محمد الأصفر - ذيل العصفورة

* إهداء إلى أم العز الفارسي

لا أستطيع أن أرى أمي.. صهري قبض عليه منذ أيام.. وجاء البوليس لـتـفـتـيش بيتها والذي أقيم في شقة فوقه.. اقتحموها.. سألوا عني.. أجابهم الغبار: إنه لا يقيم هنا.. منذ شهور ترك الشقة ليقيم في غرفة ضيقة ببيت شباب شحات.. التقيت بقريب لي.. أخبرني أنهم يبحثون عني.. ومكعب البيت مرصود من جميع الجهات.. قلت له: لكن أريد رؤية أمي.. منذ شهور لم أرها.. أشتاقها بشدة.. في شحات أحلم بها دائما.. قال لي: أرجوك أن تختفي هذه المدة.


وكيف لي أن أختفي وأنا الآن في بنغازي ؟!.. أذرع شوارعها.. أتسكع في ميدان سوق الحشيش والفندق البلدي وسيدي حسين.. زرت مبنى البريد ومقهى تيكا.. شاهدت مباراة البرتغال وإسبانيا في مقهى لبدة المقابل للحرس البلدي.. دخلت أمانة الإعلام والثقافة.. مررت من أمام الإذاعة ومحكمة الشعب والمثابة.. لم يقبض عليّ.. مررت أيضا من أمام مبنى البحث الجنائي ولم يحدث شيء.. لم أرَ أي عنصر بوليس ركّز بصره في وجهي.. اعتقد أنّ حبيبتي بنغازي تـُـلْبِسُني قبعة الإخفاء.. وترشرشني بملح كركورة المبارك وتغني لي:

يا محنـّـي ذيل العصفورة.... عليك ملايح كركورة


عندما أخبرني قريبي – وهو في الحقيقة ابني الصغير أيوب ! – لم ارتجف.. ولم تـتصاعد دقات قلبي.. ولم أهرع إلى أقرب بيت خلاء.. بل لم أشعر بذرة ضيق أو قلق.. عندما أخبرني بكلمات واجفة طمأنته بابتسامة وربتُّ على كتفه وأتممت معه شغلي.. ركبنا حافلة من حي المحيشي حيث أقيم ويبحثون عني إلى الفندق البلدي.. كان ابني يحكي لي في الحافلة قصة تفتيش بيت جدّته وشقتي.. كنت أنبهه بنظرة تحذير وعضّة شفاه سفلية أنْ يخفض صوته وينتبه.. ونزلنا قبل المحطة الأخيرة تضليلا لآذان بصاصي الحافلة.. ذهبنا جنوبا إلى سوق الحديقة.. اشتريت له التلفاز الصغير الذي وعدته به منذ شهور ومعه مجموعة أقــراص C D عليها مغامرات سندباد ورسوم متحركة ثم اكتريت له سيارة أجرة وشيعته بنظرة ود.

قال لي: اخـتـفِ يا أبي.. عُـدْ إلى غرفتك في شحات ولا تأتِ إلى البيت في بنغازي.. لا تنشغل علينا.. سنتدبر أمورنا.. معنا الله.. اختفِ يا أبي.. لقد أتوا إلينا بعد التفتيش عدة مرات.. وكل صباح وأنا أحضر الخبز من الفرن أجد سيارتهم رابضة في بداية شارعنا.. أعرف أنك بريء.. جدتي قالت لنا: أبوكم مش داير شيء.. كذلك قالوا الجيران.. لكن أرجوك.. ابتعد.. ابتعد من هنا.. وغادرتْ به سيارة الأجرة وأنا واقف مكاني ألوّح لالتفاتة الصغير الوديعة إلى الوراء..

وماذا أفعل الآن ؟.. صدقوني لم أشعر بالخوف.. يحدث معي هذا دائما.. منذ عقدين وهذه حالتي.. قلق أبدي.. رحيل دائم.. بيت ملعون لم أنعم فيه بالهناء يوما.. حتى ليالي عرسي امتلأت بالكوابيس.. حقا لم أشعر الآن بالخوف.. ولم ينتابني الارتجاف.. ولم أهرع إلى أي مرحاض.. فقط ضرطت بقوة.. وواصلت مسيري شمالا إلى سوق الفندق البلدي.. خضت في الزحام.. أتمتع بألوان الخضر والفاكهة والتمور والبقول والمحمصات.. أتشمم رائحة البهار والنعناع والكسبر والبطيخ.. استمع لصياح الباعة: معدنوس.. جرجير.. طماطم.. فلفل.. فجل.. بصل.. ثوم.. لفت.. كرنب.. خيار.. بطاطس.. جزر.. كوسة.. باميا.. دلاع.. بطيخ.. خوخ.. باذنجان اسود وأبيض.. فـقوص غليظ.. الخ..


وعند باب الخروج لا أتمالك نفسي واتقرفص أمام عجوز تبيع الوشق والجاوي والفاسوخ والحلتيت.. كانت أمي دائما تشتري منها مستلزماتها العطرية.. أسألها عن أمي وتغلبني الدموع فتناولني منديلا أخرجته دافئا من ردنها.. رائحته مسك وعمبر وقرنفل وريحان ومحلب.. كفكفت به وخرجت من السوق.. اتجهت غربا وتجاوزت حديقة ضريح عمر المختار المهدوم.. وفي منتصف شارع عمرو بن العاص توقفت عند حلواني بوعشرين.. اشتريت منه طربوش جيلاتي بالمكسرات أبرّد به صهد عمري وواصلت صعودي في الشارع العتيق.. الدكاكين يميني.. قنصلية الطليان يساري.. بلاط الرصيف متخلخل تحتي.. والسماء صافية فوقي.. و لساني يلحس حلاوة الجيلاتي ويغني.. ورأسي تفكر كيف تـتسلل إلى حضن أمي.. وعند نهاية ابن العاص نضب الجيلاتي من طربوش البسكويت فرميته فورا جنب شجرة الميدان المجـتـثة وانعطفت بشدة يسارا حيث شارع الزعيم الخالد جمال عبدالناصر المتجه صوب الجنوب فقط.


24-6-2004

* ميادين


العدد: 41.. السنة: 03.. 09/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى