عبدالرحيم التدلاوي - البعد الأخلاقي في رواية " على ذمة التحقيق" لأمنة برواضي.

عن مطبعة الجسور ش م م وجدة صدرت رواية "على ذمة التحقيق" لأمنة برواضي في طبعتها الثانية سنة 2017 والمنبسطة على مدى 150 صفحة؛ وقد حصلت على الرتبة الأولى وفازت، بالتالي، بجائزة الدورة الثانية للمهرجان الدولي للرواية بوجدة، 2016.
موضوعة الرواية الأساس هو نبذ الظلم، لكون العدل أساس المجتمعات السليمة، إذا اختل اختلت معه بالتبعية، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما. تلك هي الرؤية المؤطرة للسارد/ة في هذا العمل الروائي، والتي تستمد فلسفستها من روح الإسلام الداعي إلى محاربة الظلم والظالمين؛ فلتبرئة مائة ظالم خير من ظلم بريء.
**
تبدو الرواية وكأنها ترسم واقع السجون بما يجري فيها من أحداث، والحق أن المكان لم يكن مركز وبؤرة الرواية بقدر ما كان توطئة لأحداث ترتبط بالشخصية المركزية ألا وهي كمال، هذا الشاب الذي تم اعتقاله وإيداعه السجن على ذمة التحقيق ليقى فترة زمنية في المابين حال العنوان الذي يشر هو الآخر إلى هذه المنزلة. صحيح أن الرواية ركزت على بعض السلوكات التي تشهدها السجون، لكنها لم تفصل فيها لأن غايتها الإشارة إلى ضرورة الإصلاح، إصلاح السجناء بغاية دمجهم في المجتمع، فإعادة إصلاحهم سيعود بالفائدة على المجتمع ككل، ومثاله رشيد الذي صلح أمره وهو يدير كشكا بعد أن كان عنيفا وجانحا. هذه الرؤية الإصلاحية هي التي تهيمن على مجمل النص، تؤطرها رؤية دينية أخلاقية تستمد روحها من الدين الإسلامي، ولا أدل على ذلك من وجود استشهادات مستمدة من القرآن، ومن الثقافة العربية التي تصب في هذا المجال، ومن خلال تجنب المصافحة باليد والاكتفاء بالتحية الجسدية، كما وقع بين كمال وكاتبته الجديدة.
لو قامت الرواية بالتركيز على واقع السجون لكانت باهتة ، ولجاءت مكررة للكثير من الأعمال التي ركزت على هذا الواقع بكثير من الفنية والجمال، ومن الأمثلة الدالة على ذلك فيلم "الهروب الكبير"، لكن الرواية كان همها الجانب الأخلاقي في بعده الإصلاحي، فصلاح المجتمع من صلاح أفراده، وأي جنوح ينبغي مواجهته بالتفهم وإعادة التنشئة بغاية الإدماج، ولا يكون هدفه الاعتقال وسلب الحرية وكفى، إذ مثل هذا العلاج لن يفيد بدليل عودة الكثير من الجانحين والمجرمين، وبدليل وجود الكثير من الانحرافات داخله: " يقتلون أعصاب السجناء بالانتظار؛ ظنا منهم أنهم يعلموهم النظام. نسوا أنه بمجرد ما يخرج السجين، فإنه يفجر الضغط، وينطلق في جميع الاتجاهات. يتحول كالثور في حلبة المصارعة بعدما يزيلوا الرباط عن عينيه، تجده المسكين لا يعرف الوجهة التي يريد، يجري فقط، ويؤذي كل من يعترض سبيله.. فعلا الضغط يولد الانفجار.."
و تركيزها كان موضوعها البارز رفض الظلم، وإدانة الظالمين أتاح للذات الساردة أن تتفاعل مع النفوس الحزينة التي تتجرع مرارة الأيام، وتنخرط بكل عفوية وتلقائية في قضايا المظلومين الذين زج بهم وراء القضبان، بلغة سردية واصفة تحاور بها وعلى لسان شخصيات واقعية فضاء مغلقا يحيل على أحداث مجتمعية، تمت بصلة وثيقة إلى الأزمة الحديثة والمعاصرة الحبلى بالمتناقضات، والصراعات، التي يحفل بها هذا المتن الروائي الذي يفتح شهية القارئ للتعاون المثمر مع شخوص لا يريد لها السارد أن تكون من ورق، ترفل في الأغلال، والسلاسل، والقيود، في بناء المعنى، وتشييد القوانين الداخلية المتحكمة في البنية العميقة للسرد.1
تجدر الإشارة إلى أمر مهم في بناء الرواية ويتمثل في خرق أفق انتظار القارئ بجعله يتوهم لفترة أن الشخصية المحورية هي حسن، والأمر ليس كذلك، وهذه التقنية أو الخرق نابع من تأجيل الحديث عن البطل الحقيقي (كمال) إلى الصفحة 22، بعد التركيز في بداية الأمر على شخصية (حسين)؛ البطل "المقنع"، مما يجعل المتلقي يحسبه البطل الأساس في الرواية، ومن ثمة تغير أفق انتظاره حين تتوسط أحداثها، فيظهر كمال مبرمجا لوقائعها، لكن مع ذلك يبقى لحسين الدور الفعال في تبرئته، وكأنه المؤازر له في القضية والمساهم في تأثيث السرد الروائي. 2
هكذا نجد السارد/ة يقف إلى جانب كمال، ساعيا إلى جعل الأحداث تقف إلى جانبه لتبرئته بتسخير شخصيات من داخل السجن ومن خارجه لتحقيق هذه الغاية، من مثل حسين الذي بسط حمايته عليه وأبعد عنه كل سوء، وصديقه فؤاد الذي لعب دورا مهما في تبرئته بعد أن غادر أسوار السجن قبل مجيء كمال، ومدير السجن، والقاضي الذي تولى الملف بهمة ساعيا إلى الإيقاع بالمجرمين الحقيقيين في يد العدالة.
قصة كمال هي في جانب منها قصة سيدنا يوسف الذي قبع في السجن وهو المظلوم عدد سنين قبل أن يخرج منه مظفرا بتولي منصب مهم في هرم الدولة، وكذلك كمال الذي سيخرج من السجن رافعا رأسه، مع إشارة خفية إلى إمكانية توليه رئاسة القطاع الذي يشتغل فيه كنوع من التعويض، واعترافا باستقامته وجديته وتفانيه في العمل. وإذا كان سينا يوسف عزيز أبيه، فكمال، هو الآخر، عزيز أمه التي سربلته بدعواتها وبركاتها.
وعلاقة كمال بأمه يدفعنا للتطرق إلى الجانب العاطفي، فنرى أن الأم هي الواقفة إلى جنب (كمال) المتهم، أثناء محاكمته بالقلق، وبعد صدور الحكم بالفرح، وعند خروجه من الاعتقال بالاستقبال الرحب والشوق الدائمين. وهو بذلك يبقى مرتبطا بها أشد الارتباط. لذلك يمكن القول إن الحضور المكثف للرجل في الرواية في حقيقته ما هو إلا تنبيه إلى دور المرأة التي تبقى حاضرة في حياته وفي كل تجلياته. 3
قصة كمال، وهو اسم لا يناسب الشخصية إذ تعتريه الكثير من النواقص، لكن استقامته تشفع له بحمل الاسم، تتمثل في سقوطه في فخ نصب له بإحكام بتسخير كاتبة شابة نومت حاسة تبصره فوقع على ما لا ينبغي التوقيع عليه، لحسن نيته وسذاجته النابعة من صفاء نيته وغياب التجربة، ولتربيته السليمة المعتمدة على الصدق والثقة في الناس. مما جره إلى الاعتقال الاحتياطي إلى حين استكمال كل حيثيات الملف، ومعرفة تورطه من عدمه. والبين أن ملفه عرف، منذ البداية، تعاطفا مع من يشتغل معه ومن القاضي الذي تولى القضية، ومن خلال زميله في السجن، حسن، وفؤاد الذي تبنى قضيته وسعى إلى إلقاء الضوء عليها بغاية تبرئته وكذلك كان.
وبالعودة إلى الشخصية المحورية يتبين مدى سلبيتها سواء خارج أو داخل السجن؛ فقد ظل باهتا يمشي خلف الشخصيات الأخرى سواء تلك التي آذته، أو تلك التي تعاطفت معه. لم يبد ولا مرة بادرة تحسب له وتؤكد حضوره وقوة شخصيته. فقد كان ظلا لحسين الذي بسط حمايته عليه اقتناعا واستجابة لمدير السجن، وكان ظلا لكاتبته الجديدة بعد أن أفرج عنه، يسير خلفها، ومنها يستقي معلوماته.
قسمت الرواية إلى مقاطع، كل مقطع بعنوان خاص. والملاحظ أن هذه العتبة فصيحة بقدر ما تقدم تلخيصا دقيقا عن الأحداث التي تمر بها الرواية خاصة في ما يتعلق بالقضية: في المحكمة، في مكتب مدير السجن، معانقة الحرية، العودة إلى العمل، القبض على الجناة..
واللافت للانتباه هو أن عدد مقاطع الرواية يشبه عدد أشهر السنة، مما يشي بدورة الزمن وتغير الأحداث إلى ضدها؛ فلا شيء يبقى على حاله، ودوام الحال من المحال؛ وهو أمر يظهر من خلال استعادة كمال لحريته، واستعادة حسين لإنسانيته، والأمر نفسه مع صاحب الكشك.
علي مستوى التركيب والبناء يتبين أن قصة كمال تخضع للترسيمة التالية: فالشاب الغر والخلوق كان يعيش وضعية استقرار مادي ونفسي. لكن. سرعان ما ستتخلخل بفعل تدخل عنصر مشوش يتمثل في أصحاب المكيدة الذي تمثل برنامجهم السردي في الإيقاع به. ونجحوا وما كانوا لينجحوا لولا سذاجته. وتلك السذاجة هي عنصر معيق وغير مساعد. أما الطرف المساعد والذي قدم خدمات تكللت بالنجاح ومن ثم خروجه من ضائقته ومحنته فتتمثل في حسين وفؤاد والقاضي. ثم دعوات الأم. والعنصر المساعد الأقوى فكان رحمة الله الذي قيض له هؤلاء. وجميعهم سيقوضون برنامج الأعداء وإعادة التوازن المفقود لكمال. ومن هنا تلك النهاية السعيدة التي ستدخل البهجة على كمال وأسرته وعلى القارئ.
اعتمدت الرواية على البناء الطولي للأحداث، حيث سارت من نقطة البداية إلى خط الوصول السعيد، وهي بذلك رسمت خط حضورها على نمط الكتابة التقليدية رغم تلك الاسترجاعات والاستباق الذي خلخلت قليلا البناء، لكنها لم يفتته بل عضدته، إضافة إلى اعتماد السارد العليم، وما قيام الروائية بهذا الاختيار الفني إلى انطلاقا من رؤيتها الأخلاقية التي تبغي تمريرها وخاصة على لسان الكاتبة كما جاء في آواخر العمل، كتتويج لما تريده الروائية التي تخفت وراء هذه الشخصية حتى تتمكن من ترسيخ الجانب الأخلاقي بتأكيدها على أن من سلك درب الفضيلة لن يصيبه مكروه حتى ولو تم إيقاعه في فخاخ الظلمة.
ثم إن هذه الرؤية الأخلاقية المتحكمة في مفاصل الرواية تؤكدها مسألة التعفف الظاهر على مستوى تجنب الفحش في الكلام، كما في السجن، والابتعاد عن وصف الاعتداءات الجسدية وبخاصة الجنسية التي تشهدها هذه الأمكنة، وتركت للقارئ فرصة تخيلها بنفسه نائية بنفسها عن الخوض في مثل هذه الأمور.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1_ قراءة في رواية ( على ذمة التحقيق) د. امحمد امحور
2 و3_ قراءات على ذمة التحقيق.. قراءة في رواية (على ذمة التحقيق)
د. محمد دخيسي أبو أسامة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى