د. عبدالجبار العلمي - الشخصيات وأدوارها في رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني

سنحاول الدخول إلى عالم الشخصيات في رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني من خلال مفهوم الأشخاص العوامل الذي قال فيه الناقد الألسني الفرنسي «جريماس» على اعتبار أن القصة/ الرواية هي مجموعة أفعال أو مجموعة أعمال تقوم بها جماعة من العوامل يصل عددها إلى ستة: 1 ـ العامل الذات. 2 ـ العامل الموضوع. 3 ـ العامل المرسِل. 4 ـ العامل المرسَل إليه. 5 ـ العامل المساعد. 6 ـ العامل المعاكس. إن توزع هذه العوامل بهذا الشكل يتبدى في رواية «رجال في الشمس» عبر ممثلين (والممثل في القصة في هذا المنهج قد يكون إنساناً أو حيواناً أو فكرة أو شيئاً ما) يمثلون مجموعة من الوظائف هي: منع ـ خرق المنع ـ خوض التجربة ـ الفشل فيها ـ مساعدة ـ إساءة الخ.. ووراء كل هذه الوظائف أشخاص يقومون بها. والملاحظ أن الرواية تمتلئ بالشخصيات، وسنحاول تناولَها انطلاقا مما تُقَدِّمُ من أعمال.
1 ـ العامل الذات والعامل الموضوع: إن العامل الذات في أي عمل روائي يتمثل في البطل أو البطلة، بينما يتجسد العامل الموضوع في الشخص أو الشيء المتاق إليه. وفي حالة روايتنا، نجد أن العامل الذات، ليس شخصاً واحداً، بل ثلاثة أشخاص أو ممثلين، هم: أبو قيس ـ أسعد ـ مروان الذين قاموا برحلة جهنمية في صحراء شاسعة محرقة من أجل الوصول إلى الكويت، حيث يحقق كل منهم أحلامه الخاصة. وهكذا تمثل الكويت العامل الموضوع الذي تصبو إليه الشخصيات الثلاث. نقرأ في فصل: أبو قيس: «هناك توجد الكويت.. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم.»، ونجد أسعد يفكر: «سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في أقل من شهر. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقوداً في لمح البصر»، أما مروان فيقول في حوار داخلي: «لا بأس! لا بأس أيام قليلة ويصل إلى الكويت».
2 ـ فئة العامل المرسل والمرسل إليه: في هذه الفئة، نجد أن العامل المرسل يندمج في العامل الذات، وأن العامل المرسَلِ إليه، يندغم في العامل الموضوع. وهكذا نرى أن العامل الذات والعامل المرسِل يمثلهما أبو قيس وأسعد ومروان، بينما يتجسد العامل الموضوع والعامل المُرْسَل إليه في الكويت ـ الحلم. إن الشخصيات الثلاث أبطال فردانيون، لم يواجهوا الهزيمة إلا بالصبر والانتظار. حتى الموت واجهوه بالسلبية والصمت. جاء في مونولوج لأبي قيس: «في السنوات الماضية لم تفعل شيئاً سوى أن تنتظر. لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتِك وبيتَك وقريتَك كُلَّها». إن أعمال هؤلاء الشخوص تتمحور حول موضوع حلمهم، وليس حول قضية مجتمعهم بالعمل الجماعي الهادف إلى تخليص الشعب الفلسطيني من واقع النكبة والذل والتشرد.
3 ـ فئة العامل المساعد والعامل المعاكس: يقع العامل المساعد والعامل المعاكس عادة في موقع ثانوي في العالم الروائي. فهما لا يدخلان مجرى الأحداث إلا من أجل تقديم المساعدة للأبطال، أو وضع العراقيل لهم لمنعهم من الوصول إلى رغباتهم. ويمكن أن نحدد العامل المساعد في الرواية في ما يلي: أ ـ أبو الخيزران: يساعد الأشخاص الثلاثة على عبور الصحراء ونقط الحدود. ب ـ عم أسعد: يقرض المال لأسعد ليساعده على الهروب من السلطة وليضمن قبوله الزواج من ابنته.

ج ـ أبو العبد: المهرب الذي هرَّبَ أسعد من الأردن إلى العراق. د ـ الزوجان الأجنبيان اللذان حملا أسعد في سيارتهما لإتمام رحلته. هـ ـ صديق أبي قيس، سعد الذي هاجر إلى الكويت وعاد بأكياس من النقود. و ـ ظروف مروان: زواج والده من شفيقة العرجاء، وتخيله عن أم مروان وإخوته، وزواج أخيه في الكويت وتوقفه عن إعالة أسرته. والملاحظ أن بعض الذين يقومون بدور المعين، لا يقدمون مساعدتهم إلا بمقابل، فالعلاقة بين العامل المساعد والعامل الذات، تطبعها في الغالب روح النفعية والمصلحة، فليس في عالم تسوده الأنانية الذي تقدمه لنا الرواية، سوى سيادة القسوة وعلاقات الاستغلال. أما العامل المعاكس، فيتمثل في: أ ـ الرجل السمين الذي يرفض تهريب الأشخاص الثلاثة إلا إذا دفعوا قدراً ماليا أكبر. ب ـ الصحراء الفاصلة بين البصرة والكويت. ج ـ الخزان الجهنمي كوسيلة غير مأمونة للوصول. د ـ رجال الحدود. هـ ـ أبو باقر وأصحابه: الذين يستبقون أبا الخيزران أطول مدة بقصد ممازحته والتسلي بعجزه الجنسي. إن هؤلاء الشخصيات لا يقفون موقفاً مقاوما لهذه العوامل المعاكسة المتسمة بالقساوة والعنف، فحين يصفع الرجل السمين مروان، لا يقوم هذا الأخير بأي رد فعل: «تحفز في مكانه برهة وجيزة، ولكنها كانت كافية ليكتشف عبث أي محاولة يقوم بها لترميم كرامته». إن موضوع العجز هو الموضوع المهيمن على الرواية. «فالأشخاص الثلاثة لم يدقوا جدران الخزان، وأبو الخيزران يعاني من العجز الجنسي، وهو لم يقم بأي رد فعل حين تعرض للغمز والاستهزاء من لدن رجال الحدود». بل إن أغلب شخصيات الرواية هي شخصيات عاجزة سلبية.
الممثلون وأدوارهم في الرواية: إننا حين نرصد الأعمال التي يقوم بها (الأبطال) الثلاثة، نجدها تتمثل في ما يلي:
1 ـ تخرق الموانع: أكبر الموانع التي يتصدون لخرقها هي الصحراء المحرقة التي كان عليهم اجتيازها على مرحلتين: مرحلة قطعها كل منهم بمفرده للوصول إلى شط العرب. ومرحلة أخرى قطعها الثلاثة على متن شاحنة أبي الخيزران داخل خزانها الجهنمي عبر نقطتي الحدود العراقية والكويتية. قال أبو الخيزران: «إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالصراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن الصراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود»، ثمة مانع آخر قبلوا خرقه، هو وسيلة نقلهم: الخزان الخانق. قال أسعد بهدوء: « أنا شخصيا لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت. أما ما عدا ذلك، فإنه لا يعنيني» ولذلك فإنني سأسافر مع أبي الخيزران».
وإذا كانت الشخصيات الثلاث تواجه هذين المانعين الكبيرين بصورة جماعية وتقوم بخرقهما، فإنها تخرق موانع أخرى كل على حدة؛ أبو قيس: يخرق الموانع التي يفرضها عليه وضعه كرب أسرة. أسعد: يخرق الموانع الحائلة بينه وبين تحقيق رغبته بقرض المال من عمه، وقبوله الزواج من ابنته رغماً عنه. مروان: يخرق مانع السن المبكرة متخليا عن الدراسة.
2 ـ تخوض عالم التجربة: أ ـ يتخلى أبو قيس عن العيش في كنف الحياة الزوجية. ب ـ يتخلى مروان عن دراسته. ج ـ يفر أسعد من قبضة السلطة. د ـ يواجه الثلاثة، كل بمفرده تجربة السير في الصحراء للوصول إلى البصرة. هـ ـ يعانون الغربة في الصحراء وفي البصرة. و ـ يواجهون عالم المهربين. ز ـ يواجهون الموت داخل الخزان. ولقد عبرت رضوى عاشور عن خوض الرجال الثلاثة عالم التجربة بقولها: «لعل هذا الشعور بالغربة لدى أسعد ومروان يشير إلى أنهما تماما كأبي قيس الكهل، يخرجون للمرة الأولى من عالم البراءة إلى عالم التجربة. إنهم رغم كل ما مرّ عليهم من مصائب ومآسِ، يواجَهُون للمرة الأولى كأفراد بعالم مُسْتَغِل لا يَرحم، عالمٍ دخله أبو الخيزران قائد السيارة من قبلهم، وأصبح بدرجة من الدرجات جزءًا منه. إنه عالم كريه وقبيح كالجرذان التي تملأه» (الطريق إلى الخيمة الأخرى).
3 ـ تفشل في التجربة: لقد فشل الشخصيات الثلاث في التجربة التي خاضوها فشلا حاسما لا نهوض بعده، وانتهت إلى مصير محتوم هو الموت المجاني، وإلقاء أبي الخيزران جثثهم في أول مزبلة صادفها لدى وصوله إلى الكويت. إن غسان كنفاني يقدم في روايته العميقة المركزة نقداً لاذعاً للذات الفلسطينية التي كانت تعاني ـ كغيرها من الذوات العربية الأخرى ـ من التخلف على مستوى الفكر والوعي، ولم تسلك الطريق الحقيقي للخروج من واقعها المرير، وهو طريق المقاومة.

* تجدر الإشارة إلى أنني أفدت في تطبيق المنهج العاملي من كتاب «الألسنية والنقد الأدبي» لموريس أبو ناظر.


30 - أبريل - 2019
ا
عبد الجبار العلمي
٭ كاتب وشاعر من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى