يوسف المحيميد - وشوشة جدران ناعمة

المحيميد.jpg

كثيراً مايمشي أبي في ظل الجدار ، لا يحب أن يلفت نظر أحد ، ويكره أن يحكي جليسه في السياسة ، يقول لي دائماً ، انتبه لنفسك ، لاتثق بأحد حتى لو بدا لك صديقا ، ربما ورث هذا الخوف عن جدّي الذي اشتهر بكلمته المعهودة : ( يابني ، لاتكن رأسا ، إن الرأس كثير الآفات )، حتى أن أبي يضيف من عنده ، أن أول مايُجز من السنابل رؤوسها ، وأول ماينحر من الدواب الظاهرة للعيان ، فلا تظهر حتى لاتؤخذ على حين غرة .
أما أمي فقد حفظت عنه ، أن للجدران آذان ، فلا تملك إلا أن تصمت في حضرة الصمت ، إذ الجدران وإن بدت صامتة فإنما هي تتنصّت وتصغي . لكن لا أحد عرف قبلي أن الجدران تهمس ، توشوش في وله ، وتغمغم في لوعة مفرطة ! ! لا أحد وضع يده ليلاً على الجدار ، فهاله دقّات قلبه التي تشبه قلب طير مطارَد أو ذبيح ! ! لاأحد تحسس الجدران في ليلة صيف سواي ! !
أول مرة حكت فيها جدران غرفتي كانت قبل منتصف الليل بقليل ، غرفتي التي في ركن البيت ، يحفّها من الجانبين منزلان لا تربطني أي صلة بساكنيهما . ففي اللحظة التي أقلب فيها صفحة من " مدار الجدي " لهنري ميللر، جاءت دقتان خفيفتان على الجدار ، فبدا كأنه يتأوه ، كأنما كل دقّة جدار حرف ، الأولى ألف ، والثانية هاء ! ! أحسست أنه ينطق : آآآآآآآآآه ، لكنني لم أكترث ليلتها ، فنمت .
بعد ذاك جاءت حروف الأبجدية كلها ، الألف والحاء والباء والكاف ، رغم أنني عرفت الحروف باكراً ، في الصفّ الابتدائي الأول ، لكنني هذه المرة صرت ألمسها ، ألمس الألف ، فأشعر بنعومة تشبه نعومة جلد أفعى ، كذلك الهاء التي لانحنائها ملمس هرة يمتد ذيلها قربها ، حتى أنني صرت أشعر أنني سأنام في حضن الحاء ، وستتلقفني بذراعيها الطويلتين . كل ذلك بسبب الجدران التي لم تعد تتنصّت كلصٍ عليّ ، بل بدأت تتمتم في ليالي الصيف مثل ساحرة .
تعلّمت أن أمسح بكفّي على الجدار ، كأنما فارس يهادن أو يداعب فرسه ، حين تأتي في ليالي الصيف دقّتان متباعدتان ، كنت أجيب بثلاث دقّات ، ثنتان منهما متتابعتان ، والثالثة بعيدة شيئاً ما ! ! في الممر أصبحت عيناي تتلقّفان الأشياء الملقاة هملاً ، هاهنا ورقة مدعوكة ، غلاف مقوى لدفتر أحمر ، هناك وردة جافة ، مغزل تطريز ، قطعة قماش مشجّر . . كل شيء يدعوني لأن ألتقطة ، وأتفحّصه طويلاً ، وأطلقه في مراعي المخيلة ، أجملها كان ورقة من دفتر تفصيل بمربعات صغيرة انتثرت عليها حروف متضاربة ظللت ليلة كاملة أفكّك رموزها ! !
وسط الجدار العالي كانت تغفو نافذة ، تخفي خلفها ستارة ، ربما مقلّمة أو مضفورة من صوف أو قطن . النافذة التي وسط الجدار كانت تستيقظ أحيانا ، تفتح عيناً أو نصف عين ! ! وفي حدقة عين النافذة أرى البنت ، بشعر معقوص من الخلف مثل ذيل فرس ، أحيانا تتجول داخل الغرفة دون اكتراث ، وفي أحايين أخرى تظهر يدها المحفوفة بالأحمر وهي تحضن قماشاً تمسح به الزجاج من الخارج ، لكنها مؤخراً بدأت تحدّق في عصافير شجرة البنسيانة الضخمة ، ثم تلقي صوب الأسفل عينيها الذاهبتين في الخضرة ، فتراني أتحجج بسقي جورية المدخل ، وتبتسم ! !
بعدها ، لم تعد يداها تكتفيان بمسح زجاج نافذتها من الخارج ، بل وصلت إلى جدران غرفتي من ناحيتها ، تعلّمت أن تلقّن الجدار الإسمنتي شوقها ووحشتها ، كانت دقّات الجدار رسائل لايفهمها أحدٌ سوانا ، عرفتُ أن الجدران دافئة وحميمة ، وأنها تنطق وتحكي ، تهمهم وتبوح وتبكي ، تعتب وتحنّ ، تشفق وتئن وتهجر وتغدر وتغامر ، بالضبط الجدران تغامر وتخطىء أحياناً ، لتضعنا في مهب الخطر ! ! ألم تكن يدها المحفوفة بالأحمر وهي تلقّن الجدار أربعة حروف أعرفها جيداً ، قد أخطأت التقدير ذاك المساء البعيد ، حيث أمي بالصدفة تضع أمامي كأس شاي أطرد به النعاس استعدادا لامتحان الغد ، فأنصتت معي لخبطات الجدار : ماهذا الصوت ؟. تلعثمتُ : أحد يدق على الجدار ! ! تساءلتْ : لماذا ؟. قلت : يمكن أحد يعلّق لوحة ! ! غادرتْ سريعاً دون أن تقول شيئاً ، دون أن تسأل : ومن في نصف هذا الليل سيعلّق لوحة ! ! وفي ظهيرة الغد ، بعد أن عدت دائخاً من الامتحان ، كان سريري ومكتبتي الصغيرة وطاولتي في غرفة أخرى من الجهة المعاكسة للمنزل ، بينما غرفتي القديمة قد تحولت إلى مستودع للأثاث القديم الزائد ، دون أن تكفّ جدرانها عن الوشوشة ليلاً .



الرياض -نوفمبر 2000م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى