عبدالله البقالي - ورزاغ أو روائح المعاني..

قبل حوالي ستين سنة تقريبا، اخترقت لأول مرة الطريق الغربية للقرية ذات الغطاء الغابوي الكثيف في اتجاه الورزاغ. في شكل هروب رفقة صديق استطعت إقناعه بخوض المغامرة. و لم يكن صديقي سوى ابن جارتنا ( الياقوت) التي كانت قد ذهبت رفقة أمي إلى لمة سيدي امحمد بلحسن. و هما معا كانتا قد أخلفتا وعدهما لنا بمرافقتهما في تلك الزيارة.
وصلنا الورزاغ لحظة الغروب. و لم نكن نسير وفق اتجاه محدد. و بالصدفة وجدنا أنفسنا بباب مقر القيادة. و ظهر أن سلطات غفساي كانت قد وزعت بلاغا مرفقا بأوصافنا عن اختفائنا. لذلك بمجرد رؤيتنا سألنا موظف يدعى ( الدوص):
- أيكما ابن الحاج الحبيب؟
قلت:
- أنا.
عقب:
- آجي ندخل باباك للحبس.
المخزني العجوز الذي طاردنا لم يتمكن في النهاية سوى من مرافقي. بينما تمكنت من أن أتيه من جديد. غير ان للصدف ترتيبات تعلو عن أي منطق أحيانا. ذلك أني وجدت نفسي وجها لوجه أمام أخي الفضيل الذي كان عائدا من اللمة رفقة صديقه عبدالحق فارس وهما يركبان بغلة بيضاء. و كان تقديره بعقاب لي عن هذه المغامرة، أن اعود رفقتهما إلى غفساي. لكن سيرا على الأقدام كما جئت.
بالرغم من هذا المرور السريع، و في تلك الظروف ذات النهاية المحبطة، فقد ظلت الورزاغ تشكل في ذهني انطباعا و صورا أشبه بالبطائق البريدية. فهي شأنها شأن بعض أحياء الفرنسيين في غفساي أيام الحقبة الاستعمارية. معمار كولنيالي انيق و متسم بالفخامة. و الدور محفوفة بحدائق ذات أسوار لم يكن القصد منها إبعاد الحيوانات أو منع الناس من التسلل إلى الداخل؛ بل هي أقيمت كتكميل لترتيب هندسي بديع. ناهيك عما تحويه الحدائق من شتى أنواع الورود و الزهور ، و التي تجعلها تضاهي المشاهد التي سنراها لاحقا في الأفلام الهندية الرومانسية.
لكن كل هذا سرعان ما سيصبح باهتا و سيتلاشى بريقه نتيجة الأخبار التي صارت تتوارد من الورزاغ. و كل ذلك بسبب رجل سلطة متسلط. قائد يدعى " الجيلالي" وهو ما احال الناس على اسماء قياد في الفترة الاستعمارية. و لذلك احتار الناس في تحديد وجهة الزمن. القايد الجيلالي لاح طيفه كمزيج من الانس و الجن يتحكم في الماء و الهواء و كل من يدب على وجه الارض. مما دفع للاعتقاد بان كل مار في الورزاغ هو مشروع سجين لسبب لا يمكن ان تجد له تفسيرا الا داخل منطق مزاج القايد الحيلالي.
من بعيد صارت الحواس الباطنية تلتقط روائح حريق. حريق قد يكون لوهم أو حلم أو تطلع راود مخيلة الناس من أزمنة الكفاح. ليفاجأوا بهذا الكابوس المرعب.
أحاديث الكبار كانت تفيد ذلك. و حتى جلسات للنسوة في الدكانات كانت تتناقل غرائب اطوار هذا القائد و قراراته التي تفيد أنه تاجر من زمن العبيد.
"الشاف" الجرموني أو قائد مخفر الدرك في الورزاغ سيضيف الكثير لهذا المشهد. فإن كان القايد الجيلالي يتحرك في مجال محسوب، فإن رجال الدرك يستطيعون الوصول إلى أي مكان يرغبون في الوصول إليه. بشكل استعراضي يسخرون فيه كل شئ. من النظرات المرعبة إلى الوجوه العابسة. فإلى تلك الحركات التي يستعرضون فيها خفتهم و قوتهم و سرعتهم في التقاط أشخاص و شحنهم داخل سيارتهم بعد تصفيدهم. و كانوا أحيانا حين يعودون من مكان بعيد مرفوقين بمعتقل، يتعمدون التوقف في مركز القرية و يبتعدون عن السيارة ليقترب الناس منها و يحالون التعرف على هوية المعتقل و قراءة ملامحه. و من ثم يتخيلون الحفل الذي سيقام على شرفه. الحفل الذي تحضر فيه كل أنواع التعذيب بما في ذلك استعمال الكهرباء. وهو ما كان يدفع للاعتقاد أن جلسات الاستنطاق كانت تفوق بكثير نوع الحكم الذي سيصدر كعقاب على تلك الجنحة المقترفة.
كان الأمر رهيبا. و يدعو للتساؤل حول ما ان كان ما يحدث هو مجرد اجتهاد لرجال السلطة و يعبر عن تعطش لممارستها، أم كان ذلك ترجمة لتوجيهات مركزية. فلا شئ كان يبرر ما كان يحدث من بشاعة. فالمنطقة كانت آمنة و تتمركز فيها وحدة كاملة من المخزن العاشر المتنقل في وضع متقدم بغفساي. و قبل ذلك كان الناس قد وضعوا السلاح بعد انتهاء حرب التحرير. و ايضا كان قياد الاستعمار قد بذلوا كل ما لديهم من امكانيات لنسج واقع مثلما كانوا يريدونه. و بالرغم مت ذلك بدا أن هناك من لم يستطع أن ينسى أن تلك الأرض رفرفت في سمائها ذات يوم أعلام جمهورية الريف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى