عبدالرحيم مؤذن - الكتاب الأول..

قبل أن أغامر في إصدار كتابي الأول، كنت قد أصدرت ظله الخفي -قبل وجود الأصل- الذي لم يره أحد غيري. الدفتر من خمسين ورقة. صفرة باهتة تساير المقطعات الموزونة - بالرغم عنها- عن الحب والحبيب . والمحبوب مركب إضافي من صورة ابنة الجيران، وبعض ملامح سعاد حسني التي تتبخر كلما أغلقت الدفتر، متأملا ظهر الغلاف بجداوله القاهرة، خاصة جدول القسمة التي كنت أكن لها الكره الشديد. وبجانب المقطعات، هجعت خواطر محكية عن تلك المرأة التي وضعت أحجارا في قدرها موهمة أطفالها بطعام شهي. والفارق يكمن في تعويض الأحجار بأعشاب تافهة. أو قس على ذلك.
في وقت لاحق، حرصت، و كأنني أهرب بضاعة ممنوعة،
على تقديمه لأخي الأكبر- رحمه الله- وهو معلمي الأول في الحياة والثقافة والفن- الذي سيطلعه بدوره على أحد أصدقائه… وهنا انفجرت الرمانة، ولم يعد أما مي سوى الاستسلام لهذا الوضع الجديد، وضع كاتب يشار إليه بالبنان، وعند ظهوره ، في بداية الدرب، ترسل له التحايا، وتبتسم له - له وحده- ابنة الجيران، ويفاخر به الأب جلساءه في المواسم والأعياد.
الاصرار على تقمص هذا الدور ينبع، أيضا، من هاجس خفي لا يمكن تفسيره، لكنه ومن المؤكد، يمنح الذات الكثير، أو القليل، من الاحترام ، الكثير أو القليل من المسؤولية، الكثير أو القليل من المتعة والترويح عن النفس.
بين الظل المفترض، لكتاب ما زال في عالم الغيب، استمرت معركة إثبات الذات في واجهات عديدة، وأهمها القراءة والكتابة في آن واحد وصولا إلى مغامرة النشر- أواخر الستينيات من القرن الماضي- الذي ظل ،إلى اليوم، طريقا أدق من السيف، وأحد من الشعرة...
وجاء اليوم الموعود. وكان الكتاب الأول توأم حلمين بعرض السماوات والأرض. لم يكن كتابا واحدا، بل كان الكتاب كتابين بعنوان تركيبي يعكس فظاعة تلك الأيام من محرقة- محارق- سبعينيات الفرن الماضي.
اللعنة والكلمات الزرقاء: عنوان قيامي - نسبة إلى القيامة- لم نعثر عليه أنا وصديقي إدريس الصغير بسهولة، وأخيرا اقتنعنا بأن ما يحيط بنا، آنذاك، لا يستحق أكثر من هذه البصقة في وجه عالم مدمر للذات ، ولكل الأشياء - على بساطتها- الجميلة في الذاكرة والوجدان، في الماضي والحاضر.
كانت مغامرة رائعة بكل المقاييس: مغامرة في- ولأول مرة في تاريخ القصة المغربية الحديثة- الاصدار المشترك النابع من الاشتراك في القيم، ودوافع الكتابة، فضلا عن الذاكرة المشتركة في امتدادها المكاني والزماني.
مغامرة في تدبير المال، والاقتراض من هنا وهناك، وحرمان النفس من أشياء كثيرة.
مغامرة في التعامل - ولأول مرة- مع مطبعة محترفة، وعقد طبع، وملابسات التصحيح- ويومها لم يتداول الحاسوب بعد- والاخراج واللون والخط ، ونوعية الورق...
مغامرة عند إصدار الكتاب بشكل أفقي ،تحديا للسائد، وكأننا كنا نطمح إلى فتح أفق جديد للكتابة القصصية - بعيدا عن التيمورية- بعد أن أصبح الزمن السبعيني "عصرا سبعينيا" تصادت فيه أصوات " الغيوان" بضربات مسرح الهواة، والأدبيات السياسية المتفجرة بالبحث النقدي الجذري الذى دعا إلى طرح كل شيء على بساط النقد، والشهادة الفكرية الجريئة بالاستشهاد، واللباس المتمرد بالنزول إلى الأزقة والساحات..
كان الغلاف هدية من الرسام الصديق "سيد عبد العزيز"، فضلا عن الرسوم الداخلية. ألوان الغلاف الثلاثة: الأسود، الأبيض، والبرتقالي، جسدت أبعاد التجربة من خلال التركيز على بؤرة التشويه التي طالت الانسان( الوجه الابليسي) ، وامتدت إلى الأحلام الصاعدة من رأس هذا الكائن ومن أماكن أخرى، متخذة -الأحلام- شكل كائن هلامي يزحف بأفواه فاغرة تلتهم كل ما تصادفه. والرسوم الداخلية لم تخرج عن ذلك، بل اتخذت أوضاعا بهلوانية، سالت فيه الأعضاء ، وكأنها مصنوعة من مطاط ذائب، وتداخلت فيها الملامح والملابس والأوضاع بأشكال ملتبسة دفعا لعدوان غير منتظر.
مغامرة في التوزيع ، سواء بشكل فردي، أو بمساعدة الأصدقاء، عن طريق ما أطلقنا عليه ، آنذاك " حملة البيع النضالية" - وسعر المجموعة لم يتجاوز الخمس دراهم- في المقاهي والمدارس والجمعيات والتجمعات، مرفقة بتخفيضات للتلاميذ والطلبة، أحيانا، وبهدايا - أحيانا أخرى- لمؤسسات وجمعيات مهتمة.
مغامرة دعمها أستاذنا "إبراهيم السولامي" منذ السنوات الأولى من التعليم الثانوي، بمقدمة مكثفة أضاءت بعض جوانب المجموعة وبعض ملابساتها.
مغامرة في الطموح إلى خلخلة الكثير من الثوابت في الكتابة والحياة، والاخلاص، من ناحية أخرى، للإبداع، للإبداع وحده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى