د. زهور بن السيد - حكاية طفل مع القرآن الكريم.. قصة قصيرة

لم يلعب في صغره مثل الأطفال... في سنة 1958م كان عُمُر عمي مصطفى لا يتجاوز الثمانية أعوام حين ألزمه جدي الذي فقد بصره في كبره, بالبقاء إلى جانبه خارج أوقات الدراسة كي يساعده على حفظ كتاب الله, فوضع لهذه الغاية برنامجا صارما لم يترك للطفل فيه فسحة يفتح فيها ذراعيه للريح ويجري في فضاءات البادية الواسعة أوينام على ربوة وينعم بأحلام الصبا السعيدة من دون أن يفزعه أحد, أويسبح في النهر أو يتعقب أعشاش الطيور بين أغصان الأشجار الباسقة و... كما يفعل أقرانه.
اشترى جدي ساعة حائطية ميزتها أنها تدق على رأس كل ساعة بالعد وبإشارة صوتية على رأس كل ربع ساعة خصيصا ليضبط بها الوقت الذي يقطع فيه ابنه المسافة بين المدرسة والبيت, وهي حوالي كيلومترين, على ألا يتجاوز ربع ساعة. ففور خروجه من الفصل يتأبط مصطفى محفظته ويضغط عليها جيدا بساعده الصغير حتى لا تضيع بعض أدواته المدرسية, وينطلق مهرولا ووحيدا لا يلتفت إلى أية جهة ولا ينتظر زملاءه, يتركهم وراءه أمام باب المدرسة متحلقين, تعلو أصواتهم وضحكاتهم وهم يسترجعون بعض ما حدث ذلك اليوم في الفصل الدراسي, ويتمازحون مع زميلهم الذي لم يحفظ درس الدين عن ظهر قلب وتلعثم في عد نواقض الوضوء, ولم يمهله المعلم برهة التفكير حتى أمره بالرجوع إلى مكانه مع عقوبةٍ بكتابة الدرس عشرين مرة. وبعد ذلك ينطلقون وهم يلعبون الكرة التي صنعوها من أثواب بالية, حتى يصلون إلى "إفري" وهو كهف عميق في مرتفع صخري على جانب الطريق, يقال إنه كانت تسكنه العفاريت, يتوقفون ويصيحون وينادون ويستمتعون بالصدى, ويلقون الأحجار فتخرج منه أفواج الحمام محدثة صوتا رهيبا بفعل من طيرانها الجماعي.
أما مصطفى الذي ترافقه تكات الساعة المتسارعة في أذنيه ويضبط حركة قدميه على إيقاعها, يكون على بعد أمتار من البيت, يفرح لأنه لم يتأخر عن الوقت المحدد له, وفي الحال تتغير أسارير وجهه وينتابه إحساس بالغبن مشوب بالخوف عندما يلمح والده بانتظاره على عتبة الباب أو في زاوية حائط المرآب, يرفع إيقاع خطواته أكثر ورأسه إلى الأمام كعداء في الثواني الأخير من خط الوصول لحسم نتيجة السباق لصالحه أمام منافسين أشداء. يقبل يد والده ويدخل البيت ليجد جدتي التي ترأف لحاله, قد حضرت له ما يسد به رمقه.
تبدأ المهمة الجسيمة, يطلب منه جدي أن يفتح المصحف, تنقبض نفسه الصغيرة حيث يجد خطا غير مألوف وورقا خشنا بلون أصفر لم يعهدهما في كتابه المدرسي, وعليه أن يقرأ بدون أخطاء, فلا يجوز الخطأ في كتاب الله عز وجل, ولم يكن يدرس بأكثر من السنة الثالثة ابتدائي.
ولأن آيات القرآن غير مرقمة كما في المصاحيف اليوم, يُقسِّم جدي صفحة القرآن التي تضم أربعة عشر سطرا إلى جزأين, سبعة أسطر لكل جزء وهو حصة اليوم. يقرأ عمي السطر الأول بمشقة كبيرة, ويردده جدي وراءه إلى أن يحفظه ثم ينتقلان إلى السطر الموالي وهكذا إلى أن تنتهي حصة اليوم.
يكون مصطفى منهمكا مع والده في القراءة والترديد بتركيز شديد إلى أن يسمع ضجيج زملائه, الذين نسي أنهم مازالوا يلعبون ويستمتعون في طريق العودة إلى بيوتهم, فيرفع رأسه باتجاه النافذة, ولا يستطيع أن يفارق جنب والده فيكتفي بتتبع مرورهم في الطريق أمام البيت بسماع صخبهم الجميل.. يشرد برهة ويتحسر داخليا على حريتهم, ويغبطهم على متعتهم التي لا تعادلها متعة, وعلى عدم التزامهم بشيء يستعجل وصولهم, ويقول في نفسه: "يا ليتني مكان أفقرهم.. لكنت أسعد مخلوق على وجه الأرض" مع أن الكل كان يتمنى لو أنه ينتمي إلى عائلتنا المعروفة بمركزها وشأنها الكبير في القرية. ثم ينتزع نفسه من شروده قبل أن ينتبه والده, ويستأنف مهمته الجسيمة إلى نهايتها, ويكون الليل قد أسدل سدوله ومصطفى يتثاءب ولم يتبق له من اليوم والجهد ما يسعفه في اللعب والمتعة, فيلقي بنفسه في عمق نومة لا يحلم فيها ولا يتحرك, أما جدي فيمسي يردد السبعة أسطر.
لا تنتهي مهمة مصطفى عند هذا الحد, بل إن جدي بعد صلاة الفجر مباشرة, يوقظه ليردد عليه ما حفَّظه له في المساء, إنه الجحيم أن توقظ طفلا من نومه العميق باكرا جدا, يقفز على إثر صرخة من والده, ويشعر بالمرارة حين يتذكر أن زملاءه في هذه اللحظة العصيبة مازالوا ينعمون بدفء الفراش. يلتصق بجنبه ولا يتحرر منه إلا عندما يستظهر جدي السبعة أسطر دون خطأ, فيقوم الطفل إلى تناول الفطور وانتظار رفاقه على الطريق ليبدأ يوم جديد لا يجد فيه مصطفى أي جديد سوى ما ينتظره في المساء والصباح الباكر وما بينهما المدرسة بكامل أعبائها, إضافة إلى عبارات الزجر وجفاف الأيام من ندى الحنان والرأفة. وفي نهاية الأسبوع يجد نفسه على موعد مع مراجعة شاملة لما تم حفظه خلال الأيام السابقة.
جدي معروف بالتخطيط لوقته ولأعماله, لا شيء يتركه للصدفة, يحكي لنا والدي أنه قبل النوم يسأله عما يريد أن ينجزه في الغد, إذا لم يفكر بأي شيء, يملي عليه هو قائمة من الأعمال تبيت في ذهنه, وله الحرية أن يحلم أحلامه الجميلة التي تحلق به في السماء أو ينشغل بمهام الغد.
لكن تخطيطه لحفظ القرآن كان عبئا ثقيلا على عمي مصطفى لمدة خمس سنوات, تشابهت فيها الأمسيات والأصباح والأيام والشهور, حفظ خلالها جدي معظم أجزاء القرآن لكن عمي لم يحفظ شيئا منه, بل كان متذمرا كارها لحياته, ولم يخلصه من محنته سوى نجاحه إلى الإعدادية حيث عليه أن ينتقل إلى المدينة ليخوض غمار تجربة جديدة ويواجه مصيرا آخر لم يخطط له أيضا.

د. زهور بن السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى