكتسب منها ما يسد الرمق، ولما كان قد تعلم منذ صباه صناعة الاحذية المحلية (البلغة) التي كان يزاولها والده فقد راقت له فكرة امتهان هذه الحرفة السهلة التي لا تحتاج الى خبرة واسعة. وبدا العمل بعدة استعارها من صديق له ولما لم يجد راسمال لصناعة احدية جيدة اتجه الى رنق الاحدية القديمة.

وبهذه الاحاديث المسوارة لا يدع مجالا لاحد يناقشه.

وبمضي الوقت اعتاد الناس على سماع احاديثه دون التعليق عليها فهم يعلمون انه صادق في جميع اقواله عدا مسألة السن، ولكن مع انه امضى سنوات طويلة من عمره في انحناءته على السندان حتى اصبح ظهره يكاد يدون احدبا واضحت اصابع يديه متنسقة فانه لم يتسرب اليه الملل من مزاولة مهنته وكان كثيرا ما يردد المثل الشعبي الموروث منذ اجيال والذي يقول.. (صنعة اليدين خير من ملك الجدين) ويفاخر بالمهنة التي ورتها عن والده ووجد فيها امانا من العوز والفاقة.

كان لديه عدة زبائن يترددون عليه ليرنق لهم احذيتهم ولا يكاد يمضي زبون حتى يحضر اخر. كان الناس يرفعون احذيتهم باستمرار. وكان يرتق لهم كلما وجد في الاحذية مكانا يتسع لقطعة جلد جديدة ولا يهم اذا كان لون الجلدة احمرا ولون الحذاء اسودا او كان لونها ولون الحداء احمرا… وما كان في مقدوره ان يرفض ترقيع حذاء متآكل ما دام يكتسب من ذلك ما يستر به رمقه، وما دام الزبائن لا يكترثون بتعدد الوان الترقيع.. كان يدرك ان كل حذاء قديم يرتقه لابد ان يعاد اليه بعد مدة، لان كل فتق قديم ما هو الا تضخم لرتق قديم.

وكلما تعدد الرتق كلما ضاقت الاحذية واستحال وجود منفذ للمحرزة فيها. وكلما ضاقت الاحذية كلما اضحت اكثر قابلية للفتوق والتمزن… لقد درت عليه هذه الحرفة مكاسب طيبة خلال السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية حتى تمكن من شراء بعض الصناديق الخشبية الفارغة وبناء (براكة) في مدخل السوق كان الناس يلجئون انذاك الى ترقيع احذيتهم، مرات ومرات، وامتلأت البراكة بالاحذية القديمة والصنادل والقباقيب الخشبية.واخذ سي مسعود يرقق اللاحذية ويعيد دق الاشرطة الجلدية في القباقيب المخزمة ويخيط الصنادل في جلد ومثابرة ولا يكف عن الحديث عن عوادي الزمان ومصائب الدهر، ولا يتوقف عن شرب الشائ الاخضر المر وتدخين سجائر الرايس السوداء التي لا تلبث ان تطفئ اذا غفل عن جذب انفاس طويلة منها ويضطر الى اعادة اشعالها مرة اخرى. وهكذا حتى يجذب اخر نفس فيها ويرمي بها امام البراكة لتتكدس مع الاعقاب الكثيرة المبعثرة والتي يأنف جامع الاعقاب من التقاطها… وظل راضيا بوضعه قانعا برزقه، لايفتأ يردد عبارات الحمد والشكر والامتنان.

ويجلس لساعات طوال يغرز المخرزة في الاحذية ويلتقط الابرة والخيط فيمرر الخيط في سم الابرة ثم يمرره في شمعة العسل وينفذ الابرة في الحذاء ويخرجها ويجذب الخيط بسرعة وبراعة. او يأخذ حفنة مسامير يضعها في فمه ويظل يخرجها واحدا واحدا ويلتقط المطرقة بجانب بعضها في بطن الحذاء وعندما ينتهي من دق المسامير يبصق على الارض بصقة سوداء تشبه ماء الجلد المنقوع. وفجأة اخد عدد الزبائن يتناقص باستمرار حتى لم يعد يرى زبونا واحدا يحضر له حذاء…. بل ان بعض الزبائن تركوا احذيتهم لديه ولم يعودوا لا ستلامها ودفع ثمن اصلاحها.. وتكدست الاحذية القديمة في البراكة وتراكم عليها الغبار.

واخذ سي مسعود يوالي الحضور الى السوق ويجلس امام البراكة ليعد الشاي ويدخن السجائر السوداء ويتحدث عن الاساطير الشعبية والبطولات الوهمية وينتظر من يحتاجون الى رتق الاحذية… وطال انتظاره ولم يحضر اه حذاء يحتاج الى رتق كما لم يعد يرى احدا يحضر له حذاء من احذية الجيش ليقوم بقطع اجزاء منه واقتلاع المسامير الكبيرة وتحويله الى حذاء يشبه الاحذية المدنية.

لقد حول عشرات الاحذية من عسكرية الى مدنية وبدل شكلها واكتسب خبرة في معرفة احذية الجيوش المختلفة وعرف منها الاحذية الايطالية ذات الجلد البني الخشن والاحذية الالمانية المصنوعة من الجلد البني والقماش الاخضر والاحذية الانجليزية ذات الجلد الناعم ومنها الوان سوداء والوان حمراء، والوان تختلف باختلاف جنسيات الجنود الذين كان يتكون منهم الجيش الثامن.

وتوالى حضوره الى السوق وجلوسه امام البراكة وتكراره للاحاديث المملة لكل من يجلس بجواره من جيرانه باعة المخلفات… وعندما سئم جيرانه من احاديثه ولم يعد يجد من يصغي اليه ظل يقتلالوقت بترديد الاغاني والاهازيج الشعبية. ثم بدا يتسرب اليه الملل من الجلوس بدون حركة ولما اخذت النقود التي وفرها تتناقص باستمرار اخذ يفكر في صمت وراء جيرانه يقضي يومه واجما مطرف الراس.

وعندما لااى ذات مرة احد زبائنه القدمى يدخل السوق بعد غيبة طويلة تهللت اساريره وظن ان فترة الركود والكساد قد ولت وان بقية الزبائن لا تلبت ان تعود تباعا لترقيع الاحذية التي لابد انها قد تمزقت من مدة طويلة.. وما كاد يقترب منه ويحيه حتى بادره متسائلا:

– وين هالغيبة يا سي فرج

– كنت تخدم في الصحراء في ابيار البترول.

– شنوهالبترول اللي جد عالوطن

– هذا يا سيدي قاز وبنزينا ونفطة شئ مكثر يسوى مال الدنيا.

– والله يا اوليدي ما عمري سمعت فيه قاز في البساط الخالي.

– كان زمان بساط خالي اليوم الصحراء جنة.

– نلقاها ما كنا نعرف الصحراء الا سريره رزقه يقتلك فيها العطش

– لا والله اليوم فيها خدمة وفلاويس.

ومضى فرج الى داخل السوق وظلت عباراته ترن في اذن سي مسعود الذي ظل مشدوها لفترة طويلة. وكانت الشمس تنحدر نحو المغيب حين وقف سي مسعود وجمع ادواته وادخلها في البراكة ثم التقط الموقد القديم وبراد الشاي ورمى بهما الى الداخل واقفل الباب ثم جذب السلسلة الحديدية العالقة به وادخل فيها القفل وضغط عليه بشدة حتى احكم قفله.

واستدار واخذ طريقه المعتاد الى البيت، ومنذ ذلك اليوم لم يعد احد يرى سي مسعودفي سوق التركة.


أحمد العنيزي

________________________
الرواد… ع (1) السنة الرابعة يناير 1968



* منقول عن موقع:
أعلى