منقول - في اليوم الوطني للقصة القصيرة.. أجمعوا على حبها رغم فوضويتها ونيرانها، وعلى أنها تجلب المحيط إلى القلوب القصة القصيرة تقاوم وتقتحم تخوما جديدة

هل حقا هذا زمن الرواية؟
سؤال مافتئ يتردد بعد جلبة الجوائز ، وهجر العديد من القصاصين لديار الحبيبة الأولي القصة أو توقف البعض منهم. وإذا كانت القصة القصيرة اليوم قد خسرت مساحات شاسعة في أرض التلقي والاهتمام النقدي وقبله تشجيع دور النشر على ترويجها، فإنها لم تعدم كتابها المدمنين على الحفر في جغرافيا الكتابة والعودة بالمختزل المدهش والمختصر المفيد ، كما لم تعدم قراءها الأوفياء .
هل القصة المغربية اليوم بخير؟ كيف يراها المكتوون بنارها والمعرضون دوما لاستفزازاتها ومناوشاتها، هل تبدأ قصصهم عندما تنتهي أم عندما تبدأ؟ ما علاقة بالكتابة؟
في اليوم الوطني للقصة القصيرة 28 أبريل، نقف مليا مع روادها المحافظين والمجددين، نرمي حجرا في بركة الابنة المدللة للأدب، فنسمع بعضا من وجعها ومن فرحها أيضا، في دعوة سخية للنظر في المنجز القصصي المغربي، والالتفات إليه والدخول في حوار بناء معه.


أحمد بوزفور: تلك القصة النار
علاقتي بالقصة علاقة مجوسية :

ـ فهي أمي حين أقرأ نصوصها الكلاسيكية النموذجية، وأرضع من ثديها حب الأم أولا، وحب الحياة ثانيا، وحب الجمال ثالثا، وحب الحب عُمْقَ ذلك كله، وأتربى في حجرها الذي يحيط بي ويحفّني ويطعمني ويسقين، وأتعلم من همسها الخاص لي، ونحن وحدنا، كيف أحس وكيف أتخيل وكيف أحكي.
ـ وهي ابنتي حين أكتبها. أحملها وهي في الخرق، وأناغيها وأغني لها: (قصتي قصيرة/ عينها بصيرة )، وهي تكبر أمامي وعلى عينيّ. أوجهها وأجنبها العثرات… حتى إذا اشتدّ ساعدها واستدّ، زيّنتُها وجلوتُها على قارئها العريس.
ـ وهي حبيبتي وزوجتي حين أفكر فيها كجنس أدبي، نسَجَتْه ثقافات العالم وآدابه حتى استوى ثقافةَ الثقافات وأدبَ الأدب.. ممرعة الخصوبة مكتملة الأنوثة، أجلس تحت قدميها المُحَنَّاتين وأتأمل جمالها الفتّان وأتملّاه، فأُذهل إعجابا وأهيم عشقا، ويقول لي العاذلون: تكاد تُجَنُّ بها، فأقول: وأوشك أعبدُها. القصة هي النار المقدسة. ونحن عَبَدَتُها المجوس. نار نقبس منها ونؤجّجها… ونكتب عشرات القصص/ التجارب على أمل أن نكتبها يوما ما: «تلك القصة النار: أكُلَّ امرئٍ تحسبين امرَأً؟ / ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا؟ »

عبد الحميد الغرباوي: أتطلع
إلى أن تكون في أبهى حللها

علاقتي بالقصة هي علاقة صداقة، لكن لا هدنة فيها… علاقة تتسم بالاستفزاز والمناوشة، وحرق الأعصاب، والقلق…وعدم ارتياح… أحاول أن أكون جديرا بها…جديرا بالانتساب أو الانتماء إليها، وأستحق، في مجالها، حمل لقب قاص أو كاتب قصة…
أما على مستوى القراءة، فليس ادعاء إذا قلت إن مكتبتي تكاد تختنق بآلاف القصص والحكايات…ذخيرة أعتز بها…بل هي كنز…هي مدرستي ومنهلي ومرشدي. فبالقراءة أتنفس القصة، وأكتبها، وبالقراءة أطور أسلوبي عن طريق المقارنة و التأمل والبحث…
واحتراما لميثاق بيني وبينها، فإن من واجبي الدفاع عنها، والتنديد بكل من يحاول تدميرها أو النيل منها أو التقليل من شأنها… وفي دفاعي عنها أتطلع إلى أن تكون في أبهى حللها… أن تكون فنا سرديا حاضرا، يتمتع بآلاف القراء والأنصار… أن تكون فنا متطورا يستجيب للحظة الراهنة… أن تكون فوضوية، شرسة، عنيفة، خشنة، غاضبة، ضاحكة، مستهترة، معربدة، لا تلجأ إلى مساحيق التجميل المستوردة لتزين وجهها، مفضلة عليها الكحل ولعكر الفاسي والسواك التقليدي، ولا تحب ارتداء فساتين السهرات، وأيضا لا تحب الثرثرة والمتطفلين…

إسماعيل غزالي: ما القصة القصيرة؟

سؤالٌ لاذع يلازم كاتبها، ويضاعف من التفكير في معناها على نحو دائم. سؤال يرنّ كقطعة معدنٍ على حجرٍ في ذاكرة قارئها أيضا، ويصخب الرنين أكثر عند ظفره بمتعة قصة قصيرة غير مألوفة تنسيه في كل ما عرفه من قصص مألوفة ماضية.
لا تغدو المعرفة بها وبمعناها كما هي، مع كل تجربة جديدة، لدى كاتبها وقارئها معا، إذ تتحول وتتقلب وتفاجئ وتتمرد وتنفلت. هاربة ماكرة مخادعة وسديميّة…
ما القصة القصيرة؟
سؤال ندنو من أثر لغزيته لحظة كتابة قصة قصيرة، إذ نفكر فيها من داخلها، بشكل أو بآخر، فيبدو لنا أن ما رسخ في ذهننا ونحن نفكر فيها من خارجها، أي قبل الكتابة أو بعدها ليس كما هو، إنه شيء غريب تماما، عشنا معناه بضراوة في الكتابة، ما عدنا نستطيع توصيفه خارجها.
ما القصة القصيرة ؟
سؤال يهاجسك في المسافة بين كتابة قصة وأخرى، بين تجربة كتاب قصصي وآخر. تؤجل الامعان في قلقه وجديته، وتنذر الأمر لمسافة بديلة بين القاص فيك، وبين القصة القصيرة نفسها.
ما القصة القصيرة ؟
ما تنفكّ تسألك القصة القصيرة عن نفسها في كل قصة تكتبها أو تقرؤها، ولا ترتكب حماقة الرد بيقين صلد، ليس لأنك لا تمتلك بعض السراب من هامشية الجواب، ولكن لأنك تعلم تماما بأن السؤال (سؤالك وسؤالها معا) منذور للعبتها الخطيرة.
ما القصة القصيرة ؟
سؤال لا يمكن تجاهل خطورته قبل وبعد الكتابة. سؤال يختبرنا في كل تجربة مع القصة نفسها، قراءة أو تأليفا . سؤال يجافي الجواب السريع والمتحاذق، قيمته المريبة أن يضعك موضع بهلوان يمشي على الحبل.
ما القصة القصيرة ؟
سؤال مستقل تماما عن : ما الكتابة؟
إنه يمتحن كاتب القصة القصيرة، باستمرار يقلقه، ويضاعف من توتره، هذا لأنه لا يقع خارج العلاقة الغامضة بلعبتها الفاتنة والصارمة، إنه يقع تماما في صلب علاقته الوجودية بها. بالقصة القصيرة التي تسائله من يكون، حين يسائلها ما أو من تكون.
ما القصة القصيرة ؟
سؤالٌ يصْخب في الصّمت الذي يفخّخ كُتب القصة القصيرة أو مجاميعها. يصْخب أكثر في الصمت الذي يلي حديث كاتبها عنها، هنا وهناك، في حوار، أو شهادة أو مقال.

سلوى ياسين: أناقة الصغر

تجلس القصة القصيرة داخل صالون مغربي واسع اسمه الأدب كطفلة صغيرة وذكية تفرك يديها من الخجل. أحيانا تشبك أصابعها في ما يشبه محاولة للتحكم في قلق القصر. قلق الحجم الصغير. تتطلع إلى حجمها وهي تردد : هل هذا يكفي؟ تقول للعابرين الذين يزورون المعارض والمكتبات وهم يستغربون من حجمها : أنا لست رواية ولا حتى رواية قصيرة لست حكاية كاملة.أنا قصة قصيرة.
فإذا كانت الرواية تلتهم كل الحكايات ما الذي يتبقى للقصة؟ أن ترش حبات السمسم على قطعة الحلوى. وفي حمام الأدب الصاخب والساخن يمكنها أن تهتم بأن تمرر إسفنجة الصابون على ظهر مستحم مجهول لا ترى وجهه. حسنا… يتبقى لها ببساطة صغير الأشياء. التي هي حتما أشياء عظيمة . أفكر في القصة القصيرة وأرى بوضوح عظمة الدقة والصغر في روعة شجيرات فن «البونصاي» العريق. يا له من فن لا تقدر عليه الرواية التي بيدها الضخمة و بطنها المنفوخ بالاحداث والحكايات وانشغالها بالاحتفاظ على النفس الطويل تبدو أكبر من أن ترعى ما ترعاه القصة. القصة التي تشبه جرعة الهيروين القليلة القاتلة… قليل الفودكا في قعر كأس صغير، ومع ذلك تقلب العالم داخل رأس القارئ. تمد القصة يدها كأم إلى قصعة الكسكس تختار قليلا من كل شيء خضر ولحم وزبيب وحمص تحركها بعناية و حرفية في راحة اليد تلقمها لطفلها- للقارئ و هي تعرف أن تلك الكرة هي الكسكس كله. تردد القصة القصيرة: اقرأني ، لن يفوتك شيء ! صدقني. القصة القصيرة تستدين رغبة الشاعر «وليم بليك» في أن يرى العالم في حبة رمل والجنة في وردة برية ، ومن « ت إس إليوت» تتوق القصة لأن تجلب للقارئ الرعب في حفنة من تراب.

نحو نظام عالمي جديد للقصة القصيرة

لا أكاد أصدق ذلك. هناك اليوم ماكينة أنيقة تبيعك القصص القصيرة في حلة جميلة على ورق يشبه ذلك الذي تطبع عليه فواتير السوبرماركت اقتنى المخرج العالمي «فرانسيس فورد كوبولا» واحدة ووضعها داخل المقهى الذي يمتلكه في «سان فرانسيسكو». هذه حتما طريقة جديدة وغير مسبوقة لاستهلاك الأدب. لا يمكن لأحد أن يتجاهل العهد الجديد الذي ينتظر الأدب والقصة القصيرة خصوصا. لا يمكن تجاهل هذا النظام الجديد حتى أثناء كتابة القصة القصيرة. أحيانا، أكتب قصة و أفكر أن أنشر جزءا منها على صفحة الفايسبوك. أقيس المساحة التي ستأخذها. ما الجزء الأكثر تمثيلا لروح القصة؟ وأردد هل هذا يكفي؟ أم كثير؟ أم أن حجمه لا يلائم القارئ على الفايسبوك الذي يبدو مستعجلا لكنه مع ذلك درب ذوقه على جميع أنواع الكتابة. أين ينبغي أن أضع نقط الحذف؟ يتعاظم لدي التفكير في الحذف بدل الاضافة. وأين يجب أن أتوقف؟ أحب هذا النظام بمعنى Nouveau ordre أن يفتح الفايسبوك و باقي التكنولوجيا وحيثياتها أمام القصة القصيرة بابا جديدا يخلصها من سموم الصالونات والورق والحبر. أتذكر كل الذين قرأت لهم قصصا قصيرة خارج التنميط. أفكر في الكاتب الأمريكي «أو هنري» الذي كتب قصصا بحجم فاتورة. ما الذي كان سينشره اليوم على صفحته؟ كيف كان القراء سيتلقون قصصه؟ يجب أيضا الانتباه إلى أن الفايسبوك وغيره من الوسائط الحديثة ليس فقط وسيلة لنشر القصص القصيرة أو مقتطفات منها، وليست هناك للترويج لها فحسب، بل هي واقع مواز. واقع منقول بدقة صوتا وصورة. كيف سيصير دور الواقع داخل القصة القصيرة ؟ هل ستظل هذه الأخيرة تغزو بلادا سبقها إليها الفاتحون الجدد؟ سيتغير بالتأكيد موقف جميع الأشكال الإبداعية تجاه الواقع و كيف يمكن نقل حيثياته. لا مفر من إعادة التفكير في القصة القصيرة كشكل أنيق حجمه ملائم جدا للقراءة السريعة، لكنه مع ذلك لا يجب أن نستسهل هذا القصر و الحجم الصغير الذي هو فخر القصة ، إنه حجم صغير خادع. القصة تشبه قوقعة صغيرة ملقاة نصف مدفونة تحت رمال شاطئ هادئ تشمها ثم تضعها على أذنك فيأتي المحيط بكامله إلى قلبك.



مصطفى الكليتي: لحظات الحياة = قصص قصيرة

لعل الركون إلى جلسات الحلقة، والاستماع إلى الحكايات الشعبية من كبار العائلة في ليالي الشتاء الطويل، ومن ثمة التفتح على الكتاب بالمكتبة الصفية أو مكتبة المدرسة ، مع قصص الأبراشي وسعيد العريان ثم قصص المغامرات المرسومة كلها دواع جعلتني أميل للقصة والحكي حيث المتعة وسرحات الخيال.
ومن ذكريات الحكي الجميل ما يرجع لنوستالجية الطفولة ونحن نتسارى في رأس الدرب نتبادل الحكايات أو نلفق الأكاذيب التي نتواطأ عليها، ونحن نقص ما ينطلق من الواقع ويتغذى بخيال طفولي جامح.
ومع بكائيات مصطفى لطفى المنفلوطي ورومانسية جبران ومحمد عبد الحليم عبد الله ، وغراميات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، باب الصدفة الجميلة قادتني إلى محمود تيمور ويحيى حقي والتفتح على موبسان وتشيكوف ، شدتني القصة القصيرة بسحرها وجماليتها ، فعبر بضع صفحات تطل على عالم متوتر مضغوط بالتكثيف والاختزال ، وشدة اقتصاد الكلمة لكل تقول العالم بالمختصر الجميل غير المخل . وبما أن القصة القصيرة وليدة الحداثة والمدينة، ولعل القنيطرة كمدينة نشأت في بدايات القرن العشرين وتطورت مع تواجد العنصر الدخيل ولاسيما الفرنسي والأمريكي، عرفت هذه المدينة تطورا هائلا، ونسيجا سكانيا متداخلا، مما جعل القصة القصيرة من أكثر الأجناس الإبداعية ممارسة بين كتابها: محمد الزفزاف، مبارك الدريبي، علي أمليل، عبد الرحيم مؤذن، إبراهيم زايد، إدريس الصغير، العربي بنجلون، محمد بعاير قنديل، مصطفى يعلى، محمد الهجابي، محمد الشايب، محمد فري، المهدي السقال، وهلم عدا.
فولادة قصة قصيرة عندي ولادة قيصرية، وهناك من النصوص من تسكنني لوقت طويل جدا ، ولا أتخلص منها إلا حين الكتابة، ففعل الكتابة وما يشوبه من قلق وتوتر وفرحة وخيبة، أعده من أحلى الأوقات التي أعيشها ، وبما أني كاتب مقل، أترك النص ينضج على نار هادئة أو كما يتخيل لي، فالنص قبل أن يستوي يعرف تسويدات متعددة ، وما يؤرقني هو العنوان إن قبضت على العنوان قبضت على خيط القصة، أما إذا بقي العنوان ملتبسا، فأجد نفسي في منآى عن النص وعلي البحث والغوص من جديد .
أشهد بأني تعلمت وأتعلم من النصوص القصصية القوية والجيدة ، أكثر مما يمكن أن أتعلم من المقاربات النقدية، التي تجعل النصوص مجرد تعلة للخوض في الفذلكات التنظيرية دون أن تنطلق من النصوص أساسا، فكل نص قصصي حسب فهمي ، وإن حشر في مجموعة، له صوته وعالمه الخاص ويحتاج لكثير من التأمل والإنصات.
يتداول في كثير من الأحيان هذا زمن الرواية أو زمن الشعر، وهكذا فالزمن زمن إبداع بكل تلويناته حتى نرضي المتلقي كيفما كانت تطلعاته، وتبقى القصة القصيرة فنا عسيرا لا يراوضه إلا فرسان خيولها الجامحة، الوثابة إلى الآفاق الجمالية الرحبة، وجميل أن يكون لها يوم وطني حتى نلتف حول هذا الجنس الأدبي الصعب المراس لنتداول أسئلته العميقة والمتشعبة، إنها قصة قصيرة مثل لحظات الحياة المنفلتة، لا نتذكرها سوى ببضع كلمات وبزخم فكر وفيض إحساس.

عبد اللطيف النيلة: كتابتها باتت هاجسا مزمنا

اهتمامي بالقصة القصيرة، قراءة وكتابة، لم يخمد ولم يفتر على امتداد ثلاثة عقود من المعاشرة. مثل مدمن أبحث عن جرعتي اليومية من أقراصها. هي الجنس الأدبي الأثير لدي، لا أتعب من التنقيب عن روائعه في رفوف المكتبات وكنوز العالم الافتراضي، وأحسبني اطلعت على قسط من منجزات أعلامه ومشاهيره شرقا وغربا.
قلما أعيد قراءة كتاب، لكن ما أكثر القصص القصيرة التي عاودت السفر فيها مرارا، مستمتعا باللذة التي تتخلق من جدل العمق والجمال. وكم من قصة قصيرة ألهمتني مشروع قصة قصيرة، أو شرّعت في وجهي آفاقا جديدة في البناء والتحبيك…، أو منحتني مرآة أبصر فيها حدود منجزي القصصي وقصور قدراتي.
استحوذت القصة القصيرة تماما على روحي، حتى أن كتابتها باتت هاجسا مزمنا لا يفتأ يساورني كل لحظة. لم يكن الرسام فان غوغ يرى في العالم أشياء بقدر ما يرى ألوانا، أما أنا فلا أدرك في كل ما أراه وأسمعه وأعيشه وأحلم به وأتخيله إلا مواد لتصنيع قصص قصيرة.
يستولي علي الاكتئاب حين تجافيني القصة وتستعصي على أصابعي، غير أني أشعر بقلبي يرقص فرحا وأنا أراود قصة عن نفسها وأحاول إخراجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
حين تنثال على خاطري فكرة قصة، لم أعد أتعجل كتابتها، بل أضحيت أرعاها وأسهر على تفاصيلها طيلة شهور، قبل أن أقدم على مناوشتها على الورق. وإذ أضع نقطة نهاية القصة أعكف على مراجعتها بصرامة تأخذ ما يكفيها من وقت للتنقيح والتدقيق، إلى حد إني أصيخ السمع لملاحظات أصدقائي لتقييم ما أنجزته. ولم أعد أقبل أن أكتب القصة القصيرة بعفوية البدايات، وإنما صرت أحرص على رفد الموهبة بوعي نظري عبر قراءة الدراسات التي تتخذ القصة موضوعا لها، جنبا إلى جنب مع قراءة القصة.
القصة القصيرة «طفلة الأدب» المولعة باللعب والشغب، و«المزنرة بالدهشة والرغبة في الاستكشاف»، و»الكبسولة الصغيرة المكتنزة للأسئلة الكبيرة» ،ومصنع الأكاذيب الكاشفة للحقائق والسابرة للأغوار، وجَدة الأزمنة الحديثة التي تسرد باللغة وفيها وعبرها «لحظة منتزعة من الزمان وإيقاعاته المتلاحقة، لتثبيت موقف، أو مشهد، أو سيرورة استبطان، عن طريق كاميرا تبطيئية تضفي على اللقطة ديمومة كثيفة». لهذا أتطلع إلى القصة القصيرة بتفاؤل، وأرى أنها تشق طريقها بإبداع وارف أصبح لقصاصي المغرب سهم عال فيه.

محمد اشويكة: في التطلع للقصة المبتغاة

تشبه علاقتي بالقصة القصيرة صلة الطفل بأمه، ينمو في بطنها، تحضنه صبيا بين يديها، ترعاه طفلا، تدعمه شابا، وتخاف عليه دوما، وحين تموت تنحفر صورتها في ذاكرته وتسري عبر دمائه.. فالذي كان سببا في انزياحي نحو الإبداع قصة: كنت أسمع الحكايات والأحاجي قبل ولوجي الكُتَّاب الذي لم يكن سواه في محيطي، فكانت محفزي الأول، ومؤنسي في وحدتي الطفولية (لم يكن لدي إخوة يقربونني سنا بسبب الموت!). صارت عالمي، فعشقت الحكايات والقصص الجامحة والعوالم الغرائبية التي تستدعيني للتحليق بمخيلتي في عوالم لم أعد أتبين فيها السابق باللاحق لأن من لم تحسم الطفولة في تحديد مصيره الإبداعي فسوف يظل متصنعا طيلة مساره.. وهكذا، ظللت أقرؤها باستمرار، وأكتبها باقتصاد يفيد أن تدبير النص القصصي يطول لمدة غير يسيرة من حيث التدبر والتأمل، وقد ينكتب في لحظات.
ساهمت خلال مرحلة من مراحل الحلم الإبداعي الأبيض بالانخراط الفعلي لتشييد الإمبراطورية الطوباوية للقصة القصيرة، فانخرطت عضويا في المأسسة الجمعوية والتنظيمية للقصة القصيرة، بعضها انتهيت منه ولم يعد سوى ذكرى وعلاقات صداقة إبداعية جميلة (نادي القصة القصيرة بالمغرب)، وبعضها يستيقظ في كياني من حين لآخر كالحلم الملون (الكوليزيوم القصصي).. وقد كان لذلك العمل بالغ الأثر في الدفع بالمسار النوعي للقصة القصيرة المغربية نحو الأمام؛ إذ تبلورت عنه ملتقيات وجمعيات وكتب ومجاميع وأحلام كبرى كالإعلان عن اليوم الوطني للقصة القصيرة الذي أتمنى أن يتحول إلى محفز إبداعي خالص.. فعلا، صارت أنوار القصة ساطعة، والمتن القصصي متمايز الأساليب والأشكال واللغات.. وبناء عليه، فأنا لا أتطلع إليها فحسب، بل ظللت أرنو للعَالَم من خلالها لأنها تسعفني في التعبير عن تأملاتي التي لم أتمكن، لحد الآن، من الإمساك عنها بشكل شمولي.

فاطمة الزهراء الرغيوي: أكتب كأنني أتعلم دائما

أصبحنا نتحدث كثيرا حول القصة. وللأسف في كثير من الأحيان يكون حديثنا ثرثرة مكررة لا غير، لا يؤسس لها تصور فكري ناضج وواضح.
أحيانا أتساءل أين سيودي بي هذا الطريق. طريق القصة. والقصة بالنسبة لي غير منفصلة عن الكتابة. أكتبها بقلق وشغف. أفشل أحيانا، أنجح ربما أحيانا أخرى. أكتبها كما أكتب أي شكل أدبي آخر. لكنها، لسبب لا أستطيع أن أحدده بوضوح، لا تزال تحظى بالحظوة لديّ. أشعر بدغدغة الفكرة والكتابة معها بشكل لذيذ ومختلف. ولكنني أفشل في وضع تصور واضح لمشروعي- إن جاز لي القول- القصصي.
فباستثناء عشقي للتفاصيل، وللغوص في مكامن الشخصيات، ولذلك الاختزال الذي يصل أحيانا إلى حد البخل… فأنا أكتب كأنني أتعلم دائما. وكل طريق، طريق الكتابة أيضا، هو مشوار تعلم لا ينتهي.
هناك نصوص أحب العودة إليها. هناك نصوص تسكنني. هناك نصوص تستفزني. هناك نصوص أحسد بكل ما أوتيت من قوة كتابها. وهناك نصوص لا تخلف أثرا. أحاول أن أتابع الجديد، ولكنني لست مجتهدة. أحب أن يصل الكتاب إليّ على مهل، أن أكتشفه على رف مكتبة أو كشك وأن أفاجأ. ربما لا أفاجأ كثيرا . لكن، لا بأس. فالقصة يجب أن تكون لها ندرة ورقة توت تجرب السباحة في النهر.
أمام ما نعيشه على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي، يبدو الاحتفال بيوم للقصة، تماما مثل فعل الكتابة نفسه، فعلا موغلا في الطوباوية. لهذا أصبح فعل الكتابة بالنسبة إليّ مقترنا بالمصادفة، أكتب على قارعة البؤس الذي يغطي هذا العالم. وكلما صادفت قصة جميلة، قرأتها بكل الرقة التي تليق «بعشب ينمو بين مفاصل صخرة».

عماد الورداني: جنون القصة اللذيذ

في اللذة ألم جميل، وحيثما تكمن اللذة تقيم القصة ببحورها، كل بحر يجذبك إلى مياهه التي تشبه الغرق، على هذا النحو تتحول قراءة القصة إلى سفر دائم في الغامض والغريب والسحري، تجعلك ترى ضعفك في اقتناص ما هو متاح أمام عينيك، أصابعك تتمنى لو أنها كشفت كنزا يشبه هذه الكنوز المرئية، هذه هي النصوص الكاشفة عن عقم الذات وأعطابها، فتتحول إلى تلميذ يجرب، وكما تمنحك قراءة القصة هذه المشاعر المتضاربة، فإنها سرعان ما تلطمك حينما تطأ قدماك نصوصا غير ناضجة، تتلمظ ملوحتها، وتأبى عن الابتلاع والهضم، ولو شربت كل بحار العالم وبحوره.
في الكتابة تتحول القصة إلى شجرة سامقة تحتاج أن ترويها بدمك، أن تشذب أغصانها، وتهديها لحمك وحواسك كي لا تتشابه مع ما هو موجود، وتأسف دائما لأن الذي تكتبه لا يرقى إلى النص الذي تحلم به، لكنك لا تسلم بضعفك، وتبحث عن أول نافذة لتجرب الجنون، جنون القصة اللذيذ.
أما التطلع إلى المستقبل فهو تطلع إلى مجهول، فالقصة المغربية تعيش عصرا ذهبيا-وإن كان في صمت-، هذا العصر هو مفتوح على كل الاحتمالات، وأتمنى أن يسود الأجمل والأبهى، وأن تتقلص فرص الرداءة.

سعيد منتسب: لزوميات القصة

يصر بعض كتابها على ضرورة إدخال الكتابة على نحو عنيف، وبلا هوادة، إلى «زمن القصة»، ردا عن هؤلاء الذين يحاولون عن عمد إدخال الجميع إلى «زمن الشعر» أو «زمن الرواية». غير أن القصة، في العمق، كتابة تحتاج إلى قارئ يتذوقها جيدا ويملأ تثغيراتها ويحسن المشي فيها مغمض العينين.
إن القصة، التي نحتفل بيومها الوطني (28 أبريل)، جنس أدبي تشتبك داخله مجموعة من المستويات السردية واللغوية والزمنية والفضائية في رقعة ملعب ضيقة يختلف حول مساحتها جل اللاعبين (هواة ومحترفين). فالقصة القصيرة في المغرب (وفي كل مكان) من أكثر الأنواع الأدبية استعصاء على التنظير والتأطير الشكليين، بل إن بعض النقاد يذهبون إلى أن كل قصة هي تجربة جديدة في التكنيك القصصي، ومنهم من يلقي بالثقل كله على «كتابها» الذين يفتقدون إلى أصول الكتابة الفنية لهذا الشكل الكتابي(!)، ومنهم من يرجع هذه الفوضى إلى رغبة كتاب القصة في «تفتيت الحدث واللغة، وتبعثر الحدث في البناء الكلي للقصة»..إلخ.
وفي المغرب، أصبح، الآن، الاهتمام بالقصة القصيرة كبيرا، ويشهد على ذلك اتساع مساحة النشر في الملاحق الثقافية والدوريات الأدبية والمجلات الثقافية، وتزايد عدد المجاميع القصصية التي تُنشر على نفقة أصحابها، أو تلك التي يشجعها «اتحاد كتاب المغرب»، أو «وزارة الثقافة»، أو»مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب». بل إن كثرة الملتقيات القصصية ساهمت بشكل كبير في منح القصة القصة إشعاعا متواصلا، رغم أن هذا الإشعاع خادع على نحو مكشوف. ذلك أن ميكروبا، كما قال أحمد بوزفور، يتسرّب إلى شرايين القصّة، ف «تصبح أكثرَ احتفالا بالشّعبوية والإيديولوجيا، أو بالصّراخ والإثارة، أو بالفكاهة وطرافة الإستكشات، ويصبح إلقاؤها أكثر ميلا إلى الاستعراض والمسرحية وطلب النجومية.. ويتراجع في الكاتب الصّمت والتواضع والعزلة.. ويتراجع في الكتاب الفكر والتأمّل والعمق»!
إن القصة القصيرة بالمغرب تمثل، الآن، مقولة الانتفاح النصي، أي قدرتها على السماح بتداخل شتى أنواع الأجناس الأدبية ففيها يتقاطع الشعري بالنثري والسردي بالدرامي والتشكيلي بالشفاهي الى غير ذلك من السياقيات الكتابية المتداولة.
وأصبح التجريب خيارا كتابيا، استطاعت من خلاله التجربة القصصية أن تُقيم علاقة مشاكسة ما بين نموذجها المتحقق في بعض النماذج، وما بين ممكنها المتخيل في أفقها المستقبلي، ولذا كان التجريب خيارها الوحيد في كسر النموذج النصي وتحقيق رغبة النص القصصي في البحث عن نموذجه المخالف، لتبدأ القصة عهدا جديدا عبر تقويض نموذجها باستمرار، حيث أصبحت تسبح ضد ذاتها، بل أصبحت مضمارا للتحول المعرفي الذي يخلق تغييرا عميقا في أساليب الكتابة وآليات التلقي.
ومن ثمة يتجلى التجريب كأبرز وسيلة للانتقال من سلطة النموذج إلى فاعلية التجاوز والتحديث.
إن التجريب بهذا المعنى، «زحف عسكري» على المواقع المؤسسية للخطاب القصصي. ومن ثم فهو ليس نتاجا لوعي مطابق لذاته بقدرما هو انتظام مختلف داخل بنية كلية (التجنيس) يواجه في إطارها مجموعة المواقع المتمايزة للأفق النصي، إنه ليس ترجمة لمناهج الكتابة أو لزوميات الجنس الأدبي وتشكيلاته الخطابية التصنيفية، بل هو بحث في الممكنات بشكل يسمح بإقامة ذاكرة للمستقبل بدل الارتباط بالصبغة النظامية التي تصنعها المفاهيم.

الكاتب : الاتحاد الاشتراكي

بتاريخ : 28/04/2017



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى