بوزيان موساوي - بنيات النص الشعري و علائقها الضمنية بالدلائلية من خلال ديوان " نار حطبها ثلج".

تمهيد:
"نار حطبها ثلج". هو عنوان الديوان.. الذي صدر عن "خيال للنشر و الترجمة" / الجزائر، الطبعة الثانية سنة 2019 لمؤلفته الشاعرة التونسية سماح بني داود.. هو مجموعة مكونة من 73 نص أدبي (102 صفحة).. يمكن وضعها في خانة الشعر الحر.
على امتداد قراءتنا للديوان عموديا و أفقيا، نزولا و صعودا، استوقفتنا ـ من بين المحطات الرئيسة التي توقفنا عندها ـ بنى النصوص و علائقها بالدلائلية/ العلاماتية... لذا اخترنا كعنوان لمقاربتنا للديوان في هذه الورقة النقدية:
بنيات النص الشعري و علائقها الضمنية بالدلائلية La sémiologie من خلال ديوان "نار حطبها ثلج".
غالبا ما تتم مقاربة كهذه من وجهة نظر سيميائية / سيميولوجية (دلائلية/ علاماتية) تنهل من المرجعية البنيوية / الشكلانية (من رولان بارت، و تزيفان تودوروف على وجه الخصوص)، و لا تعير اهتماما ـ كما في منهجيات القراءات المنتسبة للنقد القديم ـ للمعطيات البيوغرافية المتعلقة بحياة الشاعر(ة) ، و بيئته(ها) ، و زمن الكتابة، و الظرفية التاريخية / الجغرافية التي أفرزت العمل الابداعي، الشعري منه كما في سياقنا بالخصوص... لكن، و نحن ننتقل في قراءتنا للديوان من نص شعري لآخر، فرضت علينا بنى النصوص، و حضور الألوان بقوة، و طغيان الصور (اللوحات) التشكيلية، أن نتقصى حول الاهتمامات الابداعية الأخرى للشاعرة بني داود... و بعد أن علمنا أن الشاعرة فنانة تشكيلية موهوبة، اتضحت لدينا المسافة التبئيرية بين الرسم بالريشة و بالقلم، أي كيف تتشكل العلامات في ديوان "نار حطبها ثلج" من وجهة نظر سيميولوجية / دلائلية على شكل نصوص شعرية بمثابة لوحات تشكيلية غنية دلاليا، و تستدعي آليات " الهرمينوطيقا" كعلم يهتم بتعدد القراءات و التأويلات...
و لنقترب أكثر من الأبعاد الدلالية للعلامات عبر تمظهراتها من خلال النصوص الشعرية كلوحات تشكيلية فنية، استدعينا في قراءتنا للديوان تجليات ثلاثة أزمنة:
1 ـ الرسم بالحرف و علامات إعادة تشكيل الماضي:
هو زمن استحضار الترسبات و التجارب الشخصية و المخزون النفسي و الثفافي المؤسس ل " ذات الشاعرة" (افتراضا و حقيقة).. و منه:
أ ـ هذا الرثاء على إيقاع العتاب:
نقرأ:
"أبي
علمتني الرسم يا أبتي
وما علمتني أن
للحياة لونين فقط
ابيض وأنا معك
واسود حين الفراق
علمتني
الألوان والخطوط
وفاتك أن تزرع
بخارطتي
خطوط الحظ السعيد
تعلمت عنك حمل الفرشاة
ومنك عرفت أن الأرض كرة
تتقاذفها شياطين اللذات
شبح يتلذذ بطعم دمعي.. (ص. 70)
بداية نقرأ ما يشبه مقتطف من السيرة الذاتية للشاعرة، أنها تعلمت الرسم على أيدي أبيها.. ثم تمّ الوعي بالذات بعد وفاته بإدارك الواقع الأليم من خلال مفارقات عدة من بينها دلالات الألوان ("للحياة لونين فقط .. أبيض و أنا معك.. و أسود حين الفراق")، و الخطوط كعلامات ("خطوط الخرائط... و خطوط الحظ السعيد")، و سيمياء الفرشاة لرسم الكون ("عرفت أن الأرض كرة")، و هو عالم الغواية ("تتقاذفها شياطين اللذات")، و مصدر الألم ("شبح يتلذذ بطعم دمي")..
هي الصدمة/ الأزمة كما تم التعبير عنها في علم النفس التحليلي عند فرويد و الأغيار.. صدمة الولادة، و الفطام، و نمو هرمونات الجسم، و الحيض، و فراق الأهل، و اكتشاف الطفل أنه ليس مركز الكون... إلخ.. و صدمة الشاعرة أكبر و أفدح لما اكتشفت المفارقة القاسية أن العالم لا يدور في حقيقة كنهه و واقعه المعيش كما علمها أبوها.. ليس كما تصوره الماضي..
ب ـ و هذه اللوحة اللوحة السريالية الغنية بسيمياء الألوان:
نقرأ:
"مقايضة
بائع قبل
مر بي
وأنا أشم ورد
البنفسج
أخذها مني مقايضة
هممت رفضا حتى نظرت
إلى ورد أمام ثلج
وريح ياسمين عطر
دنا مني دون مقدمة
لتذوق الشهد
من جب نحلة
والتحم ورده بكرزي
فأنجبنا نبيذ عنب
خمرا معتقة تسكر..." (ص. 42 )
و كأننا نسترسل في ذاك الماضي بزمن أفعال ترسم لوحة إيروسية جميلة بعنوان الشغف تفقد فيها الورود بألوانها و عطورها معانيها و وظائفها المألوفة العادية : فمن من "البنفسج" عطرها هي "وأنا أشم ورد البنفسج")، و من "الياسمين" عطره هو "بائع قُبل" ("و ريح ياسمين عطر").. مجاز يسترسل في أبهى حلل الورود و طيبها لتتحول ال "هي" في ملكوت الشغف إلى "جب نحلة" شهدها من "الكرز"، والقبلة "التحام ورد"... فتلج اللوحة عالم التجليات "العجائبية" لما تكون لهذا الالتحام نتيجة وحده عالم الشعر الغرائبي يعرفها و يصنعها: "أنجبنا نبيذ عنب... خمرا معتقة تسكر").
2ـ الرسم بالحرف و علامات تشكّل/ تشكيل الحاضر و المستقبل:
الزمن الحاضر هو حاضر التلفظ / الكتابة / التشكيل.. و هو زمن تعبّر فيه نفسية الشاعرة، تفاعلا و انفعالا، عن مكنوناتها، إما شعوريا بالواقع المعيش فعلا (بالحواس الظاهرة)، أو لا شعوريا بعالم موازي متخيل قد يكون الملاذ (بالحواس الباطنة).. و هو صانع المستقبل، إذ تبحث فيه الشاعرة ـ بما يشبه التصريح المجازي ـ عن تحقيق الأحلام و التطلعات، أو إيصال الرسائل المشفرة المرغوب فيها...
نقرا:
"رذاذ الورد
نحتاج كلمة تصنع لنا أجنحة
نحتاج حرفا
لنحلق لنطير عاليا فوق السحاب
..نغرف رحيق الحكايات..
عطر الروايات
قصيد جميل وأمنيات ...
نحتاج أغنية ولحنا ووترا وكلمات
رذاذ مطر على جذور الورد
قطرات قطرات
زهرا تجرد من البتلات
وراح يرقص هنا وهناك
نحتاج قبلة. .. واشتياقا. .
نحتاج حبا بلا أكاذيب ولا زلات
نحتاج أملا" (ص. 90 )
الحاضر كله انتظارات، لأجل مستقبل مجهول، و اللازمة على طول هذا النص الشعري "نحتاج"
ـ نحتاج للكتابة و للقراءة ("نغرف رحيق الحكايات"... "عطر الروايات"... "قصيد جميل و أمنيات")..
ـ نحتاج أغنية ("نحتاج أغنية و لحنا و وترا و كلمات")...
ـ نحتاج مطرا ("رذاذ مطر على جذور الورد.. قطرات قطرات")...
ـ نحتاج حبا ("نحتاج حبا بلا أكاذيب و لا زلات")...
ـ "نحتاج أملا"...
قد يبدو أن انتظارات الشاعرة سماح بني داود من خلال هذا النص الشعري بسيطة، و أنها أبعد بكثير عن أماني المواطن الكادح العادي..، لكن
ـ "الحرف" علامة، ففي البدء كانت الكلمة، و منها الخلق العظيم، و بفضلها تعلم آدم في سفر التكوين "الأسماء كلها"..
ـ و "الأغنية" علامة، لأن الحياة يلزمها إيقاع ("لحنا و وترا و كلمات") و وسائل تعبير عن الطقوس المعيشية للانسان، و نشاطاته الحيوية، و انفعالاته الوجدانية، و ميولاته الفكرية و العقائدية...
ـ و "المطر" علامة، بل علامات، هو رمز الخصوبة، و الحياة ("وجعلنا من الماء كل شيء حي")، و نتمناه على قدر المنفعة ("قطرات قطرات")...
ـ "الحب" علامة.. نحتاجه.. بمعنى أنه غائب.. أصبح مجرد مثاليات في عالم براغماتي/ نفعي و مادي لا يؤمن بالمثل الانسانية المثلى.. في عالم آنيّ و أنانيّ يغيّب الإنسان.. نحتاج للحب حتى نتمكن من "أنسنة" الإنسان فينا..
ـ و "الأمل" علامة.. و به نعيش و لأجله، فبه تقول الشاعرة " أنزلق"، "أنكسر"، أتشكل"، "أرتجل"، "أتلعثم"، "أتبعثر"... و صورته الشاعرة سماح بني داود مرادفا للتّيه يعكس حالة نفسية رمزت لها ب "الخذروف" إذ كتبت:
نقرأ:
"كخذروف يتوه
يا أيها
يا لغة التوت والعنب
هكذا ألقيت بي
كخذروف يتوه
بين الأعلى
والأسفل...
وحدها نظراتك
تجعلني انزلق
انكسر،
أتشكل مجددا قبلة لا تصل
وأرتجل
أتلعثم
أتبعثر" (ص. 48).
و ختام القول و ليس نهايته، لأن لي عودة للديوان، تعود بنا فكرة "أتشكل مجددا" إلى أسطورة "العنقاء" عند العرب، و "الفينيق" عند الإغريق، و منها إلى عنوان الديوان "نار حطبها ثلج".. مع اختلاف في المادة التي "نبعث" منها.. إذا كان "الفينيق" أو "العنقاء" بعثا من "رماد"، فالبعث من جديد في هذا الديوان يتم من "جليد"، الشيء الذي يحيلنا ربما إلى الأسطورة (أو الأطروحة العلمية (؟)) المعروفة ب "السبات" (Hibernation)، أي النوم لسنين أو حتى لقرون في الجليد، و العودة للحياة مجددا.. الأمر الذي يفسر به البعض معجزة "أهل الكهف" المذكورة في القرآن... و هي مقاربة ممكنة لقراءة نقدية تطبيقية تعتمد العنوان ك "عتبة نص" باعتبارها مفتاحا لفهم الديوان... و الموئل الذي ربما استمدت منه الشاعرة سماح بني داود رؤيتها في شموليتها تشييدا لفضائها التدويني..


بوزيان موساوي - وجدة/ المغرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى