صابر رشدي - مئة وإحدى عشرة.. قصة قصيرة

حسن لالا، الذي يحمل وجه شيطان غضوب مكفهر دائمًا، ويلتمع لديه ناب فضي، مجاور لأسنان قبيحة وسوداء، كان بلا أشقاء، أو أقارب، فقط، زوجة دميمة مثله وعدد من الأطفال الصغار. لكنه يشكل مصدر رعب للجميع، نظرًا إلى تفوقه في التقاط شفرة الحلاقة المخبوءة بسقف فمه وتمزيق وجه من يجابهه. إنه نشال بارع، مشهود له بالكفاءة، يمارس عمله في المواصلات الشديدة الازدحام بأصابع ماهرة، تعرف الطريق جيدًا عندما يدسها في الجيوب لتعود بصيد ثمين: حافظة نقود، قلم فاخر، قداحة مرتفعة الثمن، أو إسقاط ساعة يد من معصم أحدهم، فهو نادرًا ما يعود خالي الوفاض، خاصة مع هؤلاء الذين يوزعون الأشياء على عدة أماكن، بخيال تضليلي مبتكر محترزين من المفاجآت. إنها لعبة القط والفأر، التي يتقنها منذ وقت مبكر، حيث تجذبه رائحة النقود، وتقوده إليها ذبذبات القلق التي تصدر عن صاحبها وترتسم إشاراتها على تقاطيعه، مما يسهل سرعة التعامل معه وإنهاء المهمة في وقت قصير.
الآخر، عصام نمرود، ربعة، قوي البنيان، يخلو من الوسامة، ويفتقر إلى أي ملمح جمالي، رغم شعره الأسود الناعم، المسترسل فوق جبهته، إنه يصغر حسن بعشرة أعوام تقريبًا. وهو لا يمكث في أية مهنة طويلًا، رغم مروره على معظم الحرف اليدوية بالورش الصناعية الصغيرة، مشاغب ومتمرد، لا جلد له على العمل، يطرده أصحاب العمل بعد ضربه ضربًا مبرحًا يوازي جرائمه، كان لصًّا بالسليقة، ذا ميول قوية لتعلم المهنة ولا يحتاج سوى دورة عملية على أحد شيوخ المهنة، تدريب على خفة اليد، وسرعة التصرف في الأزمات الطارئة، وخطط الهروب من المخبرين السريين الذين يندسون في الأتوبيسات لاصطياد هؤلاء اللصوص، فهو لا يحتاج إلى الجرأة، غير هياب، ومتهور، يستعين على ذلك بالأقراص المخدرة التي تفقده عنصر الإحساس بالخطر، وتجعل الهجمات غير ذات أثر. عندما يقع في أيدي الشرطة أو ركاب الحافلة.
كانا يذهبان معًا، الأستاذ وتلميذه، يقفزان إلى أتوبيس، أو ترام مزدحم، ينتقيان الضحية، بعد عدة إيماءات متفق عليها ينهيان المهمة فورًا، ثم يهبط كل واحد منهما في محطة مختلفة، يلتقيان بعدها خارج نطاق دائرة العمل، يتقاسمان الغنائم، ثم يذهبان لاحتساء الخمر الرديئة مكافأة لنجاحهما.
في أشهر قليلة، استطاع النمرود أن يلم بقواعد المهنة، أبجدياتها الضرورية، لكنه لم يصل إلى المستوى الرفيع لقائده، فهو رائد كبير في هذا المجال، بينما هو عجول، يريد العمل بمفرده، كارهًا اقتسام المسروقات مع أحد، مؤثرًا الاكتفاء بدورة سريعة تتوافق مع نفاد صبره، وامتعاضه من فكرة التنازل عن مجهوده، لكن يبدو أن هذه الدراسة المبتورة كان لها أثر مخرب ظل يلاحقه، فلم تصل دقة أصابعه قط، إلى هذا المستوى الرفيع لمعلمه، ولم يسعفه تفكيره، ومظهره المستفز لإعطاء انطباع خادع للضحية بأنه شخص عادي، كان بطيء الحركة، شرس الطباع، مثيرًا للريبة والحذر، يحمل سمت قاتل مأجور، يعمل دائمًا وسط نظرات مشحونة بالعداء، تعسِّر مهمته، وتجعل اصطياده أمرًا بالغ السهولة، فكثيرًا ما يعود مضرجًا بالدماء، مطموس الملامح، مشوهًا، بعد وقوعه في أيدي مواطنين مكبوتين، أتيحت لهم لحظات نادرة لتفريغ شحنات الغضب، فبين أيديهم رمز مجسد وواقعي للفساد، لص صغير، لكنه فظ، وبالغ الفجاجة، إنها أصداء باطنية، لاستحضار شكل من النزوع البطولي في معركة محصنة، ومحسومة سلفًا في هذا الزحام، لا تفريط في المشاركة، عمل سادي، مبهج وانفعالي، ثمة سعادة في توجيه الضربات إليه، التي ستمر بلا عقاب، وهو يتلقاها في ضباب غيبوبته، قبل الإلقاء به من الحافلة إلى نهر الطريق، محملًا بانعكاسات الواقع المتردي، وتداعياته المريرة، ليعود متورمًا، ومنتفخًا يختبئ في منزله شهرًا كاملًا حتى يسترد ملامحه.
كان يريد التفرد في شيء خارق، له خصوصيته، وتميزه، شيء يستطيع التفاخر به على الآخرين، حاول في أشياء عدة، لكنه في النهاية، وبعد تدريبات مرهقة استطاع أن يكون أسرع شقي يسحب مطواتين من خصر بنطاله، ويفتحهما في الهواء، في جزء من الثانية.
كنت أمر من أمامه، وكان يستند إلى جدار بيته متخدرًا، عندما اقتربت منه وجدته يعترضني وبحركة خاطفة كان يطوق عنقي بمطواتيه، ارتعبت من رناتيهما وهما يصعدان في الهواء، تجمدت في مكاني، مصابا بالشلل.
ــ رجل. قال مثنيًا عليَّ
كان لا يعلم أن هذا الصمت المباغت الذي ألغى تفكيري، كان نتاجًا لا شعوريًّا للصدمة، لقد رأيت نفسي حينها، ذبيحًا، راحلًا عن العالم، بين بكاء والديَّ وأصدقائي، رأيت كل البنات اللواتي أحببتهن يودعنني منتحبات في حزن عميق، مرت حياتي القصيرة أمام عيني في لقطات متتالية، رأيت العالم الذي أعرفه، والعالم الذي لا أعرفه، أضيئت الذكريات المخبوءة دفعة واحدة، استيقظت حواسي، لم يكن هناك مجال للفرار، أو القيام بأي عمل، تجمدت لحظتها وخرجت من الزمن الواقعي.
ــ الله يحرقك.
قلت في نفسي وأنا أبتلع ريقي بصعوبة محاولًا استعادة توازني.
ــ اذهب.
نطق بطريقة توحي بإعجابه بثباتي وجسارتي دونما حساب لقواعد علم النفس وتفسيراتها المعقدة.
كانت خطورة الشقي تحددها عدد ضربات الآلات الحادة، والعلامات الغائرة في وجهه وجسده، على الجانب الآخر، كانت الشرطة تلجأ إلى وسائل مبتكرة، حيث يتم تشريط اللص بثلاث علامات طولية على أحد جانبي الوجه ، يتم وسمها، على شكل (111)، يحدث ذلك بعد القبض عليه لأكثر من مرة، وبعد التأكد من أن لا رجعة له عن هذا المجال، مع عمل ملف أمني، مقرونًا بتوصية كـ"مسجل خطر" حتى يتم التعرف عليه واصطياده بسهولة.
كان عصام نمرودً يطرق عالم الجريمة، مقدمًا قرابين دامية لآلهة الشر، وفقًا لطقوس هذا العالم الغامض والسري، رأيته يقوم بتمزيق باطن ذراعه بضربات متساوية بحد الموسى، واحدة إثر أخرى، وهو يكتم ألمًا شديدًا، مضمرًا زهوًا لا نظير له، فها هو يقتحم عالم الأشقياء الخطرين بوجه مشوه، وجسد مخيف.
حسن لالا، وعصام نمرود، كانا يختفيان أحيانًا عن المنطقة، عامًا أو أقل، أو أكثر، ننساهما، ثم يعاودان الظهور مرة أخرى، على نحو مفاجئ وغير متوقع.
ــ أين كانا. كنا نتساءل
ــ كانا مسجونين. دائمًا هي الإجابة
حسن لالا، أكثر قسوة، غادر وخائن، وشديد الخطورة عندما يكون غاضبًا، لا يعرف المزاح، ولا يميل إليه على الإطلاق.
يتذكر الأهالي انضمام هشام الجميل إليهما، بوسامته الواثقة، وصيته الذائع كدون جوان محلي بلا منازع. عينان زرقاوان، شعر ذهبي، وجه أحمر جميل، أسلحة كان يجيد استعمالها في مغامراته بلا هوادة، كن يعمل في تجارة الشنطة، مهنة رابحة في تلك الأيام، يقوم من القاهرة إلى بيروت محملًا بحقائب تمتلئ ببضائع مصرية، ثم العودة من هناك بملابس فاخرة وإكسسوارات، تباع بأثمان معقولة، عمل مربح وسريع، لا يستغرق المكوث أسبوعًا واحدًا، لكنه يتحول أحيانًا إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، وهي جلب المخدرات، عبر لعبة قدرية قد تجعل صاحبها في مصاف الأثرياء، أو ملقًى وراء الأسوار بقية عمره.
هشام الجميل، الفتى الغندور، قناص الحسناوات، عاطفي النزعة، كان مثار غيرتنا ونحن صبية صغار حالمين بالغرام، لا ندري كيف انضم إلى هذين الشقيين حيث بدءوا جميعًا في مطاردة الفتيات، حتى شاع الأمر، وضجرت منهم معظم الأسر، لكنهم وقعوا أخيرًا، عندما طاردوا ابنة أحد رجال الاتحاد الاشتراكي، كان الرجل رمزًا للدولة وممثلًا لها في المنطقة، لقد تصرف على الفور، هاتَفَ مأمور القسم الذي تجاوب على الفور، وأرسل رجاله لتوقيف المجرمين الثلاثة، معطيًا تعليمات محددة بعدم إحضارهم، آمرًا بإجراءات أشد إذلالًا.
حضر رجال المباحث ومعهم (فلقة) جيدة الصنع ومتينة، تم نصبها فوق إحدى البالوعات بعد رفع الغطاء الحديدي الثقيل عنها، ثم ربط كل منهم، واحدًا بعد الآخر، قدمين موثقتين بالفلقة، ورأسًا مدلًّى داخل البالوعة، ثم الضرب بهراوة غليظة على باطن القدمين في احتفالية مهينة، شاهدها أبناء المنطقة، واعتبرت من يومها حدثًا تاريخيًّا مازال محفورا في الذاكرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى