د. عبدالجبار العلمي - الحبات الستون وذكريات عن الحمامة البيضاء

يوحي سن الستين إلى الكثير من الكتاب : أدباء وشعراء ، بالكتابة عن حياتهم خلال تلك السنوات التي مرت بحلوها ومرها ، فكأنهم يريدون بذلك أن يقيدوا ذلك الزمن المنفلت من بين أيديهم كعصفور جميل ، ويضعونه في قفص قضبانه من حروف وكلمات. ، فيعملون على تسجيل سيرتهم الذاتية ، أو أهم مراحل حياتهم.
كتب الصديق الشاعر الباحث أحمد الطريبق أحمد سيرته الذاتية شعراً بعنوان " ال
حبات الستون ". كل سنة مجرد حبة يلتقطها الزمن بمنقاره الحاد ، ويبتلعها إلى غير رجعة :
تنفرط الحبات الستون ْ
من سبحة عمر محدودٍ
بقيودٍ
وقوافٍ
وعقودْ
وكتب الأديب الشاعر المغربي الكبير الأستاذ محمد الصباغ سيرته في ثلاثة أسفار بعنوان " الطفولة الستون " بلغته الجميلة وأسلوبه الذي يضاهي به أكبر أدباء المهجر الأمريكي وعلى رأسهم ميخائيل نعيمة ، وذلك بعد انتهائه من عمله في وزارة الثقافة بالرباط. ولعل الحنين عاد به إلى مدينته ومسقط رأسه تطوان التي كانت حقاً حمامة بيضاء في عهد شبابه ، وعهد طفولتي وصباي. " تطوان تحكي " هو عنوان كتاب قصصي كتبه الصباغ عن هذه المدينة ، حيث تدور أحداث قصصها في فضاءاتها ودروبها العتيقة.
إن تطوان بفضائيها العربي الأندلسي والأوروبي الإسباني، وبياض لونها الذي يشبه لون الفل والياسمين وزهر النارنج والليمون ، ألهمت العديد من الكتاب والشعراء بالكتابة عنها. وما زلت أذكر بإعجاب ذلك الديوان الشعري الجميل الذي كتبه أستاذ اللغة الإسبانية الذي كان يدرسنا في ثانوية القاضي عياض بعنوان " تطوان البيضاء " :
TETUAN LA BLANCA الذي أصدرته على ما أذكر مطبعة " كريماديس " العتيدة.
لقد كان هذا الأستاذ الإسباني قدوة ودافعاً لي للمزيد من الولع بالقراءة. ذلك أنني كلما مررت بشارع الوحدة الذي كنت أقطن به في تلك الفترة مع العائلة ، ألفي أستاذي الشاعر عاكفاً على المطالعة في مكتبته العامرة ، فقد كان يترك نافذة غرفة المكتبة مفتوحة على الشارع ، بحيث يمكن للمار على الرصيف الأيسر المحاذي للنافذة أن يراه وهو منكب على القراءة ، فقد كان المكتب في أسفل العمارة. ولا أخفي أن منظر الأستاذ وهو عاكف على المطالعة في مكتبته المنظمة المليئة رفوفها بالكتب والمجلدات ، كان يجعلني أحلم ـ وأنا مازلت وقتذاك تلميذاً بالثانوي ـ بأن يكون لي مكتب ببيتي يضم خزانة زاخرة بما أعشقه من كتب ومجلات.
ومن أبرز من كتب عن مدينة تطوان في عهدها الأبيض بياض الفل والياسمين والحمام ، الصديق القاص الروائي الدكتور محمد أنقار في روايتيه : " المصري " و" باريو مالقا " ، فرصد الأولى لفضاءات تطوان العتيقة ، والثانية لفضاء حي شعبي كان يسكنه الإسبان إلى جانب المغاربة في تعايش وانسجام. وكثيراً ما وددت لو أن أديبنا محمداً أنقار أضاف رواية أخرى تدور أحداثها في فضاء المدينة العصرية ليكون بذلك قد كتب ثلاثية تطوان.
وأقصد بالعهد الأبيض كما ورد أعلاه ، أيام كانت حقاً حمامة بيضاء في نقائها وجمالها المعماري . مدينة تمتزج فيها الحضارة العربية الأندلسية في المدينة العتيقة، بالحضارة الأوروبية بمظاهرها الحديثة في الحي العصري. ففي دروب وأزقة المدينة القديمة ووراء أسوارها السبعة ، تتنسم عبق التاريخ العربي الإسلامي وحضارة الأندلس. أما في المدينة العصرية ، فتجد نفسك في شوارع مدينة ذات طابع أوروبي حديث ، ومعمار ذي ملامح إسبانية. ومن أجمل مظاهر الحداثة التي كانت تبهرنا ـ ونحن أطفال أو شباب يافعين ـ هي دور السينما المنتشرة في كل أرجاء المدينة ، وأهم شوارعها الأنيقة. ناهيك عن ذلك الشارع السحري الذي كان يسمى " شارع لونيتا " القريب من ساحة" الفدان" الذي كان يكتظ بالمتاجر ذات الواجهات البراقة التي كان يملكها التجار الهنود ، وتباع فيها الساعات السويسرية الأنيقة ، وأجهزة الراديو الهولاندية الصنع ، وتعرض في شكل منظم بديع. أما في الليل ، فتشتعل أضواء النيون الزاهية الألوان الصادرة من حروف أسماء المتاجر، فتبهرك ببريقها ولمعانها وألوانها المختلفة. وأما شارع محمد الخامس ، فقد كان منتزها حقيقياً وفضاءً ترفيهياً بالإضافة إلى " ساحة الفدان " ، ففي المساء يقطع فيه مرور السيارات ، ليبقى مكاناً مخصصاً للمارة والجالسين على كراسي المقاهي الفاخرة المصطفة على طول رصيفي الشارع.
حيا الله ذلك الزمن الجميل ، ولعلها الحبات الستون التي التهمها منقار الزمن هي التي تدفعنا إلى الحنين والقبض على الأزمنة المنفلتة من بين أيدينا ، ولكن بدون جدوى..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى