أدب السجون بولص آدم - حمامة أبو غريب ( أدب السجون العراقي)

فارع القامة، ذراعان طويلتان، هادئ، عاش هنا أعواما طويلة محكوماً بعشرات السنين، في زحمة نهارات المواجهات، كان حريصاً على ارتداء معطف ابيض طويل ويضع وردة حمراء في جيب صغير على صدره، يُشابك كفيه خلف ظهره، يذرع الساحة الرصاصية جيئة وذهاباً، ذلك يعني، أن لاأحد يأتي لزيارته، يتبختر هناك لكأنه يمشي على السحاب.
انتهت المواجهة وغادر الجميع، تَمَّ التعداد وكل شئ على مايُرام.
سجانٌ جديد، كسَرَ قاعدة تخصُّ محمود الذهبي، واختاره من ضمن مجموعة من المساجين لتنظيف الساحة، اي أنه فرض عليه واجباً لايجرؤ عليه السجّانين القدماء تحاشياً لشراسة تفلت من عقالها ويتحول محمود الى مقاتل شَرِس لن يتوقف حتى تسيل الدماء!
لم يكن أحد ما في السجن أكثر منهُ براعة في حياكة ( الگيوات ) حتى أن الزوج المُنتج على يديه كهدية في عيد ميلاد القاتل وميض، أصبحت مضرب مثَل فيما تَحتذيه الأقدام في التصميم والأتقان، وهذا أفلتَ من أعدام بعفو غامض وخٌفِّفَ حكمه الى مؤبَد، بعد خطف عشيقته وأُمها وقتلهما على الطريق العام..
في أحدِ نهارات الربيع المُشمسة، وقفتُ بجانب فتحة، يُمكن من خلالها رؤية فناء بين ردهتين، ثمة حمامة تناوب الهبوط والصعود من شَق في سقف الردهة والعشب الجاف على الأرض، تجمعُ عيدان العش الجديد..
فجأةً، سمِعتُ صوتَ محمود:
ــ مَرحَبا!
إستَدرتُ نحوه، وفكَّرت، ماذا يُريد؟ لم نتكلم ابداً قبل هذه اللحظة، اللعنة،
وجَّهتُ سؤالي اليه.. نعم، خَير، ماذا تُري…. قاطعني:
ــ سَمعتُ بأنكَ تَكتُب للمساجينَ في دفاتر قصصهم.
ــ هذا صحيح ولكن ليسَ للِكُل، هي مسألة مزاج.
ــ يا أبو الشباب، قصتي قصة وأتحدى أي سجين لهُ بطولاتي!
ــ أنا لا أكتب لأحد بطولات، أكتبها بنفسك.
ــ ياأبو الشباب، دفتري حاضر، تكتب أم تأتيك كفخة؟
ــ بشَرَفكَ، هل يُجازى المعروف بكَفخة؟
أنسحب على مهل وأبتَعَد..
أعتقدتُ بأن كُلَّ شئ انتهى بسلام، أنصرفتُ بدوري عن مشهد الحمامة وصناعة العش الشَقّي وعدت الى مكاني في الزنزانة، كان سامي قد أعد شاي العصرية وقدم لي إستكاناً منه، تلقفتُ صحيفة الجمهورية مقلباً الصفحات الكبيرة وتوقفتُ أقرأ خبراً صغيراً حول تبرع العراق بكمية كبيرة من التمور الى منكوبي زلزال ييريفان في أرمينيا، أرتشفت شاي الأستكان، وحاولت التقاط سيجارة، لكن العلبة كانت فارغة، مَدَّ عبود المطيرجي، سيجارة وقال:
ــ هذه سيجارة سومرية أُم السن الطويل للأُستاذ!
اعتاد شبه الُأمي هذا، الذي كانَ يحلمُ بأن يُعقد سوق الغزل في بغداد كُلَّ يوم وليس في الجُمَع فقط، أن يتأبط كتاباً عن الحمام بالأنكليزية، يترجاني قراءة شروحات تحت صور الحمام الملونة، وكان يكتب بخط طفولي في حواشي الكتاب كُل ما أٍترجمُه له، حتى تلك التي لم أكُن افهمها شخصياً وأُملي عليه مِن بُناة أفكاري!
أقبل واحد من خَدَم محمود الذهبي نحونا ( يتلقون حبوب الماغادون لقاء تحضير طعام وتدليك وتقليم أظافر سيِّدهم!) قال بصوت أُنثوي ناعم:
ــ عمي محمود يسلم عليك ياأبو الشباب ويسأل، متى تَكتُب قصتُه؟!
أها.. أصبحتُ أبو الشباب للجماعة وذلك مبعث قرف لي، لم أُجب وأنتظَرتُ أن يَرحَل. عُدتُ ثانية الى عبود وكتاب الحمام، وتحول هذا أيضاً الى تمني قُربَ جواب أستئنافه من المحكمة، فقد أُلبِسَ تُهمة هو برئٌ منها، فبينما كان يبيع الحمام ظهيرة جُمعة في سوق الغزل، ألقى أحد المارة برُزمة منشورات مُناوِئة للسلطة في كارتونة فارغة الى جانبه، يبدو أنَّهُ أراد التخلُّصَ منها وهَرَب..
عبأ صديقي سامي أستكان الشاي ثانيةً وهو يقول:
ــ هذا المُراسل مازال ينتظر، أُكتُب للبطل أي شئ، شَخبُط له أي شخابيط
وليفضوها سيرة، لم أعُد أحتمل وقوفه الى جانبنا!
أبلغتُه أن يقول لسيّده بأننا سنكتُب غدا بعد انتهاء المواجهة.
أدبَرَ خادم سيده، ولاحظت النسر الموشوم الذي يغطي ظهره.. وهكذا تفرَّغتُ لعبود وموضوع مساعدة الحمام المنزلي في صناعة عشه..
بعد حوالي الربع ساعة عاد المراسلُ ثانية:
عمي محمود يُسَلم عليك يا… ويقول أنه يحتفظ بصفحتين عن بطولته(جريمتُه) من أحدى المجلات، فهل يَلزَمُكَ ذلك؟
ــ نعم، غدا بعد المواجهة قُلتُ لك.
عادَ ثانيةً وتَنَفستُ الصعداء، وشَرحتُ لعبود المطيرجي وفق ما ينصَحُ بهِ الكتاب عن، عدم نثر العشب الجاف والعيدان والريش على الأرض، بل وضع ذلك في صندوق، سيلتقط بمنقاره الحمام مايلزمُه في صناعة العش، تفادياً للتلويث بالذرق..
عاد المُراسلُ ثانية ووقف في نفس مكانه الأول وقال على عجَل:
ــ عَمي محمود لَم يَقتُل حارس سوق الصياغ في الموصل، بل واحد آخر من العصابة، عمي محمود ضَرَبَ الصائغ بالشاكوش على رأسه فقط!
عادَ مُسرعاً كما أتى وسطَ ذهولي الذي قطعه عبود بتعليق:
ــ ياملاعين الأنكليز، حتى في ذرق الحمام يَتَدَخلون؟
سمعت شخيرَ سامي الذي غطى نَفسهُ ببطانية الجيش الخضراء المُقلَّمة بالأبيَض ولم يُعد يظهر منهُ أي شئ..
ــ عمي محمود يُسَلّم عليك ياأبو الشباب ويقول بأن العفو العام آتٍ آت وسيخرُجُ مَرفوعَ الرأس عائداً الى سبائك الذَّهب المدفونة في الموصل وسيبني قصراً في حَي الكَرامة ويعيشُ عيشة ملوووووك.
وهكذا دواليك، بين الرواح والمجئ وقراءة كتاب الحمام، تعرَّفتُ على كامل القصة البطولية، وسأبعثُ دفتر البطولة غدا الى محمود الذهبي، دون أن أُزعجَ نفسي برائحة رَوث البغال التي تنبعث منه…
… هاهو الآن يتقدَّمُ المجموعة المُختارة للتنظيف بعد انقضاء فترة المواجهة، السجانُ الجديد يقودُهُم، خرجنا جميعاً بفضول كبير، محمود سيُنَضِّف الساحة وذلك لن يَمُرَّ بسلام، إستدار نحو السجان في مُنتصف الساحة، أخرَجَ نِصفَ موس حلاقة من تحت لسانه وبدأ تشخيط صدره وبطنه وسالَ دَمُه.. تَرَكتُ المَشهَدَ كما هو عليه وأتجهتُ الى الفتحة التي يُرى منها ذَكَرُ الحمام، مٍستَغرِقاً في صُنعِ عشّه.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة من موقع الناقد العراقي :
بالرغم من أنُ وطننا صار في مراحل كثيرة من تاريخه سجناً كبيراً، وبالرغم من أن الكثير من المبدعين العراقيين قد تعرّضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب، إلا أنّ ما كُتب عن أدب السجون العراقي كان قليلا جدا بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات. وقد يكفينا القول إنّ دورة معرض القاهرة الدولي 48 للكتاب لعام 2017 شهدت 30 رواية من أدب السجون لم يكن بينها رواية عراقية واحدة في هذا المجال. التفاتة الأديب الأستاذ “بولص آدم” في هذه السلسلة من القصص القصيرة من أدب السجون العراقي المطبوعة بحرارة التجربة الذاتية هي التفاتة مهمة تسد نقصا كبيرا في المكتبة السرديّة العراقية في هذا المجال.. فتحية له.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى