يوسف المحيميد - لا تقلب نعلك حتى في "نورج"

يوسف.jpg

على سرير أبيض وجدتُ نفسي نزيلاً في مستشفى "نورج" العام، بعد أن نقلوني من مستشفى "بيوبا" البعيد عند أطراف المدينة، في حالة أشبه بالغيبوبة. حاولتُ أن أتذكر من أنا؟ ومن جاء بي إلى هنا؟ وأين أهلي وأمي؟ وهل أنا على الأرض أم في السماء؟ فلم أستطع. رأيت أنبوبة المغذي معلقة على حامل، وكأنها بعيدة جدا في سماء عالية، كانت تشبه جرما سماويا، أو كوكبا في غاية الضآلة. بدأت أفرز الذاكرة القريبة للغاية، أو البعيدة جدا، وصرت أرى حياتي تمرُّ أمامي مثل قطار سريع بين نورج ولندن!

في منزل السيدة كاترين، حيت عشت معها، تهادت صباح أمس أغنية محمد عبده "يا نسيم الصباح. سلّم على باهي الخد" عبر سلالم البيت الخشبية. كانت الأغنية تصعد الدرج، فلا أسمعها فحسب، بل أشم رائحتها، أو رائحة قهوة أمي الصباحية. فركتُ عينيَّ، واعتدلتُ فاهتزت قوائم السرير الحديدي، ومشيتُ تجاه النافذة الطولية. أزحت الستارة قليلا، فرأيت الشارع والموظفين والعاملين والتلاميذ الإنجليز يقتحمون الأرصفة، بمظلات تحمي تسريحات رؤوسهم من بلل مطر ناعم وخفيف. جارتنا المواجهة خرجت أيضاً، وودّعها كلبها الأبيض وهو يهز بذيله مثل بندول الساعة، قبل أن ينكص إلى الداخل.

فتحت باب غرفتي، فازدادت دقدقة آلة السمسمية يخالطها صوت محمد عبده، حتى كأنما صرت أراه بغترته البيضاء، يتقدم الفرقة الموسيقية على شاشة تلفزيون بالأسود والأبيض. ما الذي جاء بك هنا، في صباح بارد وملوّن كهذا الصباح؟ قلت: ربما أدار الطالب الإماراتي محمد شريطا قديما في المسجل، لكنني تذكرت أنه غادر إلى بلده منذ أكثر من شهر. نزلت الدرج الذي يشبه درج أقبية مساجين. كنت تعلمت مثلهم أن أنزل جنبا، لا من الأمام، حتى لا أنكفئ وأتدحرج. ربما أكثر ما يؤرقني أن أنزل ليلا للحمام الوحيد في المنزل، وما يمكن أن يسببه الدرج الخشبي من أزيز كما بكاء أشجار مقطوعة. يحدث أن أنسى غسل أسناني بالمعجون، فأشعل مصباح الدرج بهدوء وحذر، ثم أخطو بقدمين طائرتين وخفيفتين، حتى لا أحدث ضجّة، وقد ظننت أنني أثير حرجا للسيدة كاترين، والسيد جوناثان، وهما يثيران لغطا وتأوهات في الغرفة المجاورة، قبيل أن ألمحهما من فرجة الباب الموارب، مثل دبّين متعانقين، دون أن يكترثا بوجودي.

عصراً توقفت سيارة الأجرة في الشارع المقابل، ونزلت أنا الغريب بعدما قرأت رقم المنزل 146، فوجئت بالسيدة كاترين تفتح الباب وترحب بي، وزوجها ـ كما ظننت ـ السيد جوناثان بجسده الضخم الفارع، وهو يحمل حقائبي بنشاط، ويصارع بها ضيق السلم الخشبي وسط المنزل. كنت رأيت فيه زوجا مثالياً ونبيلاً، قبل أن يضحك عليَّ زميلي الإماراتي محمد باستخفاف، وهو يخبرني أنه صديقها الخاص، إذ كان يحضر في عطل نهاية الأسبوع، وأحيانا تغادر هي معه إلى منزله ليلة كاملة أو نصف نهار، بعد نهاية نوبة عملها في المستشفى. كانت ضحكته ضاجّة، لدرجة أنني أشعر بخشب البيت يرتبك ويتمايل. لعل أقبح ضحكاته، تلك التي كسرتْ فيَّ ضلعين، حين دخلتُ المنزل، ذات ظهيرة، متجهاً نحو المطبخ المقابل، فرأيته يضغط بجسده الضخم جسد كاترين، راسما على فمها قبلة طويلة، فما كان منّي إلا أن تراجعت، محاولا الانسحاب دون أن يشعرا بي، وركضتُ صاعدا السلم الخشبي، في اللحظة التي لمحني فيها، فضجّ بضحكة عالية ساخرة، كانت مثل رصاصة في ظهري النحيل.

كلما مشيت في أنحاء المنزل الصغير كانت أغنية "يا نسيم الصباح" تحلق حول أذني كما فراشة صحراوية، كانت السيدة كاترين وضعت لي كالعادة نوعين من "الكورن فليكس" رغم أنني لا أحبه، لأستل كل صباح شريحة خبز، وأدهنها بملعقة زبدة ظننتها لأيام جبناً سائلاً، حتى قرأت ذات يوم كلمة:زبدة، بالإنجليزية، على غطاء العلبة البلاستيكية. فكففت عن استخدامها! بعد أن صفقت بباب المنزل خلفي وخرجت، معلقاً حقيبتي المدرسية على ظهري، سرتُ دون أن أستطيع أن أهشَّ فراشة أغنية محمد عبده وهي تحلق فوق رأسي، رأسي الذي لم تسعفه قطرات مطر خجولة، ليكف عن الذكرى، ولا شوارع مبتلة، ولا أطفال ولا نساء شقراوات، ولا عجائز تقودها كلاب متجوِّلة، ولا خضرة أشجار هائشة وضخمة كأنها جنِّيات يسبحن لآلهة، ولا سماء مكتظة الغيوم، ولا شيء أبداً استطاع أن يسيطر على رأس محشور به حنين طاغ ومريض. كنت قد سرت في الشوارع التي قادني فيها أول يوم زميلي الإماراتي محمد، ونحن نتجه إلى "درم رود" الطريق الرئيس في المدينة، الذي ننتظر فيه حافلة المدرسة الزرقاء، وهو يقول لي: هذا أهم طريق في "نورج"، يشق المدينة حتى مركزها، في "السيتي سنتر". ثم أضاف: كي لا تنسى اسم الطريق، تذكر عملتنا في الإمارات "درهم".

تذكرتُ كل أيامي فجأة، وهي تنهال مثل إبر حادّة على جسدي الممدّد على السرير الأبيض، ولكن لم أنا هنا؟ كنت أسأل نفسي، قبل أن يحيط بسريري أربعة أطباء وممرضتان، كنت أرى لهم رؤوس قردة بمعاطف بيضاء، لكنني لا أملك أن أصرخ هلعا، حيث خدر يثقل لساني وفكي.

من يسكب اللبن على الأرض أو السجاد، يعاقبه الله، فيحوله إلى قرد أو عنز، كانت أمي تخيط طفولتنا بسوالف وأحاجٍ وأساطير. كنّا نظن آنذاك أن القرد الشهير سعد، في حديقة الحيوانات بالملز، جدّنا الذي فسق فسبح في وعاء اللبن، بعدما أهلك الجوع أجداده "سنة الجوع"، ثم انفجر عليه نهر الرزق، ففسق، فعاقبه الله بأن حوله إلى قرد مسلٍ، يلتهم أصابع الموز، فتضحك منه النساء الواقفات أمام قفصه قبل أن يشهر عضوه في وجوههن، فيضحكن بغنج وإيحاء للرجال الواقفين بجوارهن.

جئتُ إلى "نورج" بعقل أمي، وأحلامها، وإيمانها، وتقاليدها، فظللت أقلب الأحذية على بطونها، وما إن أرى حذاءً مقلوباً تجاه السماء، حتى أفزّ مرعوباً وأعدّل هيئته، لأترك أوساخه وأثر الشوارع فيه باتجاه الأرض، الأرض التي يسكن بطنها الشيطان. وما إن رأتني السيدة كاترين أكثر من مرّة أعدّل هيئة الحذاء المقلوب، حتى سألتني سؤالا لم أفهمه، فكتبته على ورقة، قمت بترجمته بالقاموس الإلكتروني، فنفيت أن أكون مريضاً نفسياً، حاولتُ أن أشرح لها بلغة مكسَّرة، أن مثل ذلك حرام كما أوصتني أمي في طفولتي. لم أعرف استخدام كلمة مكروه، وتعلمت كلمة حرام، من زميل متديِّن في الصف، كان يلاحق الطالبات اليابانيات، وينصحهن بستر أجسادهن، قبل أن يقدِّمن شكوى تحرُّش ضدَّه إلى مدير المدرسة.

بعد أن عدت ذات ظهيرة من المدرسة لم أنزل من الحافلة في الموقف المخصص لي في "درم رود" بل بقيت مع بعض الطلاب المتجهين لآخر محطة في وسط المدينة، لأبتاع قميصاً ومعطف صوف للشتاء الذي داهمنا مبكراً. كنت أمشي جوار مخزن "كيو آند دي" منحدراً إلى قاع السوق، مارَّاً بمتجر "ماركس آند سبنسر" الذي حذرني من الشراء منه زميلي المتديِّن، مؤكداً أن مالكه يهودي يدعم قمع الانتفاضة الفلسطينية في القدس. دخلت المتجر، ورأيت قميصاً مخططاً، حملته في سلة مشترياتي، وأتبعته بمعطف صوف ثقيل، لونه رمادي، ودفعت الحساب، ثم خرجت متجهاً إلى "بيتزا هت" في المنعطف. في الطريق رأيت شاباً وفتاة يأكلان ساندويتش لحم، قذف الشاب ببقايا الساندويتش في سلة النفاية المعلقة. توقفتُ، وأدخلت يدي في السلة، واستخرجت بقايا الأكل، وقبَّلتها، ثم وضعتها على زاوية درج محل مقابل، ففوجئت بالبائع يصرخ في ظهري بشتائم لم أعرف معظمها، قبل أن أراه يلتقط النعمة ويرمي بها في سلة القمامة مرة ثانية.

لم تثق السيدة كاترين باستنتاجها، من أني مريض نفسي، بسبب حادثة السوق هذه، إذ لم تعرف عنها شيئا، لكنها جزمت تماما، وقد تلقيتُ طرداً من أمي، فيه علبة تمر مخزون، وسجادة صلاة حمراء، أذهلت السيدة رسومها ونعومة الحرير المنسوجة به، فتذكرتُ نصائح أحد أقاربي قبل سفري، بأن أكرم الإنجليز، حتى أظفر منهم باللغة، ولكي أتودّد إليها، قدمتها لها كهدية. رفضَتْ في البداية، وأرادت أن تدفع لي قيمتها، لكن إصراري القروي جعلها توافق أخيراً. كنت أظن أنها ستعلِّقها على الجدار مثل لوحة، خصوصا أنها تعلق الكثير من الأطباق المزخرفة والمنقوشة بالرسوم، لكنني فوجئت بها في اليوم التالي تضعها في موطئ الأقدام تحت الصوفا الوحيدة في الصالة. كانت تضع قدميها على رسم الحرمين، قبل أن أهجم عليها بجنون ساحباً السجادة من تحتها، وأنا أشتمها بالعربية، دون أن تفهم، رغم أنها فزعَتْ وابتعدَتْ عنِّي، وقد رأت ملامحي الهائجة، قبل أن أصعد إلى غرفتي لاعناً كل شيء.

مذ ذاك أيقنت السيدة كاترين أنني مريض نفسي، ويجب التعامل معي بحذر، رغم أنني حاولت أن أشرح لها أنها كانت تضع قدميها فوق أشياء مقدَّسة بالنسبة لي، لكنها لم تفهم، وجادلتني طويلاً، محتجةً أنني أعاني من وسواس قهري، يجب أن أعالجه، إذ ترى أنني سأصلي على السجادة: أليس كذلك؟ قلت: نعم! سألت: ألست تضع قدميك فوقها وأنت واقف للصلاة؟ قلت:نعم! قالت منتصرة: لم غضبت إذا منِّي؟. شرحت لها أنني أضع قدمي في طرف السجادة الآخر، بينما يبقى رسم الحرمين موضع رأسي عند السجود، فعادت تجادلني: ما الفرق بين رأسك ورجلك؟ أليست كلها أجزاء من جسدك؟ هنا توقف حواري معها، حتى اليوم الأخير في بيتها.

اقتربت منِّي ممرضة برأس قرد، وأفردت فمها مبتسمة، كان واسعاً جداً كما يليق بقرد، لم أستطع الكلام، عيناي كانتا رخوتين، والأشياء أمامي ضبابية ومضطربة، كان فمها بعيداً جداً، كأنما كان هلالاً في سماء عالية، ربما كانت تقيس النبض لحظة ذاك، كنت أودُّ لو مددت يدي لأقطف هلال وجهها، لكنني لا أملك أن أحرِّك يدي، فضلاً عن أن أرفعها، ما أصعب أن ترى الأشياء أمامك، فلا تملك أن تتفاعل معها حتى قولاً أو كلاماً، اعتراضاً أو رفضاً.

ما الذي حوّل البشر أمامي إلى قردة؟ كنت أحلم بمرآة لأرى وجهي، ما إذا كان آدمياً أم قرداً بملامح صحراء بعيدة، اقتربت ذاكرتي من القريب للغاية، كيف صرخت وأنا أدخل منزل مدام كاترين عائداً من المدرسة، كيف انهلتُ عليها مجنوناً وقد سدَّت مسلك مغسلة اليدين، وبدأت تسكب الحليب على يديها ووجهها وعنقها وبلاطة صدرها الشاسعة، ثم تغرف ما تجمّع منه في حوض المغسلة وتغسل وجهها بالحليب بعدما دهنته بصفار البيض وخيار وغيره، كان صوت أمي وراء البحار يقول لي: من يسكب اللبن على السجاد يصير قرداً، كانت ملامح أمي جادَّة وصارمة، كنت أنصت إليها، في هذه اللحظة، في "نورج"، كما لو كنتُ في السادسة، كما لو كنت أعود متأرجحاً ومرهقاً بحقيبة المدرسة الضخمة.

لحظة اقتربت من مدام كاترين قرب مغسلة اليدين لأمنعها، التفتت صوبي بوجه غريب، لم يكن وجهها الذي أعرفه إطلاقاً، أقسم أنه كان وجهاً مشعراً، بفكين بارزين، دون ما شفتين، كان رأسها رأس قرد عجوز أرعبني، صرخت وقفلت راجعاً، فاصطدمت بطرف الدرابزين، وسقطت، حاولت أن أنهض، فكان قرد ضخم الجثة يقف على رأسي، وينحني بشخير عال، ولم أعد أتذكر شيئاً، سوى هذا الوجه الذي يقف قربي الآن وأنا مستلق على سرير أبيض محاصر بجيش قرود، ربما كانت تتشاور فيما بينها بشأن إجراءات نقلي إلى مصحة نفسية.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من مجموعة قصصية جديدة بعنوان "أخي يفتِّش عن رامبو" تصدر الشهر المقبل عن المركز الثقافي العربي في بيروت/الدار البيضاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى