محمد عيد إبراهيم - تمارين العزلة في ديوان "لهم ما ليس لآذار"

صدر للشاعرة المصرية رضا أحمد باكورة شعرها "لهم ما ليس لآذار"، في 140 صفحة، عن دار "نبض" بالقاهرة، والقصائد كلها بدون عناوين، بل مجرد أرقام، ربما لتوحي بفكرة الديوان الوحدة الكاملة، أو الأفكار المترادفة أو المتوالية أو المتكاملة إلخ.

لكنه في النهاية، نصوص مفتوحة، لا تكتمل، ولا تنتهي نهايات لازمة أو مفاجئة أو مبهرة، كلها تتنامى لتحاول أن تجعل القارئ شريكاً في حالات شعرية، واحدة إثر أخرى، حيث تقول في البداية: (تركت الباب مفتوحاً، ولم يطرق أحد لأنتبه).

تكتب إهداء شعرياً في ثلاث صفحات، لتمهيد أن نقرأ دون أن (نخمش طيور الوحي)، تلك التي تسقط فوق أوراق عمرها، ثم تصدمنا بالجملة الأولى في القصيدة الأولى (أنا أنثى متوحشة)، لكننا لا نراها إلا مجازاً، فهي تحاول أن (تنقر فم الاختلاف)، فالناس يتمنون لها الجزاء في (كتاب اللعنات).

هكذا تكتب ما يشبه (البيان الشعري) الأول لحياتها في القصيدة: (سأكتب، سأكتب)، بحالات مجازية تسعى لأن تكون مناقضة أو منافية (سأكتب من نافذة أعمق/ للغراب الأحمق/ لضحكة جارتنا/ قرب انفجارات/ يسعى الجميع لحدوثها).

وهي تذكر أمها، كوجهها القديم، كالألم بملامحه الغريبة، كطفل وديع بأيقونة في كنيسة، كما أن الزمن حولها مترادف، (كل الزوايا مرايا لصورة واحدة).

تسعى رضا أحمد إلى محاولة (قتل الأب) نفسياً وفلسفياً، فهي تهجو أباها (بنت أحمد سوف تسير عارية/ فيسكبون فوق رأسي ندف القطن)، ليجعلوها (امرأة فاضلة/ بمحرك معطل لقلب حجريّ/ على الورق)، ومن ثم لا تجد الحلّ إلا في (تمارين العزلة) كأن (تنقع قلبها طويلاً في الوحل/ لتصير جذوراً)، كي تتثبّت من الهوية (الشعرية)، فهي نبات غريب تريد أن يعتاد الناس رؤياه، ولو على حائط قديم، بظلٍّ وحيد.

من هنا تمارس رضا أحمد أنماطاً من التمثلات أو الأقنعة (الحداثية): عباد شمس (آكل قطعة من الشمس)، امرأة عجوز (تدير عقارب الساعة/ للزمن الذي تستيقظ فيه القصيدة)، كوب شاي (زائد عن حاجة ثلاجة الموتى)، إله (بشمعة مكسورة)، رأس رجل يبكي (يبحث عن الجُرم الذي ارتكبه)، مسيح (لم يُشيّع على صهوة السماء)، شبح (كامن في مرآة).

كما تنخرط الشاعرة بعدئذٍ في حالات أشبه بالنزعة الصوفية، مع أنها بتفاصيل حياتية، لا مجردة، لكنها توحي بالفناء في محبة الخلق، كأن تغزل حكايات العجائز بتفاصيل واقعية من أيامنا، محورها الألم طبعاً، كما تطيل حديثاً مع الله (لم أرغب بحرق الأبرياء/ لم تطأ قصيدتي حلبة مصارعة) لكنها تعود إلى الألم من جديد (أطيل النظر إلى نافذتي/ في حين يطير رأسي بعيداً/ فوق جسد تائه/ في عرض الليل).

والشاعرة مغرمة بفكرة (الخلاص) المسيحية، فهي تردد كثيراً كلمات (الرب/ الكنيسة/ المخلّص/ المسيح/ الكهنة/ الزيت/ الدير/ البعث) إلخ، في صور تستدعي الرحمة، بالمنحَى الرومانسيّ في الرحمة (لم أنج من الموت/ لكني أنتظر السراب/ بين جوع الأرصفة للضوء). هكذا تعيش وحيدةً، وإن وسط الجموع (في الطريق إلى الشمس/ تختفي أنفاسها الأخيرة).

تنسى الشاعرة الجوع فوق الأرصفة (فاليتم لون أسود)، أو في مظاهرة (حقي في البقاء)، أو تتعلم فن الحياة بعد الموت (أطلق عوائي/ فتضيء النوافذ ليلاً كاملاً)، هو إذن (جُحر الوحدة/ كمن يضع في تابوته: أدوات شاي ومصباح أحمر/ لأول اجتماع سيعقده)، حيث تؤكد (وأنت في برجك العاجيّ/ لا تسمع دفقات الألم) فكأني أقرأها (لا تسمع إلا دفقات الألم).

لكن يبدو أن (الثورة) ستغير من طبيعتها، حيث تشارك خطوات الناس (دع المسافة مدفونة/ بين الماء وبذرة الوردة)، فثمة مشاهد قاسية (حصان مبتور الرأس/ يحمل دلو نفط وشعلة/ وهو يغوص في دماء الغرقى)، والموت في كلّ شيء (كانت عيونهم أجمل/ قرب المدرعات/ وأشلاؤهم تركوها في الليل)، فتطلق صرخة الأسى (لا تنسبوا القبور/ للشواهد العالية على باب القصائد/ فكل دماء بلا عنوان/ والليل زائر كفيف)، لكن لا ينال اليأس (الوجوديّ) منها ساعة (المجد): ثمة (عجوز حجريّ يحتضن فأسه/ في الميدان)، مرتقباً (شهقة الأرض/ وهي تمضغ بذرة قاسية).

يُختتم الديوان بأناشيد غرام صافية، روح تسعى للخلاص بالحبّ من كلّ ألم حولها، حيث (أنا لك هذه الليلة/ فكن معي)، وإن كانت التفاصيل عن (عانس/ نجمة جائعة/ فتىً بثوب الخيش)، لكن شفاه الليل حمراء، وامرأة تضحك، ترقص باليه على السطح)، فالحبّ (مهندس لا خبرة له)، قد يرتكب (مزيداً من الجرائم)، والعاشقة تلاحقه (أرادت أن تصبح عنوانه)، وآخر ما تذكره أنها (تزعج عصافيرها الوديعة/ وبدأت فأس تهوي عليها)، لكنها لا تكفّ عن (مدّ ظلها) على الورق.

رضا أحمد، في (لهم ما ليس لآذار) شاعرة تبدأ بديوان متّسق بديع ضمنه حالات متواترة، ومتوترة أيضاً، شعريتها تحاول أن تكون فريدة لها، وإن هضمت كثيرين، وهي أولاً لا أخيراً، قد تفي بوعد مختلف عن السائد، ونحن (معها) ننتظر (وقلوبنا تسعل في الخارج) عودَ الثقاب (القابل للاشتعال من أقلّ حكّة)!



محمد عيد إبراهيم
(شاعر وكاتب ومترجم مصري)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى