د. عبدالجبار العلمي - بين رواية « لودميلا » ومسلسل «تشيرنوبيل» : من المحكي الروائي إلى الفيلمي

■ كنت أطالع جريدة «القدس العربي» عدد يوم الخميس11 يوليو/تموز 2019، فقرأت مقالاً للشاعر الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله بعنوان: «تشيرنوبيل العالم العربي»، يتحدث فيه عن مسلسل تلفزيوني حديث حول كارثة تشيرنوبيل (25 إبريل/نيسان 1986) التي كانت موضوعا أساسيا لرواية «لودميلا» للكاتبة الروائية السورية لينا كيلاني، فألفيت أن ثمة قواسمَ مشتركة كثيرة بين أحداث المسلسل الذي تم إنتاجه وعرضه قبل شهرين من العام الجاري 2019، وأحداث الرواية التي كُتبت سنة 2008.
وطالما طُرِحَ السؤال: لماذا لا يتجه السينمائيون العرب ـ ومنهم المغاربة ـ إلى اقتباس أعمال روائية تستحق نقلها من (المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي)؟ حسب تعبير الناقد السينمائي المغربي حمادي كيروم، بدل أن يكون العمل السينمائي قائما على قصة من تأليف المخرج الذي يكون هو نفسه صاحب السيناريو والحوار، والإخراج. وعندنا من هذا، العديد من الأمثلة.
أقول قولي هذا لأنني وجدت في أعمال الروائية الثلاثة «بذور الشيطان»، و»الاختيار»، و»لودميلا» مادة يمكن أن تُحَوَّلَ إلى أفلام سينمائية، حيث يُسْعِف ُ المحكي الروائي على تحويله إلى المحكي الفيلمي. المسلسل المشار إليه أعلاه، يتكون من خمس حلقات، وهو إنتاج أمريكي ـ بريطاني . لقد شاهدت الروائيةُ المسلسل ـ كما حدثتني ـ دفعة واحدة، وتطلب منها الأمر ساعاتٍ طَويلةً. وقد عبَّرتِ الكاتبةُ بعد فراغها من مشاهدته عن شديد إعجابها بالمسلسل بقولها: «مسلسل تشيرنوبيل.. أمضيت يومي تقريباً بمشاهدة حلقاته.. أصابني بشحنة كبيرة من الانفعال.. كنت أهدئها بين وقت وآخر لأنها أكبر من احتمالي. المسلسل رائع بكل المقاييس الفنية.. لكن ما كان صادما لي هو مقدار التقاطع مع روايتي. لكأن الكاتبَ واحد في جانب من جوانب المسلسل بعيداً عن التوثيق، وكنتُ انتهيت من كتابة روايتي عام 2008 على ما أذكر.. أي بفارق 11 عاماً لحين صدور المسلسل قبل شهرين من عام 2019.. الأجواء ذاتها وكأنَّ المخرجَ استخرج صورها من عقلي.. وحتى بعض الأسماء كانت ذاتها وأولها (لودميلا). فَرِحْتُ لأن مثل هذا العمل المكتمل قد خرج إلى الناس ليعرفوا أكثر عن أخطار تحيط بنا وبالبيئة.. وحزنتُ لأننا في منطقتنا هذه مازالت رواياتنا، وأفلامنا، ومسلسلاتنا تدور في أفلاك الجسد، وعلاقة كل جنس بالجنس الآخر، ولم نخرج حتى الآن من عباءة المشكلات الاجتماعية والعاطفية لنقارب مشكلات البشرية».
والحقيقة أن من يقرأ الرواية ويشاهد المسلسل، سيصادف هذا التقاطع، ويرى بالملموس أنَّ ثمةَ أشياء مشتركة، وأحداثاً متشابهة، فالرواية عالجت بكثير من الصدق، والرهافة، والقدرة على ذكر تفاصيل الأحداث بدقة تجعلنا نعيش المأساة مع شخصيات الرواية: «لودميلا» وأسرتها، وزوجها، وزوج أختها مدير المفاعل النووي في تشيرنوبيل. من جهتي عملت على مشاهدة المسلسل، فتبين لي مدى ما يتوفر عليه من تقنية وحرفية في صناعة السينما، ناهيك من اعتماده على وثائق علمية دقيقة كل الدقة عن وقوع الحادثة وأسبابها، وملابساتها. مسلسل مؤثر في كثير من مشاهده، وخاصة حين تُصِّرُ «لودميلا» الزوجة الشابة على البقاء إلى جانب زوجها ألإطفائي الذي أصيب بحروق خطيرة، وتعرض لتأثير الإشعاعات في عملية الإطفاء، داخل الواقي البلاستيكي في غرفة المستشفى رغم خطورة ذلك على حياتها. مشهد الدفن القاسي للإطفائي، ورفاقه في مقبرة جماعية. مشاهد عمال المناجم، وتضحيتهم من أجل إنقاذ الملايين من البشر، رغم أنهم علِموا من ممثل الحزب الحاكم، أنهم سوف لا يتلقون مقابلاً أو امتيازات من الدولة، ولكنهم لا يأبهون لذلك مقابل انتمائهم الوطني، ولو كلفهم ذلك حياتهم، ويعملون عرايا داخل المفاعل الذي يحترق أعلاه تحت حرارة تصل إلى الخمسين درجة. مشهد المحاكمة للعلماء (خاصة العالم وزميلته) الذين اتُهموا اتهاماً باطلاً بمسؤوليتهم عن حادث التسرب وانفجار المفاعل. ثمة محاولة للتكتم على الحادث حتى لا يظهر الاتحاد السوفييتي آنذاك بالضعف، والقصور في مجال استخدام القوى النووية، والتحكم في مفاعلاتها بشكل آمن.
وهذا ما وصفه الروائي إبراهيم نصر الله في مقاله السابق الذكر بـ»التقصير»؛ ويعني به: «أن يَجِدَ البشرُ أنفسَهم وحيدين بلا مساعدة، بسبب التواطؤ ضدهم، في مواقف كبرى تهدد حياتَهم، ولا يستطيعون مواجهتها بمفردهم، في ظل غياب القوة الحامية أو الحارسة، وهي السلطة بتنوعاتها « . لقد أحرز هذا المسلسل ذو الحلقات الخمس على تقييم من لدن الجمهور الذي بلغ تعداده ما يقربُ من 300 ألف نسمة من جميع القارات، وصل إلى: 9.6 من عشرة، وهو رقم لم يحققه أي عمل سينمائي أو درامي تلفزيوني كما يقول الكاتب، ويرى أن هذه النسبة العالية من الأصوات تنم عن وجود «سخط ما، دفين، على الحكومات وأشباهها، في هذا التصويت، وخوف دفين من أن يجد الناس أنفسهم ضحايا من هذا النوع».
في تقييمها للمسلسل تقنياً وفنياً وموضوعاتياً وفي علاقته بروايتها، تقول لينا كيلاني بكل موضوعية: «المسلسل رائع بالمقاييس الفنية، ولعله أفضل ما شاهدت حتى الآن.. ولن يزول من ذاكرتي خاصةً، وأن له ارتباطاً وثيقاً بروايتي المتخيلة التي وجدتها من خلاله حقيقية، بل حقيقة تنبض أمامي وتتحول شخوصُها وأحداثها المتخيَّلة إلى واقع تَحَقَقَ في وقتٍ سابق». من الناحية الفنية تقول الكاتبة إن «العمل متكامل من حيث بناء القصة، والحوار، وصورة المشهد الإنساني والموسيقى والإخراج المبهر، وتحريك الكاميرا ببراعة». وتضيف: ذلك التقاطع الذي وجدته مع الفارق الكبير بين رواية اعتمدت المخيلة في صياغة الأحداث، ومسلسل اعتمد على تقارير، ووثائق لا حصر لها، ولا ندري مدى مصداقيتها لأنها في النهاية أثارت غضب أصحاب الحدث.. أقول إن ذلك التقاطع ـ وأنا هنا أتحدث عن الجانب الفني، والقصصي بمعزل عن المشهد السياسي آنذاك ـ إنما يؤكد أن للكاتب غالباً رؤية قد تكون موازية للحقيقة، أو أنها مطابقة لها أحياناً.. فالمقدمات توصل للنتائج، كما للاستنتاج.. وما ظهر عبر سطور الرواية من لمحات إنسانية، ومن تعاطف الأفراد بين بعضهم بعضاً، ومن أجواء الرعب التي شكلتها الأحداث جاءت في تقارب كبير مع أحداث المسلسل. وما كان متوفراً من معلومات حول انفجار مفاعل (تشيرنوبيل) عام 2008 عندما تمت الرواية إلا النزر اليسير، وعن اللحظات، أو الدقائق الأخيرة للانفجار، التي نُسج حولها عالم روائي كامل يتلخص بأسرة انفجرت حياتها لحظة انفجار المفاعل لينتهي أفرادها واحداً إثر الآخر في جناح مرضى السرطان.
نقرأ في مقدمة الرواية: «رواية وإن كانت تضعنا في مواجهة مع ذلك الحدث بعد مرور أكثر من (عشرين عاماً) فترصد ملامح منه إلا أنها في الوقت ذاته تجمعت في أحداث مكثفة، والأبطال يدورون في عالم طارئ اختطفهم كلا نحو القدر الذي فرضه الانفجار. أما النتائج فهي التي يمكن أن يلمسها أي إنسان في الواقع، أو يتخيلها، أو يتحدث عنها».
ثمة أمر آخر يجمع بين الرواية والمسلسل هو أن كليهما ينبه إلى ما يتهدد الإنسان من كوارث وخراب ودمار نتيجة استخدام القوى الكبرى في العالم لأسلحة متقدمة غير محسوبة العواقب، مهما بلغت درجة إتقان صنعها، ومهما اعتمدت على العلم والتكنولوجيا بالغي التقدم والدقة. فالرواية والمسلسل يعكسان مخاوف الناس الدائمة على مصير الإنسان في عالم لا يحكمه إلا منطق القوة والجبروت وارتفاع وقوع الحروب في كثير من مناطق العالم، ومنها عالمنا العربي. رغم أن الرواية اهتمتْ بالجانب الإنساني أكثر من الجانب التقني والسياسي الذي ورد في المسلسل.
إن المسلسل يقدم لنا كارثة إنسانية كبرى تعتبر أسوأَ الكوارث التي عرفتها الإنسانية المتمثلة في انفجار المفاعل النووي (تشيرنوبيل) الذي وصلتْ إشعاعاته النووية إلى آسيا وأوروبا وأمريكا وكندا، في خمس حلقات فقط لا غير. ولا مجال هنا للمقارنة بينه وبين تلك المسلسلات التي تُقدَّمُ عندنا في ثلاثة أجزاء، كل جزء يضم 30 حلقة طويلة مملة، لا تقدم نفعاً ولا إمتاعاً.

٭ باحث وشاعر من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى