محمد بشكار - يطول الفيلْم ونحنُ الفُرْجة!..

بعض الفلاسفة الأكثر عقلانية في تاريخ الفكر الإنساني انتهوا للجنون، وبعض الكوميديين الذين سخَّروا كل قُدُراتهم التَّمثيلية لإضحاك الناس، جعلوا الضحك ينْقلِبُ بكاءً حين انتحروا، ولم يكن المُفكِّر يبحث عن فهْمٍ آخر للعالم أبعد من العقل، إنما اكتشف أنه يسبح بعقلانيته التي لا يريدها أحدٌ ضد التيار، فاستسلم للجنون لينسجم مع مجتمع مُخْتل، أما المُمثِّل الذي لم يكن بالضرورة يستمتع بفرحٍ يُحقِّقه للناس وهو يبكي في قرارة نفسه غير سعيد، ألم ينتقم من الجميع حين حُرموا بانتحاره من الضَّحك؟
لا أحد صار يقبل على نفسه الأذى الذي لحق بعقل الفيلسوف لِشِدَّةِ إفراطه في التفكير، لذلك عمَّت البلاهة وصرنا تحت المِلْعقة في موضع المُتلقي المسْتهلِك نبْتلع كل شيء، فصدقنا كل الأمراض التي ابتدعوها للترويج لأدوية مُدِرَّة للربح السريع وغير المشروع، أين اختفت اليوم أمْ أنَّ الجشع الرأسمالي المسلح بالآلة الثقيلة للترويج الإعلامي الكاذب، اهتدى إلى صناعة المرض قبل الدواء، كان كلما عطس أحدهم قالوا أنفلوانزا الطيور أو الخنازير، وإذا أصدر خُواراً كالبشر قالوا جنون البقر، وثمة من ارتفعت درجة حرارته بسبب سوء التغذية، فاعتبروه من المواشي مصابا بحمى قلاعية، وأغرب هذه الإبداعات المرضية زومبي الغزلان الذي قد يُفضِّل بعض مُرهفي الإحساس كالشعراء مثلا، أن يستفحل كداء عِوض أن يجدوا له دواء، لأنه ناتج عن ممارسة الحب، وآخر ما أرعب البشرية في أرجاء المعمور بالبث المباشر، فيروس كورونا الذي تفشى هذه الأيام في موطن ماوتسي تونغ، وثمة طلبة مغاربة مُحاصرون هناك ينتظرون المدد، لا لشيء إلا لأنهم ممن طلبوا العلم ولو في الصين !
لا أحد صار يقبل اليوم أن يُسعد الناس على حساب قلقه، وينتهي كالممثل مُنْتحراً، لذلك مثلما عمَّت البلاهة بغياب عقل الفيلسوف، انتشر الحزن مُدَمِّراً بحيرته الأنفس، ورغم أن بعض مِمَّنْ يستفيدون من صناعة الضغوطات الحياتية للمواطن هم السبب، إلا أن البلاهة التي أصبحت مُكوِّناً أساسيا في تفكيرنا، تجعلنا لا نعرف السبب !
فقدنا المُمثِّل الحقيقي الذي وُلد محاربا شرساً للحزن وهو يسعى بصدقٍ لإضحاكنا باثاً الفرح، وعوَّضناه بمُمثِّل يضحك علينا ونصير بعد ضحكه مَغْمومين، وقد تجده متناسخا بأوجه متعددة في كل القطاعات، وتحسبه يُمثِّلُنا بينما يقتطع منا شرائح متفاوتة في أسْياخها اجتماعيا، وعوض ذلك الصراع الذي كان يقوده في الزمن الثوري الكلاسي الجياع، نجد اليوم جيلا تنحصر كل ثقافته في بصره، يكتفي في فراغه الروحي والفكري العميق، بمشاهدة الفيديوهات وهو لا يدري أن وضعيته المأزومة مَدْعاةً للفُرْجة، والأصح أننا نُمثِّلُ على بعضنا البعض، وقد تتعقَّد علاقاتنا الإنسانية في حكاية نعلم جيدا بِيَدِ منْ خيوط حبكتها، ولكن الخوف الذي يُفشل أحيانا الرُّكب، يجعلنا نُحْجِمُ صاغرين عن التَّدخُّلِ في عمل المؤلف الذي يكتب أقدرانا بأهوائه الطائشة ، وبَدَلَ أنْ نغيِّر المصير يستمر المُخرج في التصوير!
نُمثل على بعضنا البعض، أما الحكاية غير المُشوِّقة التي تجْمعُنا حِبْكتها، فهي المَصْلحة التي قد تستنزف من منبع سري أو علني المال العام، ومع ذلك ينطلي الفيلم على الجميع، كيف لا والأعين التي صارت بفُقدان عقل الفيلسوف بلهاء، مشدودة للشاشة في قاعة مظلمة، بينما اللعب أو الفيلم الحقيقي تجري أحداثه في الجنبات بين الكراسي.. وما أدراك ما الكرسي والدَّور الذي يلعبه في الفُرجة حسب موقعه ضمن باقي الأجهزة السينمائية، سواء من حيث البعد أو القُرب وأشياء أخرى تُحدِّد سِعر الكرسي الذي قد نعرف بثمنه كم يساوي الإنسان، وتحضرني هنا حادثة طريفة، حين كنت أظنني أشاهد فيلما في قاعة سينمائية بالرباط، بينما أجمل الأفلام الرومانسية كان ينحصر في كرسي بجواري بين عاشقين، قلت في نفسي لقد دفعا بشرائهما للتذكرتين ثمن الخُلوة ومعها الظلمة هدية من المصابيح المنطفئة، فما كان إلا أن غيَّرتُ الكرسي إلى الصُّفوف الأمامية حتى لا أنْشغل بشريطهما المُهرَّب مع الحشيش عن فيلمي الذي انتظرت عرضه طويلا!
فقدْنا بجُنون الفيلسوف عقْلَنا، وبانتحار المُمثل فرحنا، ولم يبق بعد أن تحالفت البلاهة مع الحزن والكمد في فيلم مغربي رديء، إلا أن أقتل المُخرج ليتوقَّف عن التَّصوير أو أهاجر من خلال فيلم أمريكي البلد!


(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 30 يناير 2020)


L’image contient peut-être : 2 personnes

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى