عمر الكدي - بلاد تحبها وتزدريك

(إلى ليبيا أم العز المسماري)


ليبيا بدوية شرسةْ
تحب حين تحب من تشاءْ
وتكره حين تكره من تشاءْ
تسقي العابرين القاحلين،
بدلوٍ من أجاجٍ وغناءْ
وتستسلم لمن يطوقها بالقوافي
وينفذ إلى قلبها على صهوة الخيالْ .
ليبيا فرس جامحة
لا يمتطيها إلا من يركب الريح،
بلا سرج ولا لجامْ .
ليبيا نخلة سامقة
لا تمنح عراجينها
إلا لمن يعبر الأشواك
وتذبح كفيه الحبالْ.
أنثى بشهوة محمومة
يمر فوقها السحاب بارداً
لا شيء يدركه البللْ
سوى نهديها المتباعدين
وهذا العنق الهارب نحو البحر
مثل حصان مجنونْ .
ليبيا زيتونة وارفةْ
زيتها يرطب الجوع
ويُضحك الظلامْ .
أحبها مثلما أحب
هذا الوجه الذي
يقابلني دائماً في المرايا
مقطباً وتائهاً
الذي يُفزع بصليله
قطعان هدوئي وعصافير أحلاميْ
الذي يغيظني ويهزأُ بي
ويفضح حين أخفي
خلجاتي الدقيقة الضامرة
الذي عادة ما يثقب
البالونات في سماء غروري
وينبش في حدائق زهوي
قبر أسراريْ.
أحبها مثلما أحب اسمي
الطالع من فيافيها عشبة بريةْ
الناتئ من صخرها مكشراً
مثل وجه ذئب
وأكرهها مثلما أكره عاداتي السمجة
وهذا التطاول الأحمق
على العقل والألم.
دليني كيف نتـفق ؟
أيتها الأنثى المكابرة
وأرفقي بحبي المبصر
وقدري الكفيف.
دليني كيف أبثك
حنيني النخيل ؟
وكيف أتماسك في حضرتك
بوجداني المشطور؟.
أرحل هارباً منك
وكأنني أهرب من هواجسي
“يا ليبيا أين المفر “
وأنت نافورة القلب
التي منها يرتوي.
أرحل هاربا منك
وأعود إليك مثلما يعود
الظل إلى غصنه.
ليبيا لوزة في الخريف
أزهارها عوانس الربيع
دائماً يباغتها المطر عارية
تهزها الريح عارية
واللوزة العارية لا تصلح
للأعشاش والطيور.
أشتُمها مثلما أشتم
حظي الأحمق
أسبها مثلما أسب عاهتي المستديمة
وأترفق بها مثلما أترفق
بعجوز تعبر الطريق.
لا شيء في البال أهبه لك
سوى كياني المهشم
وقلبي الواسع الوثير.
دليني كيف أحبك أكثر؟
وكيف أروض هذا الدلال الفج ؟
وكيف لا أدوس ارتباكي في الشارع المزدحم ؟
وأنت تتأبطين ذراعي
مثل امرأة عارية أو شديدة التحجب.
تمهلي قليلا ً
ودعيني أنظر في عينيك
لعلني أصطاد فيهما تهربك الأملس
وأوهامك الخشنة.
ليبيا طعنتي المؤجلة
وقدري الأخيرْ
من أجلك نموت كل يوم
نلد الأطفال كل يوم
نطلق النار والأبواق كل الخميس
ونغسل يوم الجمعة كل شيء.
من أجلك نحتمل ألقابنا المتوحشة
ونحمل هذه الملامح المرة المشاغبة
من أجلك تصعد ابتهالاتنا
في سمائك الزرقاء
لتحجبها الغيوم.
من أجلك نسطو عليك
ومن أجلك نموت.
أحبك ببساطة قاحلة
لا تنبت الغيرةْ
أحبك بلا ابتذال
وكأنني آدم وكأنك حواء
أحب أطفالك الأشقياء
حين يصفعونني
حين يعضون أصابعي
حين يخدشون وجهي
وحين ينعتونني بالحمارْ.
أحب فتياتك الصاخبات صباحاً
الهامدات في المساء
من أجلهن تنبض أسلاك الهواتف
وتنام السماعات الهامسة
على الوسائد البكماءْ
أحب نساءك المقهورات
اللواتي يروضن الرجال بالصبر والأولاد
الأميات اللواتي شققن دروبك
بحثاً عن الحطب
وحفرن صخورك بحثاً عن الماءْ
المتعلمات الهاربات من بياض اللحاف
لسواد الحجابْ.
وأحب العانسات
كيف تذبل العيون ضاحكة
خلف تجهم الأبواب ؟
كيف ينضج الخوخ ثم يتغضن
تحت الثياب ؟
وكيف تعيش نخلة لم تهزها الريح
لم يستيقظ على عراجينها الندى ؟
أحب رجالك المتكبرين
في حضرة النساء السافرات
الذين تزوجوا كيفما أتفق
الذين يندبون في الحانات الغريبة
أيامهم القاحلة
الذين يصطحبون زوجاتهم
في الكراسي الخلفيةْ
ويصطحبون العاهرات
في الكراسي المجاورة.
أحب شبابك الضائعين
الواقفين أبداً عند مفترق الطرقات
الصاخبين الضاجين الضاحكين
الغاضبين دون سبب
المتبرمين بكل شيء
الذين يبيعونني خمر المساء
في الأزقة المظلمة.ْ
الذين يدخنون الحشيش
ويراقبون شوارعك من خلف
النظارات القاتمة
وفي السيارات البطيئة المسالمةْ
شبابك المتشنجين المتزمتين
الذين يؤمنون بالعنز حين تطير
الذين ينخرهم الفراغ
وتطردهم شيخوخة مبكرةْ.
أحب شيوخك الطيبين المتصلبين
الذين يعرفونك أكثر مما يجب
لذلك لم يقلموا الهواجس
ولم ينسوا كفيك القاحلتينْ.
أحب هذه الشوارع القذرة
التي نبتت على جانبيها الحكاياتْ
غاصت في جدرانها أصابع الطفولة
وتسلقتها الذكرياتْ.
أحب أصدقائي الرائعين
الذين يهدهدون وحدتي
نتعاطى السخرية والشعر
ونتساند حتى لا نقعْ
أحب أقاربي البسطاء
الذين تؤرقهم عزوبتي
ويصافحون مزاجي الأعسر
بتسامح أيمنْ.
أحبك بسادية متعبة
وألعنك في اليوم ألف مرة
ألعنك وأنا أنفذ إلى
قهوة الصباح بمشقة بالغة
وألعنك وأنت تـندسين
بيني وبين وسادتيْ.
أحبك هكذا لأنني ضميرك المشاغب
الذي يزعجك حيث ينفض تبلده
ويقرِّعك مثل طفلة
تبول في فراشها.
لا شيء في البال أهبه لك
سوى عمري المبدد
الذي لم أحبه كما ينبغي
ولم أفصله كما أشتهي.

أعلى