التشكيلي البحريني أنس الشيخ: لا نزال عاجزين عن هضم تراثنا والاستفادة منه.. حوار أجراه: جعفر الديري

حوار أجراه – جعفر الديري

أن تكون فنانا تشكيليا، فذلك شيء جميل وأن تتحول هذه الموهبة الفنية المتميزة لديك إلى بحث دائم عن تجارب وأشكال فنية أخرى فذلك شيء أجمل، أما ان كنت ترفد هذه التجارب بملاحظتك الدائمة لكل ما يستجد في عالم التشكيل فتلك منطقة لا يقترب منها الا ذلك الفنان الذي وهبته الطبيعة من الموهبة والاخلاص للفن الشيء الكثير. والفنان الشاب أنس الشيخ من أولئك الفنانين الذين لا تستهلكهم أدواتهم الفنية، بل تتحول الممارسة اليومية لديهم للفن إلى حال أقرب إلى الهيمان المجدي، فهو في شغل شاغل بكل ما يمت إلى الفن بصلة، محاولا من خلال تجاربه الذاتية واطلاعه التأسيس لنظرة فنية قائمة على استيعاب الجديد والاستفادة من القديم، وهو في لقائه هذا يؤكد جملة من الأمور المهمة تتعلق بالمنظور الجديد للفن واتساع دائرة الابداع بالنسبة إلى الفنان التشكيلي بدخول أدوات ومساحات فنية أكبر... نفرد هنا اللقاء...

تقنيات غربية

* أشار أحد الباحثين والفنانين العرب إلى أننا لكي نستطيع إيجاد مكان لنا على خريطة الفن العالمي، يجب علينا ممارسة الرسم من حيث ما انتهى اليه الفن الغربي اليوم، فهل تقف أنت مؤيدا لهذه الفكرة أم تجد ان موروثنا الثقافي والفني كفيل باغنائنا عن ذلك؟
- ان مشكلتنا الحقيقية تلخص في أن لدينا موروثا ثقافيا وحضاريا وتاريخيا ولكننا لم نعرف كيف نتعامل معه إلا من خلال الغرب، فالفن التشكيلي المعاصر مفهوم غربي، بداية من اللوحة الفنية إلى الاتجاهات المختلفة في الفن، وبالتالي فمصدرها غربي، ويوم حاولنا اضفاء طابع خاص بنا لجأنا إلى تراثنا ولكننا لم نستطع التعامل مع هذا التراث إلا من خلال تقنيات وممارسات غربية، فأصبحنا نرى تاريخنا وحضارتنا من خلال عين وأسلوب تفكير الفنان الغربي، وهذه النظرة أتت نتيجة ترسبات لتخلف مررنا به. فمن الطبيعي أننا ومع وعينا ومحاولاتنا الأولى في بداية القرن الماضي لإيجاد مكان لنا كان لزاما علينا أن نستفيد من التجربة التي سبقتنا، وهذه قضية لا تتعلق فقط بالفن، بل في كل اتجاه مصدره غربي، فالمجتمع غير المتقدم لا يستطيع الانتاج، ونحن مجتمع غير منظم وغير قادر على التخطيط السليم فليس أمامه الا اللحاق بالغرب، والا فتوقفنا معناه تخلفنا أكثر، ولكن هذا لا يعني أنه لا يحق لنا أن نمتلك الموقف النقدي تجاه كل ما ينتجه الغرب، ومن الطبيعي أن تكون أولى المراحل أن نتعاطى مع ما هو مطروح ومنتج عندهم ونحاول توظيفه بما يتناسب مع ثقافتنا وقناعاتنا ورؤانا.

الاشتراك مع الآخرين

* وهل ثقافتنا وتاريخنا شحيحان لهذه الدرجة؟
- اننا نمتلك تاريخا وثقافة عظيمة ومؤثرة، ولكنني أتحدث الآن عن واقع لا يتحمل الانتظار والتفرج على ما ينتجه الآخرون، يجب علينا محاولة الاشتراك مع الآخرين فيما ينتجونه ويجب أن يكون لدينا الموقف المؤيد أو المعارض من خلال الانتاج، وليس من خلال التنظير البعيد عن واقع عصرنا، نحن الآن لا نمتلك البنية التحتية للفن، فكل ما لدينا اجتهادات فردية، فالفنان لدينا عندما يبرز في العالم انما هو يمثل نفسه، لكن الفنان الغربي هو نتاج طبيعي لبيئته ومجتمعه، ففي الوقت الذي نقف نحن فيه لا نراوح أماكننا ولا تتغير موضوعاتنا ولا كلماتنا، نجد الفنان الغربي يجتهد في طرح ما هو جديد ومختلف، فجمالية الفن في الاختلاف وليس في الاتفاق، وهذا ما نراه واضحا لدى الفنان الغربي الذي لا تتشابه صورته بل تتعدد ابداعاته واتجاهاته.

من اكتشف ذخائرنا؟

* لكن هناك من الفنانين الغربيين من اعتمد المقاييس الفنية القديمة عند الآشوريين والبابليين مثلا، ومنهم من اتخذ من الفنون الاسلامية مجالا رحبا يمارس فيه ابداعه؟
- أتساءل هنا، تراثنا هذا العريق من هو الذي نبهنا إلى وجوده ومن اكتشف ذخائره هذه؟! أليس هم الغربيون، ان كثيرا من المقاييس والمفاهيم في الفن العربي الاسلامي اكتشفها ونظّر إليها الغربيون في العصر الحديث، فنحن لم نتعرف إلى هذا التراث الاسلامي وقيمته وجماليته الا من خلال المستشرقين المنظرين والباحثين والفنانين المؤثرين أمثال «ديلاكروا» الفنان الفرنسي في المرحلة الرومانتيكية، و«ماتيس» و«بول كلي» وغيرهم في المرحلة الأولى للفن الحديث الذي تعامل مع الفن الاسلامي بلغة جديدة مثيرة، إذ كان الفنان الغربي لديه القدرة على هضم تراثنا وإعادة صوغ هذا التراث بما يتناسب مع فهمه ونظرته وثقافته وقناعته الحداثية، ولايزال الفنان الغربي قادرا على هضم تراثنا والاستفادة منه بما يتناسب مع عقليته، ولكننا غير قادرين على ذلك، حتى أن القدرات تباينت لديهم، بمعنى أنه حتى في الغرب أصبح هناك من هو قادر على هضم تلك الثقافة سواء الفرانكفونية أو الانجلوساكسونية بشكل مغاير، وإعادة صوغها من جديد بما يتناسب مع من يمتلك القوى الاقتصادية والحضارية والمعرفية والتكنولوجية وحتى العسكرية، ففرنسا وكثير من الدول الغربية مثلا أصبحت تخشى من هيمنة الثقافة الأميركية على ثقافتها وعلى حياتها المعاصرة، في الوقت الذي مازلنا نتكلم وكأننا نحن فقط في العالم في حال صراع مع الغرب، الأمر الذي جعلنا لا نهتم أن نرى ما يقدمه الآخرون في بقاع مختلفة من العالم، إذ حجبنا أعيننا عن رؤية تجارب المشرق في بقاع مختلفة ومهمة في آسيا والتجارب الإفريقية كتجارب فناني جنوب إفريقيا على سبيل المثال، فضلا عن الغرب اللاتيني، وهذا يدل كما أسلفت آنفا إلى أننا غير قادرين على الإلمام وفهم كل ما يجري في العالم إلا من خلال أنفسنا فقط، فالغرب الذي مر بعدة مراحل حتى أصبح الفن لديهم على ما هو عليه، لا يمكن مقارنته أبدا بنا نحن الذين نفتقر إلى الثورات المعرفية والتكنولوجية والاقتصادية، وإلى المراحل التي تؤسس لأرضية قادرة على أن تنتج ثقافة تتعاطى مع الغرب والعالم.

مفاهيم تتجاوز التقليد

* ماذا عن الفنون الجديدة كأفلام الفيديو والتركيب والإنترنت وغيرها؟
- هذه الفنون مورست في مراحل متفرقة مختلفة من القرن الماضي ولكن التركيز عليها بدأ في عقد الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وما بعدها، فصار هناك مفاهيم مغايرة ومتجاوزة للمفهوم التقليدي للعمل الفني المعاصر. ربما أصبح التركيز على المجالات المفاهيمية الخارجة عن نطاق اللوحة، إذ الاستفادة من الوسائط والتقنيات الحديثة الناتجة عن التطور التكنولوجي والمعرفي والتي أدت إلى تقديم رؤية جديدة تتجاوب مع الماضي وتتجاوزه في الوقت نفسه وتتحاور مع الثقافة الجديدة للصورة. هناك فنون أخرى حديثة جدا تتعاطى مع الثورة المعلوماتية من خلال التعامل مع الفنون المتعلقة بالكمبيوتر والانترنت فأين نحن من ذلك؟ عند الحديث عنها لا نجدنا نتعاطى مع هذه الفنون. فنحن غير قادرين على أن نستشعر تلك الحساسيات، ربما لأنها جديدة فنتخوف من الاقتراب منها، فلانزال نتحرك ضمن المسطح المعلق اللوحة والمنحوتة والخزف، بينما نجد الغرب مجتمعا متحركا ما أن يحل نقطة أو يجد نفسه غير قادر على الوصول إلى نقطة أبعد من ذلك حتى يتجه إلى مكان آخر ومساحة أخرى، فنحن طوال خمسين أو ستين سنة كان موضوعنا الذي لا يتغير هو الهوية والخصوصية، وكيفية خلق فن تشكيلي عربي، فلم نستطع تحقيق وجود لنا لأسباب كثيرة، بعضها أدت بنا إلى الانغلاق على أنفسنا، فحتى أولئك الفنانين من أصول عربية أو شرقية لا يعترف بهم الغرب الا باعتبارهم أميركيين أو غربيين، منى طاحوم مثلا فنانة فلسطينية تعتبر واحدة من أهم فنانات القرن العشرين ولكن الغرب يعترف بها باعتبارها بريطانية، كذلك شيرين نشأت الفنانة إيرانية لكن الغرب يعترف بها معتبرا إياها فنانة أميركية من أصول إيرانية، لأن هؤلاء تفاعلوا بما يستجد في الساحة الغربية والأوروبية وحققوا قدرا من الحضور والتميز.

طريقة التلقين

* وهل السبب راجع إلى خلل في نظامنا التعليمي أم لأسباب أخرى؟
- بديهي أن طريقة التعليم والتلقين هي أهم الأسباب، فطالما كانت طريقة تدريسنا متخلفة إلى هذه الدرجة، وطالما لم نغير طريقة التعليم بحسب الأسس الفنية الغربية، وطالما لم نعط للأجيال الجديدة والأطفال البدائل، لن نستطيع الخروج بشيء مميز، وأتذكر بهذا الخصوص أنه كانت لي دورة تتعلق بالجماليات البصرية، قدمتها في احدى الجمعيات الشبابية، وبعد الانتهاء منها وجدت الشباب متعلقين كثيرا بالقيم الجمالية وبالتقاط كل ما من شأنه أن يبرز قيمة الجمال برؤى وحساسيات مختلفة بالنسبة إليهم، وهذا الأمر يحيلني إلى تلك التجربة التي قامت بها احدى المؤسسات التربوية اليابانية حينما قامت بتدريب أطفالها على النظام وعلى الاستمتاع بالفنون الأدائية والبصرية بطريقة جميلة ومدهشة، فمثلا طلبت منهم اغماض أعينهم وجعلتهم يستمعون إلى إحدى مقطوعات بتهوفن فكان الأطفال يتمايلون مع اللحن، حتى إذا انتهى اللحن علقت لوحة كبيرة كتب عليها اسم بتهوفن ولوحة اخرى كبيرة كذلك لصورة ذلك الموسيقار العبقري، ونجد هنا أن هناك طريقة جديدة في التعليم والتلقين وربط الأمور ببعضها بعضا الفنية والتعليمية من خلال ثقافة البصرية والسمعية، فأين طريقتنا نحن في التعليم من ذلك؟!.

دفع الآخرين للتجربة

* لكن هذا الأمر لا يبرر لدى البعض ما تقوم به من معارض مشتركة للتصوير للفنانين الشباب بحجة الفن المعاصر؟
- وأية مشكلة تكمن في هذا الأمر؟! أنا أستغرب حقيقة من كل هذا الذي يقال، هل هناك خطأ في الاستفادة من التجربة واعطائها للآخرين؟ ان الفنان محتاج إلى البحث والتجربة، فأين هي المشكلة في دفع الآخرين للتجربة، ولماذا تكون هناك قوانين معينة، لماذا التركيز فقط على مفاهيم تقليدية وكلاسيكية؟ انهم في الغرب يبحثون عن الطفل والشاب القادر على التعبير عن نفسه، فلا يرفضون أي لون أو طريقة للتعبير عن نفسه، ولكي تستطيع التعبير عن نفسك عليك أن تتأقلم مع ذاتك ومع ميولك وقدراتك وقناعاتك مع كل المرحلة، فأين الخطورة في تعبير الانسان عن نفسه بالطريقة التي يراها؟ اننا نرى ذلك لأن هذه المنافذ للابداع ليست لدينا هنا في البحرين لأنها محدودة ومقتصرة على أشكال معينة للفن التشكيلي، ولكن لو رأينا على الأقل على المستوى العربي التجارب التي تعرض في الصالونات الشبابية في مصر مثلا لرأينا كيف أن هناك تنوعا وتعددا في التجارب من اللوحة والمنحوتة والوسائط الجديدة المعاصرة من أعمال الفيديو والتركيب والتجارب المفاهيمية القادرة على الدخول بحركة جديدة وبدماء جديدة للحركة التشكيلية المصرية. ثم أين هي أنشطة هؤلاء الذين يلومون أنس الشيخ على ذلك؟ فبدلا من القاء الاتهامات جزافا، لماذا لا يقومون بالبحث والاهتمام بالفنانين الشباب وتوجيههم ورعايتهم ولو لفترة زمنية محددة وإقامة المعارض لهم وتوصيل مفهوم الفن اليهم بالطريقة التي يعتقدون انها صحيحة والتي تكون قادرة على مقاومة المجازفات غير المسئولة التي يقوم بها أنس الشيخ؟!

تجربة تشويش

* حدثنا قليلا عن تجربة تشويش التي شاركت بها في ملتقى الفنون بقطر؟
- عرضت تجربة تشويش أولا في المعرض الثاني للفن المركب والذي نظمته من أجل تشجيع الكثير من الشباب لتقديم أنفسهم وأفكارهم بشكل أكثر جرأة وتأثيرا، ومن ثم اشتركت بالعمل نفسه في مهرجان الدوحة الثقافي الثالث 2004، وهذا العمل كان تعبيرا عن واقع نعيشه في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، اذ نجد أن هناك اتجاهات تجد نفسها هي مالكة الحق لوحدها، لذلك هي لا تحاول أن توجد أرضية مشتركة فكل الأشياء مرهونة بمصالحها، فالعمل وجوه ثابتة ولكنها تتقمص عدة أوجه، فإلى جانب الوجه السني نجد الوجه الشيعي ثم الوجه التقدمي الليبرالي وكذلك وجه المرأة التي لا تستطيع اختيار ما يناسبها، وبالتالي لدينا صراع بين الليبراليين والاسلاميين وبين الاسلاميين المعتدلين والآخرين المتعصبين، وقد استخدمت الفيديو والأناشيد الدينية والأغاني العربية والاجنبية كلها متداخلة مع بعضها بعضا من أجل توصيل حال الانزعاج والتشتيت، وكذلك استخدمت الكتابات في الجوانب وهي عبارة عن حديثين من مصدر واحد، عن قضية اسلامية واحدة، في اشارة مني إلى أننا لم نستطع حتى هذا اليوم التخلص من هذه العقد القديمة.
________________________________________
مقترحات وآذان لا تسمع
على صفحات إحدى الصحف البحرينية نشر الفنان أنس الشيخ موضوعا طويلا استعرض فيه أحلام واحباطات وهموم أبناء جيله من الفنانين التشكيليين، وقد استعرض الشيخ في جانب من موضوعه جملة من الاقتراحات للنهوض بالحركة التشكيلية في البحرين، مثلا فرض رسم مقداره دينار بحريني واحد سنويا على جميع القاطنين في البحرين من أجل القيام بمشروع نهضوي فني وثقافي، كما طرح فكرة اصدار طابع بريدي من فئة 100 فلس يذهب ريعه إلى هذا المشروع، كما أنه اقترح أن تسهم الشركات الوطنية والأجنبية، كل ذلك بدعم وتشجيع وتوجيه من قبل الدولة لتلك المؤسسات والشركات بـ 1 في المئة أو 2 في المئة سنويا أو ربما أقل ولمدة 10 سنوات من المبالغ التي تربحها وتجنيها سنويا، وكل ذلك من خلال وضع استراتيجيات ومخططات واضحة المعالم. قدمت هذه المقترحات في العام 1999 وبينها وبين تاريخ اليوم أربع سنوات، ولكن لم يتسنّ لها حتى اليوم الحظوة ولو بأذن واحدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى