يوسف المحيميد - كأنما أخي يفتش عن رامبو

يوسف.jpg

باب الجارة كان مواربا، آن لمحت أخي يخرج منه متسللا فجرا، وقبل أن يسلّ مفاتيحه من جيبه انتبه إلى أن بابنا كان مفتوحا، وأنني بالكاد وضعت كيس القمامة الأسود في الجهة الأخرى من الشارع، واستدرت فاصطدمت أعيننا قبل أن ينكسر ويدلف عجلاً مرتبكاً.
غرس ذات ليل في يدي رسالة صغيرة لها، لم أفهمها في ربيعي السادس، ووعدني أن يبتاع لي زجاجة (فيمتو) كاملة، ليصنع لي منها(آيس كريم) داخل أكياس نايلون شفّاف. بعد أن وصلتُ غرفتها اقتنصتْ في عينيّ شيئا مبهما لامعا، فجذبتني، وناولتُها الورقة، فقبّلتني على فمي ووهبتني إصبع (شيكولاته).
منذ سنوات لم يعد أخي يقظا وحيويا، يصطاد الأفكار الطائشة في البيوت ذات الأسوار العالية، كما كان يقول لي، حين أسأله بسنواتي العشر: ماذا تكتب؟.
كان يلصق على جدران غرفته صوراً لكتَّاب وفنانين وشعراء، وصورته بعد الثانوية بينهم، بشعر شاربه الخفيف المحفوف بعناية، فأسأله: من هؤلاء؟ يتوقف عن الكتابة، وينظر نحوي ساهياً قبل أن يقول: هؤلاء الذين سيغيرون العالم! ما أن يلمح حيرتي وعينيَّ الضَّالتين المتسائلتين حتى يضيف: سيجعلونك قادراً على أن تشتري دراجة جديدة!
أخي لم يعد أخي، صار شيئا مثل الأشياء في البيت. يجلس على كرسي مخمل أخضر في الغرفة، فلا أعرف أيهما أخي؟ يحدّق بعينين جامدتين عبر زجاج نافذة غرفته في الدور العلوي في رؤوس الأشجار في الشارع، وهي تتمايل مثل جنيّات يتقنَّ الرقص. يحدّق النهار كله، لا يرمش ولا يملّ ولا يتحرك.
ذات صباح استيقظتُ فلم أجد أبي، ولا أخي أيضا، وكانت أمي وحدها تبكي بصمت وكبرياء، وإذ أقف أمامها، لأرى وجهها، كانت تشيح به. عرفت حين كبرت، أنهم أخذوا أخي ليلاً ببيجامته السكَّرية المقلَّمة بالبنِّي، ولحق بهم أبي، ثم عاد بعد أن انقصف النهار وحيداً وحزيناً وغريبا.
ليلة أن عاد أخي، فرحتْ أمي كثيرا، ومسحت على رأسه، وضمَّته نحو صدرها، وقبّلت شرخا على خدّه الأيسر، ونمنا سويا في غرفتها، أنا وهو وهي وأبي، كان طوال الليل يهذي، ويصارع بيديه هواء الغرفة، حتى انه في الليلة التالية، الليلة المشؤومة، فزع صارخا وثبّت يداه على عنق أبي ليخنقه، وما أن خلصنا أبي من قبضته حتى ركض نحو الحمّام يعوي وينشج ويرتعش، تبعته أمي، فرأته يشير مرتعشا إلى حنفية الماء وهي تقطّر، قطرة قطرة، فوق سطح الماء في الإناء البلاستيكي. أحكمت أمي إغلاق صنبور الحنفية، حتى كفّ عن إرسال القطرات البليدة.
وضعته أمي ذات عصر فوق جريدة مفروشة على عتبة باب البيت، ليتسلى برؤية الشارع، ووقفتُ بجواره لأحرسه. فجأة هبّت نسمة هواء خفيفة، فدفعت صفحات جرائد مهملة في الشارع، فقفز مثل ذئب دون أن انتبه، وراح يهرول ويصرخ، يلمُّ الجرائد الزاحفة في الشارع الترابي، ويبكي. ساعدته وجمعناها معا، وعدت به وأنا أمسك بذراعه، وقد لمحت جارتنا الصغيرة بشعرها المقصوص تبكي في النافذة.
أخي لم يعد أخي، وعيناه لم تعودا تصطادان الأفكار الطائشة في البيوت ذات الأسوار العالية، وقلبه لم يعد يرفرف قلقاً كجناحي طير، صار بليداً وخاملاً، ويحدّق في الفراغ.
أخي لم يعد أخي، وأذناه لم تعودا وردتين تتفتَّحان مع الموسيقى، يهتاج كلما سمع قطرة ماء، أو خشخشة ورقة جريدة ترتفع وتهوي في الشارع الترابي، أو انفراط تغريد طير الكناري الأصفر في قفصه المعلق في المطبخ.
أخي لم يعد أخي، منذ أن أعادوه إلينا، لم يعد يكترث بأوراقه وغرفته وطاولة الكتابة، حتى صور الكتّاب والفنانين الملصقة على جدران غرفته تحررت وهبطت من جدرانها ومضت. ذات ليل، شاهدت فوكنر يصطحب ماركيز، وهما يُخرجان القرى والمدن من غرفة أخي، وبعد ساعات قليلة كان آرثر رامبو أيضا بشعره المصفوف بعناية يخرج من الباب لاعنا كل شيء.
عند الفجر، أيضا رأيت أخي، كما هو في صورته أيام الثانوية، خارجاً من غرفته صامتاً، حاملاً أوراقاً صفراء قديمة، كأنما خرج يفتش عن رامبو.

مارس 2002م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى