أنطون تشيخوف - مُتَسَوِّل.. قصة قصيرة - ترجمها عن الإسبانية : د. عبدالجبار العلمي

سيدي الكريم , كن رؤوفاً برجل جائع. فأنا لم أتذوّق الطعام منذ ثلاثة أيام. وليس لدي حتى خمس كوبيك (عملة صغيرة في روسيا) لكي أتمكن من الحصول على مكان أبيت فيه. أقسم بالله على ذلك ! كنت لخمس سنوات مدرساً في القرية , إلا أنني خسرت عملي بسبب دسائس عصابة "الزيمستفو" . كنت ضحية شهادة زور. وأنا الآن بدون عمل منذ أكثر من عام!."

نظر سكورفتسوف , المحامي في بطرسبرغ , إلى معطف المتحدث البالي الأزرق اللون, وإلى عينيه العَكرتين وإلى البقع الحمراء التي تنتشر على خديه وتراءى له بأنه سبق أن شاهد ذلك الرجل .

استمر المتسوّل بالقول " عرضوا علي الآن عملاً في مقاطعة غالوغا , لكن ليس لدي من مال يكفي حتى لتغطية أجور السفر إلى هناك ... لطفاً سيدي, ساعدني أرجوك!.. أنا أشعر بالحرج من أن أطلب منك المساعدة لكن... لكن ... ظروفي القاسية تُجبرني على أن أفعل ذلك. "

نظر سكورفتسوف إلى قالوشه ( خِفّيه ) وقال: إن أحدهما مُسطّحاً يُشبه الحذاء , بينما كان الآخر أشبه بجزمة بحيث يصل إلى أعلى ساقه. وبعد تفحّصه له كان قد تذكّره فجأة وقال له : :

" اسمع, تذكرتك الآن! كنت رأيتك قبل يوم أمس في شارع سادوفوف , ولم تكن قد أعلمتني حينذاك بأنك كنت مدرساً في مدرسة القرية, وإنما ما أعلمتني به هو أنك كنت طالباً وقد تم طردك من المدرسة. أتذكر ذلك؟..."

تمتم المتسوّل بارتباك " لا... لا ... ليس الأمر كما قلت , كنت بالفعل مدرساً في مدرسة القرية وبإمكاني أن أطلعك على الوثائق التي تُثبت ذلك."

قال سكورفتسوف " كفاك كذباً , بل أعلمتني أنك كنت طالباً في مدرسة القرية وبأنك طُردت منها , كما كنت قد رويت لي الأسباب التي أدّت إلى طردك ألا تذكر ذلك؟.."

ثم اصطبغ وجهه بالحمرة وألقى على وجه المتسوّل نظرة ازدراء، وصاح به بغضب :

" هذه وضاعة منك... هذه خدعة ... سوف أسلّمك إلى الشرطة. ليلعنك الله ! حتى لو كنت فقيراً وجائعاً, فليس في هذا ما يعطيك الحق بأن تكذب بهذه الطريقة المُخزية."

وكان ذلك الرجل الأشعث الرثّ الثياب قد أمسك بقبضة الباب., ونظر حوله بيأس أشبه بطير وقع في شِرك, وتمتم:

" أنا. . . أنا... أنا لا أكذب , وبإمكاني أن أُطلعك على الوثائق التي تُثبت ذلك."

تابع سكورفتسوف كلامه وهو لايزال في غاية الحنق :

" من الذي سيصدقك؟ أنت تستغل تعاطف الناس مع مدرسي القرية وطلابها -- هذه دناءة , هذا تصرف في غاية الوضاعة, في غاية القذارة, وهو مُقزّز للنفس!...

ثم تصاعد غضبه أكثر , وأخذ يُعنف المتسوّل دون رحمة. فقد أثارت وقاحة ذلك الرجل الرثّ اشمئزازه وحقده ., وكانت بمثابة الإهانة لما كان يُحبه ويُقيّمه في نفسه من مشاعر: الرأفة وطيبة القلب والتعاطف مع التعساء. وكأن ذلك المتسوّل كان بكذبه وباغتصابه المخادع للشفقة , قد دنّس رغبته في الإحسان للفقراء دون أن تشوب قلبه أية ريبة في صدقهم .

حاول المتسوّل في البداية, أن يدافع عن نفسه وحاول أن يُدعّم احتجاجه بالقَسم ثم غرق في الصمت ونكّس رأسه بخجل وقال:

" سيدي, كنت قد كذبت بالفعل! أنا لست طالباً كما أنني لست مدرساً في القرية. كان كل ما قلته تلفيقاً ! الحقيقة أنني كنت أعمل سابقاً مع جَوقة المنشدين ولكن تم طردي منها بسبب إدماني على تعاطي الشراب., ولكن ما الذي بإمكاني أن أفعله ؟ أرجوك أن تُصدّقني بحق الله فليس بإمكاني العيش ما لم أكذب-- ولو أنني قلت الحقيقة فلن يمنحني أحدهم أي شيء. قد يموت المرء من الجوع والبرد لو أنه قال الحقيقة وقد لا يتمكن من الحصول على مأوى حتى للمبيت لليلة واحدة!... ما قلته لي كان صحيحاً, وأنا أتفهّم ذلك, لكن... ما الذي بإمكاني أن أفعله؟ نعم , كان عليّ أن أعمل... وهذا ما أعرفه تماماً , لكن أين سأجد العمل؟"

" هراء , أنت شاب , قوّي البنية وتمتع بصحة جيدة, بإمكانك أن تجد دوماً ما تقوم به من أعمال , ولكن هذا لو كنت قد أردت ذلك بالفعل ... ولكن أتعلم , أنت كسول , متواني ,مُدمن على الشراب! تفوح منك رائحة الشراب أشبه بحانة ! أصبحت فاسداً مُخادعاً إلى نقيّ عظامك, ولم تعد تنفع لشيء سوى للتسوّل والكذب! فلو كنت قد سعيت بالفعل للحصول على عمل , لكنت حصلت على عمل في أحد المكاتب, أو مع جوقة المنشدين, أو على عمل مراقب في لعبة البيلياردو, بحيث يكون إمكانك الحصول على أجر حتى دون أن تبذل أي جهد.. لكن ماذا لو تم تكليفك بالقيام بعمل غير كتابي؟ لكنني أراهن على أنك لن تقبل ما قد يُعرض عليك من أعمال. كان بإمكانك أن تعمل بواباً في أحد المباني أو حمالاً في أحد المصانع! إلا أنك تعتبر نفسك أرفع من كل ذلك !...

قال المتسوّل " ما الذي تقوله... ثم ضحك بمرارة وأضاف

" كيف سيكون بإمكاني أن أحصل على عمل غير كتابي ؟ وعلى الأصحّ , فات الأوان الآن لأن أصبح بائعاً في متجر, فعلى المرء أن يبدأ عمله في المجال التجاري في سن صغيرة لكي يكون بإمكانه أن يُصبح بائعاً., كما لن يكلفني أحد بعمل بواب لأنني لست من تلك الطبقة الاجتماعية... كما ليس بإمكاني أن أعمل في مصنع لأنني لا أفقه شيئاً من أمور التجارة ."

"هراء !... أنت تجد دوماً المبرّرات!... ألن ترغب بالعمل في قطع الحطب؟"

" لم أكن سأرفض ذلك, ولكن حتى من يعملون في هذا المجال هم حالياً بدون عمل."

" جميع العاطلين عن العمل يُدلون بمثل هذه الحجج! فعندما يُعرض عليكم أي عمل من الأعمال ترفضونه على الفور. ألن تقبل بالعمل لدي في قطع الحطب؟"

" سوف أفعل ذلك بالتأكيد..."

" جيّد جداً, سوف نرى... ممتاز, سوف نرى!"

وكان سكورفتسوف قد سارع باستدعاء الطاهية من المطبخ, ولكن ليس دون أن يُخالجه شعور خبيث بالسرور, وقال لها:

" أولغا, رافقي هذا الرجل إلى مخزن الحطب واجعليه يقطع ما فيه من حطب."

هزّ المتسّول كتفيه دون مبالاة , ولكن, وعلى الرغم مما كان فيه من دهشة, كان قد تَبِع الطاهية بتردّد ., وكان من الجلّي من طريقة تصرفه بأنه وافق على الذهاب معها لقطع الحطب ليس لأنه كان جائعاً بالفعل, ولا لأنه كان يرغب في الحصول على المال, وإنما كان ذلك ببساطة لأنه خجل من نفسه وكان عليه بذلك أن يحفظ ماء وجهه وكبريائه, ولأنه بالأحرى كان قد تورط أيضاً بما أبداه من استعداده للعمل., كما كان من الواضح أنه لايزال تحت تأثير الشراب, وبأنه كان متعباً وبذلك لم يكن يشعر بأية رغبة في العمل.

أسرع سكورفتسوف إلى غرفة الطعام التي تطلّ على الفناء الخارجي حيث بإمكانه أن يشاهد من نافذتها مخزن الحطب وكل ما يجري في الفناء . شاهد من هناك الطاهية والمتسوّل يتوجهان إلى مخزن الحطب, تحت الثلوج التي تتساقط بغزارة.. تفحّصت أولغا المتسوّل بحنق ثم فتحت باب مخزن الحطب على مصراعيه.

حدّث سكورفتسوف نفسه " يبدو أنني تسببت بإزعاج تلك المرأة أثناء فترة استراحتها لتناول القهوة. امرأة نزِقة بالفعلّ" ...

ثم شاهد المدرس المُزيّف أو الطالب المُزيّف يتخذ مكانه على قطعة كبيرة من الحطب ويضع مرفقيه على قطعة أخرى ويستغرق في التفكير. ثم كانت الطاهية قد رمت الفأس تحت قدميه, وبعد أن بصقت على الأرض وبرمت شفتيها بدأت بتعنيفه...

سحب المتسوّل بتردد قطعة كبيرة من الحطب وقام بضربها بالفأس, لكنها انقلبت وسقطت على الأرض., سحب المتسوّل قطعة الخشب نحوه من جديد, وبعد أن نفخ في يديه الباردتين, تناول الفأس مرّة أخرى وأدناها من قطعة الحطب بحذر شديد كما لو أنه كان يخشى أن يضرب يده أو أن يقطع أوصاله, لكن قطعة الحطب سقطت على الأرض من جديد...

حدّث سكورفتسوف نفسه وهو يُغادر غرفة الطعام " لابأس , لا أهمية لذلك , لندعه يستمر... فأنا أفعل ذلك لصالحه..."

وكانت أولغا قد ظهرت أمامه بعد ساعة من الزمن لكي تُعلمه بأن المتسوّل قد انتهى من قطع كل ما لديهم من الحطب.

قال سكورفتسوف" أعطه نصف الروبل هذا, وأعلميه أن بإمكانه أن يأتي إليّ في مطلع كل شهر لكي يقطع الحطب , هذا لو رغب في ذلك ...وبأنه سوف يجد لدينا دوماً ما يقوم به من أعمال."

وبذلك عاد المتسوّل في مطلع الشهر التالي وحصل على نصف الروبل , على الرغم من أنه لم يكن يقوى حتى على الوقوف على قدميه. ومنذ ذلك الحين كان المتسوّل قد اعتاد على تكرار التردد إلي منزل سكورفتسوف., وكان يجد دوماً ما يقوم به من أعمال ., كان في بعض الأحيان يُجرّف الثلوج المتراكمة, أو أنه قد يُنظف مخزن الحطب, كما كان في أحيان أخرى يقوم بتنظيف السجاجيد والفرش. وكان يحصل دوماً على ثلاثين أو أربعين كوبيك (عملة روسية) لقاء ما يقوم به من أعمال , كما كان ذات مرّة قد مُنح بنطالاً..

وكان سكورفتسوف عندما انتقل إلى منزله الجديد قد طلب من المتسوّل أن يساعد أيضاً في حزم الأمتعة وفي نقل الأثاث. لكن المتسوّل لم يكن حينذاك ثملاً وإنما كان حزيناً وصامتاً, كما لم يكن تقريباً قد لمس الأثاث, وإنما كان يُتابع سير الشاحنات التي تنقل الأثاث برأس مُطأطأ, كما لم يكن قد حاول حتى أن يبدو مُنشغلاً مع الآخرين. كان يرتجف من البرد, وقد شعر بالارتباك عندما سخر الرجال الذين كانوا ينقلون الأثاث من ضعفه وكسله وعدم كفاءته ومن معطفه الرثّ الذي كان سابقاً على ما يبدو لرجل محترم. كان سكورفتسوف بعد أن انتهت كافة الأعمال قد أرسل في طلبه. قال له وهو يمنحه روبلاً:

" حسناً, هذا لقاء ما قمت به من عمل . أنا أرى الآن بأن ما قلته لك كان له تأثيره الإيجابي عليك. فأنت لست ثملاً كما لم تكن قد أعرضت عن القيام بكل ما كُلفت به... ما اسمك؟"

" لوشكوف"

" أصبح بإمكاني الآن أن أعرض عليك ما هو أفضل من هذا العمل , وسوف يكون أقل مشقّة. لوشكوف! هل بإمكانك أن تكتب ؟"

" نعم سيدي."

" فإذن, لتأخذ هذه الرسالة ولتذهب إلى أحد زملائي, سوف يُكلّفك ببعض الأعمال الكتابية., وعليك أن تعمل بمثابرة, بألا تشرب الكحول. لا تنسى ما قلته لك . وداعاً."

وكان سكورفتسوف قد ربت على كتف لوشكوف بلطف وحتى أنه كان قد صافحه أيضاً عندما افترقا, وقد غمره شعور كبير بالغبطة لأنه ساعد رجلاً على السير في طريق الهداية.

تناول لوشكوف الرسالة وغادر ولم يعد ثانية لكي يعمل في مخزن الحطب.

مرّ عامان. وذات يوم , بينما كان سكورفتسوف واقفاً أمام كوّة حجز البطاقات في المسرح , شاهد بالقرب منه رجلاً قصير القامة مرتدياً معطفاً بالياً من فراء القطط, وكان ذلك الرجل قد طلب أيضاً بطاقة لحضور العرض وسدّد ثمنها بقطع نقدية صغيرة.

وعندما تبيّن لسكورفستوف بأن ذلك الرجل هو المتسوّل الذي كان يقطع له الحطب قال له :

" أهذا أنت لوشكوف, ما الذي تفعله الآن , وهل تسير أمورك بشكل جيد؟ "

أجابه المتسوّل بحياء :

"شكراً لك, أموري جميعها ممتازة, وأنا أعمل الآن في مكتب الكاتب بالعدل وأتقاضى راتباً شهرياً قدره خمسة وثلاثين روبلاً."

:" قال " سكورفتسوف

" حسناً , الحمد لله, هذا مبلغ جيّد. أنا سعيد جداً لأجلك. أنا في غاية السرور لوشكوف. أتعلم, أنت, بشكل ما, بمثابة الابن الذي كنت تبنّيته, ألم أكن من أرشدك إلى الطريق السوّي؟ أتذكر كم كنت عَنفتك؟ كنت طوال الوقت, تكاد تسقط على الأرض لكثرة ما تتناوله من شراب... حسناً, وأنا أشكرك أيضاً لأنك تذكرت ما قلته لك ولأنك عَمِلت بنصحائي."

قال لوشكوف" وأنا أيضاً أشكرك سيدي, فلو لم أكن جئت إليك في ذلك اليوم لكنت سأستمر في الادّعاء بأنني كنت مدرساً أو طالباً في مدرسة القرية. نعم, لقد تم إنقاذي في بيتك من السقوط في الحضيض."

" أنا في غاية السرور لأجلك."

" شكراً لكلماتك الطيبة ولأفعالك الطيبة سيدي. كان ما قلته لي ذلك اليوم في غاية الحكمة., وأنا في غاية الامتنان لك ولطاهيتك أيضاً. ليُبارك الله تلك المرأة الطيبة القلب ... أنا مَدين لك طوال حياتي , لكن الحقيقة , أن طاهيتك أولغا كانت هي من أنقذني."

" كيف كان ذلك؟"

" حسناً , كان الأمر كالتالي : كانت كلما جئت لقطع الحطب تستقبلني بالقول :

" أنت أيها السكير ! أنت إنسان نبذك الله (عزّ وجلّ) ! ومع ذلك لم يأخذك الموت بعد, وعليك الآن أن تجلس أمامي هنا لكي تشتكي وتندب وتنتحب وأنت تنظر إلى وجهي... أنت أيها المخلوق التعيس! لن تحصل على أية سعادة في هذا العالم, كما أنك في العالم الآخر سوف تُحرق في نيران الجحيم !... أنت أيها المخلوق الذي يستحق الرثاء! ... كانت تتحدث معي دوماً بهذا الأسلوب. ليس بإمكاني أن أروي لك الآن كم كانت تشعر بالضيق لأجلي , وكيف كانت في كثير من الأحيان تزرف الدموع لأجلي... لكن ما كان له أكبر الأثر في أعماقي وحتى أكثر من كل ما كنت تقوله لي, أنها...أنها... كانت تقطع الحطب بدلاً عني! ... أتعلم لم أكن قطّ قد قطعت لك أية أخشاب أو حطب... لم أفعل ذلك ولا حتى مرّة واحدة... وإنما كانت طاهيتك تقوم بذلك بنفسها لكي أحصل على الأجر...

كم كان ما فعلته قد أنقذني من الضياع ! وكم كنت قد تغيّرت وأنا أنظر إليها وهي تقطع الحطب!...

وبذلك كنت قد امتنعت عن الشراب . ليس بإمكاني تفسير ما حدث لي ., ما أعرفه فقط هو أنها كانت بما قالته لي وبالطريقة التي كانت قد تعاملت بها معي, قد أحدث تغييراً كبيراً في روحي وفي نفسي ولن أنسى ذلك أبداً.

ثم قال " ها قد تم الإعلان عن بدء العرض . علينا الآن أن نجلس في أماكننا. ثم انحنى لسكورفستوف بالتحية ودخل إلى صالة العرض...



* ترجمها عن الإسبانية : د. عبدالجبار العلمي
كتاب
:LA RUSIA OLVIDADA , NOVELAS Y CUENTOS , EDICION EDITORIAL ,MAGISTERIO ESPANOL , MADRID , P.137 ,ANTON CHEJOV

ترجم الكتاب عن اللغة الروسية : Y A. AGUILAR E .PODURSKY

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى