د. عبد الجبار العلمي - مشكلات الكم والنوع ومستويات التلقي: مسارات الرواية المغربية وظواهرها

أثبتت الدراسات والأعمال البيبليوغرافية التي عنيت بدراسة مسار الرواية العربية في المغرب، أن هذا الجنس الأدبي عرف تطوراً مطرداً على امتداد أكثر من ستة عقود زمنية، سواء على مستوى التراكم الكمي أو على مستوى البنية والدلالة. وخلال هذا المسار الممتد من سنوات الأربعين إلى سنوات الألفية الثالثة الراهنة، ظهرت عدة اتجاهات في الكتابة الروائية حددها الأستاذ أحمد اليبوري في كتابه “الكتابة الروائية في المغرب /البنية والدلالة” في الاتجاهات التالية: الاتجاه الإحالي والاتجاه الحداثي واتجاه الحداثة التراثية. وسنقتصر في هذه المقاربة على بعض الملاحظات التي تتبدى للمتتبع لمسار الرواية المغربية، مستأنسين أحياناً ببعض المراجع التي عنيت بدراستها. ونورد هذه الملاحظات ضمن المستويات التالية:

أ ـ الكمي والنوعي: لا خلاف في أن الرواية المغربية عرفت طفرة واسعة كماً وكيفاً، ولكن عدد الروايات المتميزة التي شدت إليها انتباه النقاد والباحثين والقراء بما تتوفر عليه من شروط الفن الروائي الرفيع، ظلت قليلة بالقياس إلى التراكم الهائل الذي عرفه الإنتاج الروائي المغربي خاصة في الفترة الممتدة من الثمانينيات إلى الآن، فقد صدر ما يقارب 500 رواية إلى حدود سنة 2010 حسب ما ورد في دراسة لحسن المودن. ولم يتوقف الإنتاج الروائي بعد ذلك، حيث صدر عدد آخر من الروايات في غضون الأعوام التالية للسنة المنوه إليها. ولا يتسع هنا المجال لذكر عناوينها لغزارتها.

ب ـ مستوى التلقي: ومن الجدير بالملاحظة أن النصوص الروائية التي حظيت بتلق إيجابي سواء من لدن النقد الأدبي مغرباً ومشرقاً، أو من طرف عامة القراء هي النصوص المنتمية إلى اتجاهين في الرواية المغربية:

ـ الاتجاه الإحالي، وتنضوي تحته الرواية الواقعية ورواية السيرة الذاتية ورواية أدب السجون، ونمثل لها بالنصوص: “دفنا الماضي” و”المعلم علي” لعبد الكريم غلاب و “في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون و”كان وأخواتها” لعبد القادر الشاوي.

ـ اتجاه الحداثة التراثية، وتنضوي تحته بعض النصوص الروائية المتميزة، نذكر منها على سبيل المثال: “مجنون الحكم” لبنسالم حميش، و”جارات أبي موسى” و”شجيرة حناء وقمر” لأحمد التوفيق. ويرجع أحمد اليبوري التقبل الإيجابي لهذه النصوص إلى أن روايات هذا الاتجاه، تقدم المعنى للمتلقي عن طريق تقنيات الحكي والسرد والوصف بجلاء وشفافية. أما الاتجاه الحداثي في الرواية المغربية الذي نزع إلى التجريب والانفلات من قواعد الفن الروائي، وإغفال مقوم الحكاية، فقد جعل جمهور القراء ينفرون من قراءة الرواية، كما نفروا من مشاهدة الأفلام المغربية التي تميزت في أغلبها بغياب (الحدوتة) حسب تعبير إخواننا المصريين. هذا بالإضافة إلى بحثها عن الصنعة القائمة على الغموض مما أدى إلى تضييق دائرة متلقي النص الروائي، وحصره في نخبة من القراء. كما يؤكد ذلك أحمد اليبوري. وقد أشار الناقد محمد برادة إلى هذه الظاهرة بقوله: “إن الكتابة الروائية العربية في طريقها إلى التطور، بيد أن هذا التطور لا يستند إلى جمهور قارئ، مقارنة بالروايات التي ظهرت في سنوات الخمسين والستين والسبعين من القرن الماضي بما يجعل هامش رواجها يضيق، وحجم تجديدها يتضاءل”.

ج ـ ظواهر في مسار الرواية المغربية: الظواهر التي نلاحظها في مسار هذا الجنس الأدبي في المغرب يمكن أن نحددها في النقاط التالية: 1 ـ النزوع إلى كتابة السيرة الذاتية أو رواية التخييل الذاتي/ 2 ـ ندرة كتابة رواية الخيال العلمي (ثلاثة نصوص حسب علمي: “إكسير الحياة” لمحمد عزيز الحبابي؛ “الطوفان الأزرق” لأحمد عبد السلام البقالي؛ “مجرد حلم” لعبد الرحيم بهير. (الخيال العلمي في الرواية المغربية، بوشعيب الساوري، فصول، ع: 81، ص: 58) / 3ـ ظهور العديد من الكاتبات اللواتي اتجهن إلى كتابة الرواية في العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة في حين أن المشهد الروائي المغربي سابقاً، عرف ندرة ملحوظة في مجال الكتابة الروائية النسائية. نصان روائيان فقط ظهرا في سنوات الستين: “غداً تتبدل الأرض” لفاطمة الراوي و”النار والاختيار” لخناثة بنونة / 4 ـ ظاهرة رواية ذات حجم ضخم من حيث عدد الصفحات في حين أن أغلب الروايات التي كتبت سابقاً كانت من حجم صغير، وأبلغ مثال هو المنجز الروائي لمحمد زفزاف / 5 ــ ندرة أنواع روائية معينة مثل الرواية البوليسية، ومثل الرواية القومية كما أشار إلى ذلك الناقد أحمد اليبوري.

أهم الموضوعات الواردة فيها:

من أهم الموضوعات التي خاضت فيها الرواية المغربية الحديثة يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: التعبير عن الذات المأزومة التي عانت من شتى الإحباطات سواء على المستوى الوطني أو القومي “البرزخ” لعمر والقاضي، أو المستوى النضالي والحزبي “امرأة النسيان” لمحمد برادة وانتقاد التابوهات، وتعرية الواقع ومثالبه بحدة وجرأة “الخبز الحافي” لمحمد شكري / إدانة الاعتقال والسجن بسبب الأفكار السياسية “كان وأخواتها ـ الساحة الشرفية” لعبدالقادر الشاوي / الهجرة الداخلية والهجرة السرية والفقر والبطالة والاتجار بالمخدرات ومظاهر العولمة وافتقاد المدينة لمظاهرها المدينية، وافتقاد البادية لقيمها الأصيلة، وظهور ظاهرة الأصولية وحوادث الإرهاب ـ الانتهاز السياسي .. “الغربة ـ غيلة” لعبد الله العروي و”كائنات محتملة” لمحمد عز الدين التازي و”كازابلانكا” لمحمد صوف و”محاولة عيش” لمحمد زفزاف.

أنواع التقنيات والأساليب السردية التي تنهجها:

لا شك أن الروائي المغربي لم يكن منعزلاً عن الأعمال التنظيرية التي نظرت للرواية، وعَرَّفَتْ بِمُكَونات الخطاب السردي، بالإضافة إلى قراءاته روايات من مختلف الاتجاهات والأنواع الروائية. وقد مكنه ذلك من توظيف تقنيات وأساليب سردية في أعماله الروائية، يمكن أن نجملها فيما يلي : ـ المنظور السردي المتعدد أو تعدد الأصوات/ ـ تعدد اللغات ـ لغة المهن المتنوعة ـ استعمال لغة الحياة اليومية / ـ تنوع الضمائر النحوية/ ـ اعتماد لغة ذات صبغة شعرية / ـ استغلال مكونات متنوعة مثل الحلم والأسطورة والتاريخ والرمز والمحكيات الخرافية والعجائبية والشعبية./ استخدام المفارقة والسخرية وتضمين نصوص من أجناس أدبية مختلفة./ استخدام أسلوب (التعرية) أو الكشف عن التقنية المستخدمة في الرواية (دينامية النص الروائي، ص : 137 ) / ـ الحرص على تقديم المتعة والمعرفة للمتلقي / التلاعب بالأزمنة الروائية، واستبعاد الزمن الكرونولوجي، كما كان الحال في الرواية الواقعية “الإحالية”. من خلال هذه التقنيات والأساليب السردية المعتمدة في متن الرواية المغربية، يبدو أن الروائي المغربي، يدرك أهمية المبنى الحكائي ووظيفته الفنية في نقل متنه الحكائي.

علاقة الرواية المغربية بالتخييل الذاتي وبالسيرة الذاتية:

إذا كانت الرواية العربية انطلقت في بداياتها الأولى من أعمال قصصية وروائية، مثل “سخرية الناي” لمحمود طاهر لاشين، و”حديث عيسى بن هشام” لمحمد المويلحي، و”زينب” لمحمد حسين هيكل، فإن الرواية المغربية نشأت في أحضان التاريخ والسيرة والسيرة الذاتية كما يقول أحمد اليبوري، فأول الأعمال السردية التي يؤرخ بها لتَكَوُن الرواية هو” الزاوية ” للتهامي الوزاني ثم “في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون، إذ بظهورها “تدخل السيرة الذاتية مرحلتها الروائية” وقد استمر حضور السيرة في المشهد الروائي المغربي بشكل بارز عند العديد من الروائيين والروائيات المغاربة منذ الستينيات “سبعة أبواب” لغلاب مروراً بالثمانينات “كان وأخواتها” للشاوي وانتهاء بسنوات التسعين “رجوع إلى الطفولة” لليلى أبوزيد.

ويبدو أن الرواية المغربية الجديدة، أخذت تتجه بشكل لافت إلى هذا النوع الجديد من الكتابة الذي يقع في ما بين نسقين تواصليين: نسق الحياة الحقيقية ونسق أدب الخيال كما يرى الناقد رشيد بنحدو، وتنحو صوب تذويت الكتابة بإفساح المجال لحضور الذات الكاتبة وإسماع صوتها الذي ضاع بين ضجيج الخطابات الرسمية والإيديولوجية.

د. عبد الجبار العلمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى