عبد السلام بن خدة - أسطورة أوزوريس أو البدايات الأولى لمحكي التحقيق العربي

الإهداء : إلى العزيز الأستاذ جيلالي حجاجي

"يجب علينا ألا ننسى بأن التخييل الجرمي هو أحد الأشكال القديمة في الأدب."هونين مانكيل

بداية تعتبر، في نظرنا ، الملكة "إيزيس" (Isis) رائدة التحقيق العربي، وقد سبقت بقرون الملك " أوديب"، [ بطل تراجبديا "سوفوكل"](1). ونظرا لكون النص الفرعوني – أقصد هنا أسطورة " أوزوريس" – نصا شرقيا ينتمي إلى الحضارة المصرية القديمة – التي تعتبر مع مثيلاتها من حضارات بلاد الرافدين وفينيقيا وبلاد الأمازيغ مكونات المجال الحيوي لثقافتنا العربية المعاصرة – فقد تم تجاهله كليا من طرف الأقلام النقدية الغربية التي اهتمت بتأصيل رواية التحقيق في الغرب.

وفيما يلي نقوم بعملية حفر أركيولوجي في طبقات هذا النص لتبيان ريادته في مجال التحقيق (détection).

ملخص بأهم تمفصلات هذا المحكي الأسطوري:

  • يتعرض الحاكم الفرعوني "أوزوريس"– نتيجة حيلة ماكرة دبرها له أخــــــوه "سيت"–لمؤامرة عظيمة ("يدفن حيا من طرف أخيه في تابوت ويلقى به في اليم")،
  • تذهب زوجته "إيزيس" – وعلى عكس "أوديب " القابع في قصره – في رحلة باحثة عن زوجها حتى بلاد فينيقيا، وتعثر عليه وتعيده إلى مصر،
  • يتمكن مرة أخرى الحاكم المغتصب للعرش "سيت" من جسد "أوزوريس" ويقطعه إربا إربا، وينشر الأطراف ويخفيها في مناطق عدة من البلاد،
  • تجند "إيزيس" نفسها مرة أخرى في مهمة البحث عن القطع المكونة لجسد زوجها للملمته مستعينة في ذلك بأدوات سحرية (مركب – مرآة – حزام) وبمساعدة أختها "نفتيس"(Nephtys) و الإله "أنبيس" (Annabis)،
  • تنجح "إيزيس" في مهمة إعادة تجميع "أوزريس"، إذ تحصل على جميع أطرافه باستثناء قضيب زوجها الذي التهمته سمكة في النهر، لكنها، وبمساعة الإله "أنبيس" تعيد تشكيله وتبعت فيه الحياة من جديد،
  • تجامع "إيزيس" زوجها "أوزوريس" العائد إلى الحياة ، وتنجب منه ولدا تسميه "حوروس"،
  • تعمل على تربية "حوروس"، وتحرص على إخفائه في دلتا النيل بعيدا عن أعين "سيت" قاتل أبيه إلى أن يشتد عوده،
  • تعقد محاكمة يرأسها "رع" (Ré) ويشرف عليها قضاة للنظر في نزاع "سيت" ضد "حوروس" المطالب بعرش أبيه.
  • تعمل "إيزيس" – ومن خلال قدرتها السحرية على التحول والتقنع – على الإيقاع
  • بـ "سيت"، الذي يعترف بعدالة قضية ولدها "حوروس"، الذي حرم من كرسي الملك،
  • ترأف "إيزيس" من حال قاتل زوجها، لكن ولدها يقطع رأسها انتقاما لوالده "أوزوريس" ويتولى حكم مصر (...)

    تعليق:
    تبرز البنية الحدثية لهذا المحكي الأسطوري الفرعوني علاقة قرابة بنيوية واضحة المعالم بمحكي التحقيق عن جريمة أو بالأحرى بقضية الكشف عن جرم .
    تأسيسا على ما تقدم من تحليل ،نصوغ الملاحظات النقدية التالية :
    • إذا كان موضوع كل تحقيق بوليسي هو إعادة بناء لحكاية جرمية سابقة (هنا حكاية الاغتيال المزدوج لـ "أوزوريس" من طرف "سيت")، فإن "إيزيس" قد نجحت في الكشف عن خيوط هذه الجريمة بصبر ومهارة.
    • إذا كانت مهمة المحقق – كل محقق بلا استثناء – هي جمع البقايا المادية ( هنا أشلاء جسد "أوزوريس" المقطعة إربا إربا) و التعرف عليها بحيث تصبح معالم الجريمة غير مشفرة، فإن "إيزيس" لم تدخر جهدا في ذلك لإنجاز هذه المهمة على أكمل وجه.
    • إن إعادة تشكيل جسد "أوزوريس" و بعثه – حيّا – من جديد "نفخت فيه من روحها" يماثل إلى حد كبير فعل تجميع مربكة (puzzle)(2) . والمربكة كما نعلم مصطلح أثير لدى كتاب ومنظري محكي التحقيق البوليسي المعاصرين !
    • إذا كان هدف كل محقق ناجح هو تجميع أجزاء متوالية سابقة (هنا جسد "أوزوريس") حتى ينتج عن هذه الأجزاء مجموع منسجم ودال، فإن اللقاء الذي جمع "إيزيس" بـ "أوزوريس" قد أثمر ولادة "حوروس"كتمظهر واضح لحقيقة أراد المغتصب (هنا "سيت" الذي تصفه الأسطورة بـ " المتنفذ بكلامه") طمسها.
    • إذا كانت الملكة " إيزيس" قد اعتمدت في بعض المراحل من مهمتها –لكشف إجرام "سيت" ومعاقبته – على أدوات فوطبيعية (أدوات سحرية (مركب، مرآة،...))، فإن زميلها الإغريقي "أوديب" قد لجأ بدوره إلى وسيط الوحي (oracle) في تقصيه.
    • إن الاستعانة غير المسبوقة تاريخيا على صعيد النوع البوليسي لـ"إيزيس" بالصياد "أنبيس" (إله مصري له رأس كلب في الميتولوجيا الفرعونية) في العثور على الأشلاء المبعثرة لجسد "أوزوريس" من خلال حاسة الشم (3)، وقدرتها على التحول و التقنع مثلا في الحالة التي غررت فيها بـ "سيت" و دفعته – ولو من باب قصة مماثلة لقضية "حوروس"- إلى الاعتراف)، هما مؤشران نوعيان على الوضع المستقبلي للمحقق الحديث والمتحري الخاص.
    • ما يؤهل – نظريا- هذا النص الفرعوني ليكون أصلا لمحكي التحقيق أو للنوع البوليسي، بالإضافة إلى الخصائص التي سقناها سابقا، هو أسبقيته زمنيا، و كونه يشكّل النص الغائب بالنسبة لـ "أوديب سوفوكل". وفي هذا الصدد يقول الباحث "ل.أ.بينو" (L.A.Binaut):
  • (...) بداية تنقسم الحكاية المصرية لـ "أوزوريس"، التي يبدو أنها مصدر الطقوس الإغريقية ، إلى ثلاثة نقط:
    • حقبة سعادة تحياها شخصية ربانية ، أو مرتبطة حميميا بآلهة.
    • صراع قدري لهذه الشخصية مع كائن مرعب ، التي تسند إليه بطيبة خاطر الأشكال الأكثر فظاعة.
    • انبعاث هذه الشخصية المغلوبة و المنكّل بها، وتعظيمها ( بناء معابد لها ...).
  • هذه الثلاثية العجيبة كانت ، لنكرر ذلك ، جوهر الديانة اليونانية. وحدة فكر جدّ لافتة تحت تنوع كبير من الأشكال. الأساطير التي تحتويها هي الأكثر قدما وكل ما نعرفه عن انتقالها إلى اليونان يمكن العودة به إلى فترة كان الاستعمار الشرقي الذي لازال يمارس التأثير فيها. أخيرا، الذي يشهد أكثر على ذلك ربما لوجود فكرة التعبد (culte) الأولى هنا ، هو أن كل الأساطير البطولية [اليونانية] التي جاءت فيما بعد قد انتعلت نعل هذه الأسطورة الإلهية (...) (4).


    الهوامش
    • درج النقاد الغربيون الذين اهتموا بدراسة المحكي البوليسي على اعتبار "أوديب " بطل مسرحية سوفوكل اليوناني ، أول محقق أو متحري في التاريخ الأدبي . أنظر،
    • Boileau- Narcejac, Roman policier, Payot , 1964 , p23
    • Jacques Dubois , le roman policier ou la modernité , Ed. Nathan , 1992 , p123.
    • Jean –Claude Vareille, L’homme masqué, le justicier, et le détective, P.U.L, 1989, p45
    • L.-A.Binaut, Sophocle et la philosophie du drame chez les grecs , Revue des Deux Mondes , Série 4, T.31,1842.

بقلم: عبد السلام بن خدة [القنيطرة، المغرب]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى