د. عبد الجبار العلمي - ‘الرواية العربية ورهان التجديد’ لمحمد برادة.. بحثا عن استقلال الثقافي

صدر للناقد الروائي الدكتور محمد برادة كتاب جديد موسوم بعنوان ‘الرواية العربية ورهان التجديد’، وذلك ضمن الإصدارات التي دأبت مؤسسة الصدى على توزيعها مجاناً مع كل عدد من مجلة ‘دبي الثقافية’ الشهرية. وهذا الكتاب هو التاسع والأربعون من كتاب المجلة، الطبعة الأولى، ايار/مايو 2011، ويقع في 191 صفحة من القطع المتوسط.والكتاب يضم مجموعة من الدراسات حول الرواية العربية، بعضها يعنى بالتأريخ لها ورصد نشأتها وتطورها، وبعضها الآخر يتناول فيها بالدرس والتحليل نماذج من الرواية الجديدة معظمها لروائيات وروائيين من الجيل الجديد الذين ظهرت أعمالهم خلال العقد الأخير من القرن الماضي، والعقد الأول من الألفية الثالثة.ويتألف الكتاب من مدخل، وستة مباحث كما يلي: ـ مدخل بعنوان: ‘الفورة والتراجع في الإبداع العربي الحديث: نحو إعادة صوغ الإشكالية ‘ / الرواية والكتابة: إعادة تحديد وتمييز/ عن التجدد الروائي / تجدد الرواية وتجليات القطيعة / في تقييم الرواية / قراءة نصوص جديدة / كتبوا عن الرواية.والملاحظ أن الكتاب يتراوح بين التنظير والممارسة التطبيقية، بيد أن المهيمن هو الجانب التطبيقي، مركزاً بالخصوص على نماذج عديدة من الرواية العربية الجديدة. في المدخل يتناول الباحث إشكالية الإبداع العربي في الوقت الراهن، ويحاول إعادة صياغة الإشكالية المتعلقة بحجم الإبداع وعلاقته بتطلعات المجتمعات العربية، وذلك انطلاقاً من القضايا التالية:ا ـ كيف نقيس الانخفاض والفورة؟ / ب ـ الإبداع والتعبير عن المجتمع / ج ـ إعادة صوغ الإشكالية. يرى د.محمد برادة أنه لا يمكن الحسم في مسألة انخفاض الإنتاج الإبداعي والفكري وفورته بشكل دقيق، وذلك بالنظر إلى غياب إحصائيات علمية دقيقة تواكب عملية الإنتاج. تبقى المقاربة ـ في نظره ـ هي الوسيلة الممكنة لهذه المواكبة، وذلك عبر اللحظات الفارقة في تاريخ الإبداع العربي المتجاوبة مع الأحداث الكبرى في مسير المجتمعات العربية وأهمها هزيمة يونيو 67، ويلاحظ المؤلف أن تعبير الإبداع والفكر عن قضايا المجتمع أخذ يقوم على ‘الانشقاق’ عن استمرار الإجماع السياسي الذي كانت الأنظمة العربية توهم بضرورته من أجل تحرير فلسطين، وذلك بعد انهيار شعارات القومية العربية وأحلامها المجهضة بعد الهزيمة، فبرز للمثقف المستور، وانكشفت الأوهام. وهكذا طفق هذا الأخير يتوجه في فكره وإبداعه إلى تشريح وانتقاد الواقع العربي بكل ما يعتوره من مثالب على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، ويذهب المؤلف كذلك إلى أن ثمة عوائق تحول دون ازدهار الإنتاج الفكري والإبداعي، إلا أن هذا الإنتاج رغم ذلك، يتحدى هذه العوامل المعاكسة للتجديد والانفتاح على العصر، ومنها وقوعه بين فكي النظم القمعية من جهة، والمجتمع الرازح تحت وطأة التخلف الفكري من جهة أخرى.وفي ختام مدخله، يؤكد الباحث على ضرورة استقلال الحقل الثقافي عن تحكم ذوي السلطة والإيديولوجية، ويتم ذلك ـ في نظره ـ عن طريق التواصل الإيجابي المنتج بين المتلقين ومنتجي الفكر والإبداع.1 ـ الرواية والكتابة: إعادة تحديد وتمييز: في هذا المبحث النظري، يحاول المؤلف أن يعيد تحديد وتمييز مفهوم الكتابة لكي يوضح من خلاله العلاقة بين الرواية والكتابة، وذلك انطلاقاً من محاور ثلاثة: أ ـ مفهوم الكتابة وإجرائيته في السياق/ ب ـ استقلالية النص الروائي وتذويت الكتابة/ ج ـ الكتابة والانتماء إلى الفضاء الأدبي العالمي. يستعرض المؤلف في البداية مصطلح الكتابة عند ناقدين بارزين هما رولان بارت ورومان جاكبسون لينتهي إلى أن الكتابة هي أقرب ما تكون إلى استراتيجية الكاتب في اتخاذ موقف من عصره ومجتمعه عبر الاستيتيقا. ويرى أن القيمة الأساس للرواية العربية، تتمثل في ‘تذويت الكتابة’. ويعني بذلك ربط كتابة الرواية بإسماع صوت الفرد العربي الذي عرف التهميش والضياع في ثنايا الخطاب الرسمي أمداً طويلاً. ويأتي على ذكر العديد من الروايات التي علا فيها صوت الفرد الكاتب، يعبر من خلاله عن قلقه وتمزقه وهمومه الذاتية والوجودية. ويذهب إلى أنه بظهور هذا المتن الروائي الغزير، انطلق التجريب في الكتابة الروائية، وأخذ يتصادى مع تجارب روائية عالمية. ويخلص الباحث في هذا المبحث إلى خلاصة هامة مفادها أن الرواية العربية استطاعت أن تحقق تراكماً على مدى 100 سنة، يزخر بنصوص تحتفي بالكتابة، وتتبنى مقومات الرواية جمالياً ودلالياً تضاهي منجزات هذا الفن على المستوى العالمي. 2 ـ عن التجدد الروائي: في هذه الدراسة التحليلية، يرصد الباحث أسئلة الكتابة الروائية بعد هزيمة 1967، حيث يعتبر أن هذا التاريخ يسجل خروج الرواية العربية عن الخطاب السائد واللغة المألوفة اللذين طالما استغلا لطمس النكبات والهزائم وتزييف وعي الإنسان العربي بإيديولوجيا بائدة. وتتناول الدراسة المحاور التالية: أـ مفهوم ‘الرواية الجديدة’ أو التجدد، التجريب والتجديد. ب ـ مكونات شكلية ودلالية، وهي كما يلي: تشظي الشكل وكتابة في صوغها الأدنى / تهجين اللغة / نقد المحرمات / تذويت الكتابة / ـ ج ـ المعرفة الروائية في النص الجديد / د ـ استخلاصات وتساؤلات. يرى الباحث أن معنى الجدة والجديد لا ينبغي أن يخضع للمقياس الزمني، ذلك أن ثمة أعمالاً أدبية وفنية لها عمر طويل، وتحمل قدامة قرون وعقود، تظل محافظة على جدتها ‘من خلال تحريك مشاعر وأفكار متلقين يعيشون في زمن راهن’ (ص: 46 )، وبعد مناقشة قضية القديم والجديد القديمة الجديدة في النقد العربي، يعمد إلى دراسة مجموعة من الأعمال الروائية التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، باحثاً عن التجريب والجدة فيها، فيركز بوجه خاص على المكونات الشكلية والدلالية التي رأى أنها تهيمن على هذا المتن الروائي الذي تمت الإشارة إليها آنفاً، وهي: ـ تشظي الشكل الروائي، والكتابة في صوغها الأدنوي، ويعني بالتشظي كسر أنماط السرد الكلاسيكي، أما الصوغ الأدنوي فيعني به استعمال لغة مقتصدة، ، والابتعاد عن الإطناب في الوصف، والاعتماد على التلميح والصمت، واختصار السرد وتعويضه بتفاصيل صغيرة .. وهذا المكون ـ في نظره ـ يتيح للمتلقي المشاركة في إعادة تخيل النص. ومن الأعمال الروائية التي عني فيها الكاتب بدراسة هذين المكونين الشكليين نذكر على سبيل المثال لا الحصر ‘الرسائل’ لمصطفى ذكري؛ ‘تمارين الورد’ لهنا عطية؛ ‘وقوف متكرر’ لمحمد صلاح العزب .. ـ التهجين اللغوي، ويعني به استعمال لهجات اجتماعية متنوعة، ولغات المهن المختلفة، وابتداع الكلمات وتفريغ دلالاتها. ومن بين النماذج الروائية التي تبنت التهجين اللغوي والتواشج بين الفصحى والعامية ‘ألعاب الهوى’ لوحيد الطويلة. ـ نقد المحرمات، يلاحظ د.محمد برادة أن الثالوث المحرم (الجنس والدين والسياسة) حظي باهتمام لافت للنظر في الرواية الجديدة، حيث اتجهت إلى: فضح التناقضات والمفارقات السائدة في المجتمع العربي، بين المعلن عنه والمسكوت عنه / نقد الدين السلبي القائم على الترهيب والوعيد والتذكير بالموت وعذاب القبر / التنديد بالاستبداد والقهر والفوارق الاجتماعية، وسيادة قوانين الغاب في مجتمع قاهر لا يرحم. ويذكر المؤلف نماذج من الروايات التي عالجت هذه الموضوعة، مثل ‘سحر أسود’ لحمدي الجزار؛ ‘بمناسبة الحياة’ لياسر حافظ؛ ‘تبكي الأرض، يضحك زحل’ لعبد العزيز الفارسي.ـ تذويت الكتابة، ويعني بهذا المصطلح: حرص الروائي على إضفاء سمات ذاتية على كتابته، وذلك من خلال ربط النص بالحياة والتجربة الشخصيتين، ويلاحظ أن الروايات الجديدة تلجأ أكثر فأكثر إلى السيرة والتخييل الذاتي ( ص: 67 )أما بخصوص المعرفة التي تقدمها الرواية الجديدة، فيرى الكاتب أنها تنقل إلينا معارف متنوعة تتوزع بين مجالات النفس، والسلوك والذاكرة ووصف الحياة اليومية ورصد بعض الظواهر الاجتماعية، وإعادة تأويل التاريخ عبر التخييل (ص: 68 )، كما يشير إلى أن هذه الرواية ركزت في العقدين الأخيرين على كثير من الظواهر السلبية التي أفرزها الواقع الراهن على مختلف الأصعدة.وفي ختام هذا المبحث التطبيقي الهام، يقدم الكاتب مجموعة من الخلاصات يلخص فيها ما ذكره من آراء حول القضايا المضمونية والفنية التي درسها فيه. وينتهي في الأخير إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن الكتابة الروائية العربية في طريقها إلى التطور، بيد أن هذا التطور لا يستند إلى جمهور قارئ، مقارنة بالروايات التي ظهرت في سنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي، مما يجعل هامش رواجها يضيق، وحجم تجديدها يتضاءل. وهذا الأمر يعتبر ـ في نظره ـ من آفة الكتابة المنفلتة في كثير من الأحيان من قواعد الفن الروائي ( ص: 73 ) 3 ـ تجدد الرواية وتجليات القطيعة: ينطلق د.محمد برادة في هذا المبحث التطبيقي الذي يخصصه لقراءة بعض الروايات الجديدة من ملاحظتين أساسيتين: أولهما أن التجدد الروائي ينبغي أن يلتمس في استراتيجية الكتابة، وتفاعلها مع حياة المجتمع، وطموحات الذات الكاتبة إلى التحرر من الإكراهات المختلفة. وثانيهما أن القطيعة المبرزة لهذا التجدد تتمثل بشكل أساس في اللغة والشكل ونوعية التخييل، وغيره من المكونات النصية التي تنآى عن المنوال السائد من أجل إيجاد عناصر أقدر على تمثيل صيرورة العلائق والمستجدات (انظر ص: 79 )، ثم يتناول بالدرس والتحليل نماذج من الروايات الجديدة الصادرة في العقدين الأخيرين لروائيات وروائيين من مختلف الأقطار العربية، وذلك لرصد ما تتضمنه من تجديد وقطيعة بالقياس إلى الاتجاهات الروائية السابقة لها زمنياً وسياقياً. ويركز المؤلف في هذه الأعمال على دراسة ثلاثة مكونات مشتركة بينها هي: السرد والثيمة / الشكل واللغة / المتخيل، وهذه الأعمال الروائية هي كالتالي: ‘كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب’ لعدنية شلبي (فلسطين)؛ ‘دع عنك لومي’ لخليل صويلح ( سوريا ) ؛ ‘ فيلسوف الكرنتينة ‘ لوجدي الأهدل (اليمن)؛ ‘إنجيل آدم’ لمحمد علاء الدين (مصر)؛ ‘بمناسبة الحياة’ لياسر عبدالحفيظ (مصر)؛ ‘أهل الهوى’ لحزامى حبايب (الأردن)، ويخلص بعد قراءته هذه النصوص من خلال مكوناتها المشتركة المذكورة، إلى خلاصات أهمها: أ ـ وجود تمايز واضح بينها وبين كثير من روايات جيل الستينيات سواء على مستوى السرد، أو على مستوى تبني الشكل المتشظي ذي البنية المفتوحة ،أو على مستوى المزج بين اللغة المكتوبة والمحكية واستغلال معطيات التقانة والوسائط الإعلامية. كما يتبين هذا التمايز في أن هذه النصوص الروائية الجديدة تتجه صوب ‘تذويت’ الكتابة الروائية بإفساح المجال لحضور الذات الكاتبة وإسماع صوتها، وتخليص الخطاب من المرجعية الإيديولوجية المشتركة لكي يستوحي الوضع المبهم الغامض الذي يحيط بالذات. بينما نجد الرواية الستينية تهتم بتقديم صورة تتوخى ‘الموضوعية’ عن المجتمع وما يمور فيه من صراعات . ولذلك يرى الباحث أن ثمة حضوراً في الرواية الجديدة للعناصر المتصلة بالواقع الراهن على مختلف المستويات، وهو حضور أكثر قوة وبروزاً مما يوجد عليه الأمر في روايات الستينيات. ب ـ اقتراب المتخيل من جدلية تتبادل الـتأثير بين المبدع الفرد النازع إلى فرض نفسه، وبين المؤسسة الجاثمة على صدره سواء منها السياسية أو الدينية أو الاقتصادية، ومن ثم يرى الباحث أنه بقدر ما يكون تشخيص متخيل الواقع الراهن قائماً على التفاصيل الملموسة، يظل المتخيل البديل في النص غير واضح المعالم لأنه يتميز بالرفض وبعدم الانتماء تجاه مجتمع يسير بشكل حثيث نحو الانحدار والانفجار. ومن هنا فهو يختلف عن متخيل رواية الستينيات الذي كان يقوم على قيم راجحة شكلت آنذاك دعائم ‘المتخيل الوطني’ الذي يتسم بالتفاؤل والتطلع إلى التغيير. 4 ـ في تقييم الرواية : يقدم الكاتب في بداية هذا المبحث نظرة مركزة عن التحولات التي عرفتها الرواية العربية منذ القرن 19 إلى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي، والقضايا التي عالجتها، والاتجاهات الروائية التي انتهجتها من واقعية اجتماعية، وواقعية نقدية، وكتابة حيادية، وكتابة ذاتية ـ اجتماعية منفلتة. ويشير إلى أن هذا النوع الأخير من الكتابة هو الذي اكتسح المشهد الروائي العربي في السنوات الأخيرة، كما يشير إلى ظاهرة الرواية ‘ النسائية’ في الخليج العربي التي تناولت بشكل جريء قضايا الجنس والقهر في مجتمع أبيسي. بعد هذا العرض المركز، يدخل الكاتب إلى صلب الموضوع (تقييم الرواية والمقاييس التي يتعين اعتمادها في هذه العملية)، فيرى أن على النقد الروائي أن يعترف بالتنويعات التي عرفتها الكتابة الروائية المستجدة، وأن لا يقف من بعضها موقفاً إقصائياً، ذلك أن التحول في مفهوم الرواية من خلال نماذج متنوعة منها جعلها تدخل السوق التجارية التي أصبحت تحدد قيمة العمل بمدى الاستجابة لانتظار القارئ، وهو قارئ لا يبحث عن الجودة بقدرما يبحث عن التسلية (ص: 100 )، فما المقاييس التي يتعين على الناقد اعتمادها لتقييم الرواية؟ يرى الكاتب أن مسألة التقييم بالنظر إلى نوعية المتلقي وذائقته الأدبية، تتطلب استحضار مختلف نماذج الرواية العربية المطروحة في السوق التي تتوفر على مضمون اجتماعي وشكل فني يستحق الدراسة والتحليل. وهنا يطرح ظاهرة أصبحت معروفة في الساحة الأدبية في العقدين الأخيرين، هي ظاهرة ‘الكتاب الأكثر مبيعاً’ و ‘الأكثر رواجاً’، وذلك في ظل شروط مماثلة للشروط المتحكمة في السوق الأدبية على المستوى العالمي، من حيث تكاثر الجوائز الأدبية والإشهار والتسويق وغيرها من الوسائل الجذابة. ولكن الكاتب يتبنى بهذا الخصوص رأي امبرتو إيكو في كتابه ‘عن الأدب’ المتمثل في القول بالنص ‘الأكثر رواجاً النوعي’ إذ يتحول المتلقي من مستوى ‘الأكثر رواجاً’ إلى مستوى الأكثر رواجاً المتوفر على نوعية مميزة، وهي ظاهرة ـ حسب إيكو ـ قديمة، نجدها ممثلة في أعمال عالمية لكبار الأدباء أمثال دانتي وشكسبير وسرفانتيس وغيرهم الذين حققوا رواجاً واسعاً على رغم تمسكهم بقيم فنية ودلالية نوعية..(انظر ص: 104)، ويشير إلى أن مرحلة ما بعد الحداثة غيرت الكثير من مقاييس التقييم الفني والأدبي . ومن أهم الدراسات التي أعادت طرح الإشكالية من منظور مغاير، دراسة الناقد جوشن شيلت ساس Jochen Schulte – Sae) ) بعنوان ‘ التقييم في الأدب ‘ منشورة ضمن كتاب جماعي ‘نظرية أدبية’ ( 1989، دار PUF ) التي يتوصل فيها إلى رأي مفاده ‘أن يعتمد التقييم على ‘ممارسة سياسة اللغة’ بوصفها تنظيماً دلالياً للتجربة البشرية، لا يضع حدوداً بين مختلف مجالات الإنتاج والإبداع، ويترك الباب مفتوحاً أمام تبادل التأثير، فتغدو بذلك ممارسة ضرورية مع بقائها نهائية’ (ص: 107 من كتاب د.م.برادة)، ويخلص الباحث في نهاية هذا المبحث إلى أمرين: أ ـ أننا حين نستبدل سيرورة التقييم بالقيمة الثابتة، فإن ذلك يوسع الدائرة لاختيار المقاييس وملاءمتها مع مستجدات النصوص الروائية/ ب ـ أنه من المفيد والمثري أن ينفتح نقد الرواية على وجود رواية ‘أكثر رواجاً وذات مستوى نوعي’ يكتبها روائيون شباب يوجدون في سياق معرفي وتواصلي يتيح لهم الجمع بين الجودة الفنية والعمق الدلالي والقرائية الواسعة. (ص: 109 )5 ـ قراءة في نصوص جديدة: في هذا المبحث يقدم الباحث قراءات نقدية كتبها في تواريخ متفرقة لمجموعة من النصوص الروائية العربية الحديثة، تنتمي إلى عدد من الأقطار العربية: السودان ـ المغرب ـ لبنان ـ مصر ـ فلسطين، وهي كاتالي: ‘موسم الهجرة إلى الشمال’ للطيب صالح ـ ‘القوس والفراشة’ لمحمد الأشعري ـ ‘دموع باخوس’ لمحمد أمنصور ـ ‘استوديو بيروت’ لهالة كوثراني ـ ‘حليب التين’ لسامية عيسى ـ ‘أن ترى الآن’ لمنتصر القفاش.يتناول الباحث في قراءته هذه الروايات القضايا التي تعالجها، وطرائق السرد الجديدة التي تعتمدها. ففي رواية ‘موسم الهجرة ‘ يركز على عنصرين هما: طرائق السرد وشمولية الثيمات التي تعالجها الرواية كالعلاقة بالآخر وغيرها من الثيمات التي تندرج كلها فيما هو شمولي كالثقافة والتاريخ والحضارة، ولذلك يعتبر الكاتب هذه الرواية نصاً شمولياً بمعنى أنه ‘يتعدى السياق المحلي ليلامس الكوني المشترك على صعيد التجربة الجمالية والدلالية في تلقي النص’ (ص: 118)؛ وفي رواية ‘القوس والفراشة’ يرصد الكاتب الأحداث والوقائع المتصلة بالواقع المغربي الراهن كبروز ظاهرة الأصولية، وحوادث الإرهاب، والانتهازية السياسية، وذلك من خلال بناء فني يقوم على تعدد الأصوات، والارتداد الزمني، واستغلال أجواء الشعر والأسطورة والسرد الواقعي وما فوق الواقعي . ويخلص إلى أن هذه الرواية استطاعت أن تحقق جزءاً من المعادلة الصعبة التي تعتبر الرواية فضاء للمتعة والمعرفة ؛ وفي رواية ‘دموع باخوس’، يشير الكاتب إلى شكلها المركب القائم على التجريب، وتعدد الأصوات واللغات، وتعدد الخطابات، حيث نجد تجاوراً بين الأسطوري ـ الشعري، والسياسي ـ التاريخي، والتأملي حول الكتابة وفلسفة الرواية. كما أنه يلخص مضمون الرواية الذي يتحدث عن نظرتين مختلفتين إلى الحياة: الأولى تعطي الأولوية إلى الحياة والمتعة والنشوة القصوى للاقتراب من جوهر الحياة، والثانية: تعطي الأسبقية للسعي وراء الحقيقة والعمل على إصلاح العالم؛ وفي رواية ‘استوديو بيروت’ يركز المؤلف على توظيف الروائية السينما والسيناريو في بناء النص ورسم الشخصيات، وتعدد الأصوات، كما يشير إلى أن الرواية تعالج الآثار التي خلفتها الحرب الأهلية على بيروت وعلى أهلها. ويخلص إلى أنها نص يزاوج بين المتعة والتحليل ويرصد ملامح منسية من لبنان الذي يعيش باستمرار في حالة توجس وخوف’ من دون أن يتخلى عن متابعة العيش وخلق قصص الحب والهيام’ (ص: 136)؛ في ‘حليب التين’ يستعرض الكاتب بعض فصول الرواية، متحدثاً عن أهم أحداثها، لافتاً نظرنا إلى المعالجة الجديدة للقضية الفلسطينية فيها، فالرواية تمثل انتقالاً من مرحلة الرواية المثالية الثورية إلى مرحلة رصد الواقع الفلسطيني بكل ما يعتوره من سلبيات على مستوى القيم، وتقديم الإنسان الفلسطيني (الفلسطينية) شخصاً عادياً من لحم ودم، له نزواته وزلاته بعيداً عن الصورة المثالية التي نجدها له في النصوص الأدبية والشعارات الثورية، وذلك بصراحة وجرأة، وبقدرة على السرد والتعبير دعمت الروائية على اقتحام هذا الموضوع الشائك الذي قد يعتبر ضمن المحرمات في الوقت الراهن ؛ وفي ‘أن ترى الآن’ يشير المؤلف إلى مكونات شكلية لفتت نظره في الرواية مثل تكسير السرد الطولي، وتوظيف الحوار الفرعي، والابتعاد عن الرسم التقليدي للشخصيات، وتبني سرد شبه بوليسي، كما يقدم لنا بشكل تفصيلي أحداث الرواية، مركزاً على أزمة البطل مع زوجته، ووقوفه موزعاً بين امرأتين: زوجته، وصديقته القديمة، وينتهي إلى أن هذه الرواية تثير الانتباه إلى إمكانات أخرى في الكتابة الروائية، وأنها تتجه إلى مزج الواقع بالخيال، والمعيش الخارجي بحركات النفس الداخلية. (ص: 146 ) 6 ـ كتبوا عن الرواية: ينضوي تحت هذا العنوان عملان من ترجمة الكاتب ـ المترجم عن الفرنسية، وعرض لكتاب، أما الأول فيحمل عنوان ‘أفكار عن الرواية / توماس بافيل: تدعونا الرواية أن نجد مكاننا في العالم’، وهو عبارة عن حوار أجري مع الكاتب ونشرته مجلة ‘ لوفيغارو’ بتاريخ 27 آذار/مارس 2003. حول كتابه ‘فكر الرواية’؛ والثاني بعنوان ‘أفكار عن الرواية’ لتوماس بايل، وهو دراسة مطولة حول تاريخ الرواية؛ أما العرض، فيتعلق بكتاب ‘الرواية لأجل أي شيء؟’ الصادر عن سلسلة ‘المحاولات النقدية’ التابعة لمجلة ‘ورشة الرواية’، والكتاب يكتب فيه عشرون روائياً وناقداً ليجيبوا عن السؤال السابق.بقي أن نقول في ختام هذه القراءة، إن كتاب ‘الرواية العربية ورهان التجديد’ للناقد الروائي الدكتور محمد برادة، كتاب غني بالدراسات الجادة حول الرواية العربية، ومواكبة دائبة للنصوص الروائية الجديدة التي صدرت في أقطار متعددة من الوطن العربي في العقدين الأخيرين، واحتضان لأعمال كاتبات وكتاب شباب أبانوا عن مواهب متميزة في مجال الكتابة الروائية، ورصد شامل لتجليات التجديد في الرواية العربية سواء على مستوى البنية أو الدلالة.

د. عبد الجبار العلمي


‘الرواية العربية ورهان التجديد’ لمحمد برادة: بحثا عن استقلال الثقافي عن السلطوي والايديولوجي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى