أحمد الحقيل - الأشياء لا تبقى كما تركتها

حدث هذا حينما كنت صحفيا وكنت أريد أن أكون مثل نورمان مَـيْلر.

ركنت السيارة في مكان ما في حارة الملك فهد بالرياض، لن أقول أين بالضبط لئلا يعرف أحدٌ مكان المنزل. العصر في منتصفه، ولذا الشمس أخذت بالميلان وبدأ شعاعها يسيح على واجهات المباني وعلى أشجار الكافور. كان هنالك كافور كثير في تلك الحارة، ولا حركة تقريبا. كان اليوم جمعة ولابد أن الناس تستهلك إجازتها بالاسترخاء أو الخروج. ركنتُ سيارتي وأخذت أطالع في البيت. واجهته بيضاء، متوسط الحجم، لاتزود مساحته عن 450 مترا. جديد نسبيا، ربما مرت عليه أربع سنوات وفيها. جلست أنتظر. أحدق في امتداد الشارع المحوّط بالكافور الكبير الأخضر والشمس المشعة الصافية فوق البيوت والأسفلت. مر شيخ كبير على قدميه واختفى وسط زقاق جانبي. خرج من إحدى اللفات أطفال على سياكل وساروا سريعا حتى نهاية الشارع نحو طريق العليا. وبعد ربع ساعة جاء الرجل. نزلت وسلمت عليه. تحدثنا وابتسمنا بتورط، لا أحد يفهم فعلا ما يجب فعله الآن، ما يحدث كان غريبا، حتى بالنسبة لي. مد المفتاح أخيرا وقال: تفضل. ترددت قليلا وأنا أرى المفتاح في يده الممدودة، سألته: منتب داخل معي؟ حدق فيني وكأنه كان يخشى هذا السؤال وهز كتفيه ثم قال: ما له داعي أدخل وش أسوي. ثم أكمل وهو يحك جبينه بالمفتاح ويتلفت: أنا عموما بروح أخلص لي شغل إلى أذان المغرب. ثم سأل: تكفيك؟ فقلت إيه أكيد وأخذت المفتاح. راقبته يركب سيارته ويسير على أثر الأطفال بين أشجار الكافور ويخرج إلى طريق العليا. كنت قد حادثته قبل أيام حينما بدأ يهدأ أكثر، ولكنني رغم ذلك لم أتوقع أنه كان سيوافق. قال لي: اليوم آخر فرصة عقب كذا بيت أخوي بننفضه. فقلت له خلاص اليوم واتفقنا على هذا اللقاء.

فتحت الباب الحديدي الأسود المنحوت ببروز شجريّ أبيض. واجهةُ الحوش تمتد عدة أمتار نحو باب المدخل. على يميني باب الملحق المغلق، وعلى يساري مظلة السيارة الرمادية، وبيني وبين الباب بلاط محبحب بالسواد وعليه غشاء غبار طفيف يروح ويجيء مع الهواء. هنالك أصوات تأتي من الحارة، من عدة أمكنة، أصواتُ أطفال يلعبون ونساء يهتفن وتلفاز عال، تختلط مع أصوات السيارات البعيدة ثم تختفي في السكون، وأنا أقف هناك أمام باب المدخل وأفكر. فتحته أخيرا فانفرج عن عتمة يخالطها ضوء العصر الشتائي الذي يدخل من النوافذ المشرعة ستائرها بشكل جزئي. ضوء خافت يسيح على أسطح الأشياء، اللمعة الباهتة لنور غيميّ وحبريّ ثقيل، فيه عزلة الشتاء بدفئها أو وحشتها حسب الحالة التي تَشغلك. فيه انطباع الصباحات الباكرة التي تفتح فيها عينك والشمس تصعد للتو وأنت تحس أن المكان كله نوم، وأن هذا الضوء المختلط بالعتمة مجرد ومضةِ اليقظة الناعسة اللذيذة في عينك النائمة الظلالية وسط الدفئ والأغطية.

المكان كان يوحي بالنوم، ليس الموت، ولكن النوم.


——————–


خرجوا من عمارة الشقق المفروشة التي أمضوا فيها 7 أيام في الخبر. السيارة محملة بالشنط والأكياس. يجلس هو في الأمام بجانب زوجته، والأطفال في الخلف، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وابنان في التاسعة والسابعة. قالت الزوجة بعد ركوبهم بلحظات: كل واحد يربط حزامه. ففعل الجميع.

الوقت أول العصر، ولازالت كل المحلات في امتداد شارع السويكت والشوارع الجانبية مغلقة للصلاة. المسارات الإسفلتية الضيقة التي تحفها متاريس من المحلات واللوحات والألوان والأشكال.
طاولاتٌ على الأرصفة تبيع أشرطة فيديو وأقمشة واكسسوارات متعددة. يسير بينها ويحدق في كل شيء شاردا ويقول إن المكان يذكره بشوارع منفوحة قديما حينما عاش فيها وهو صغير. ولكن لا أحد يرد. العمالة يخرجون من بين شقوق اللفات الصغيرة، يتحركون في اتجاه المحلات. الحركة تدب في المكان الضيق مثل خلية نحل. الأبواب تُشرع والأصوات تعلو وزحام السيارات يرتفع، وشمس العصر الشتائي تهبط قوية على المكان.

توقفوا عند أحد المطاعم. نزلوا جميعا وسأل زوجته: منتيب نازلة. فقالت دون أن تلتفت: ما أشتهي لا تجيب لي شي. فزفر وأقفل الباب. دخلوا المطعم. العامل التركي الذي يجلس وراء الكاشير يتعرق رغم البرد، يجلس هناك سمينا ومبتسما وسعيدا. يقول للطفل الذي يبلغ من العمر تسع سنوات ويتطاول لينظر في المنيو الملصقة على الكاونتر: عندنا شاورما ديناصور، بدك شاورما ديناصور؟ ويبتسم الطفل بخوف وهو يختبئ خلف والده.

يطلبون سندوتشات شاورما ويراقبون العامل يقطعها بتركيز حاد. ساقٌ ضخم من الدجاج على سيخ حديدي، يلمع وهو يدور بطريقة أوتوماتيكية، والعامل يقطع صفا من الدجاج ثم يفرقه بسكينه على سطح الاستيل بصوت نغمي منوم، والجميع يراقب بصمت، ويشم الرائحة القوية التي تغلف المكان. الطفل الآخر الذي يبلغ من العمر تسع سنوات يقول لوالده فجأة وكأنه يستكمل حديثا دار للتو: يعني بتجيب رمل للبيت؟ فيقول الأب: وش رمله؟! فيرد: أنت قلت أمس بتجيبه للبيت في الحوش. فيقول الوالد وهو يعود لينشغل بمتابعة الدجاج: إيه أبشر. ويستطرد الطفل: ومسبح جنبه؟ فيرد الأب: أبشر. ويوضح الابن: وكراسي مثل اللي جبناها عند البحر؟ فيرد الأب: ما تبي نجيب البحر بعد؟ ثم يتفحص العامل من بعيد وينبهه: يا معلم زود المخلل بالله في شندوتشتين من اللي عندك.

خرجوا وبدؤوا بأكل السندوتشات في السيارة. تأففت الزوجة وفتحت النافذة باشمئزاز وهي تقول أستغفر الله ما لقيتوا غير الشاورما. ولكن لا أحد يرد، الكل يأكل وعصارة الدجاج تتفزر على أطراف الفم. يخترقون الشوارع الضيقة التي اكتظت بالناس والأشكال واللوحات والألوان والأصوات والأوجه والسيارات والطاولات والاكسسوارات ولمعان الشمس في الزجاج والإسفلت والملامح والثياب، ومنها إلى الطريق الرئيسي ثم إلى مخرج المدينة نحو العودة إلى الرياض.


——————–


سريرٌ كبير بقاعدة خشبية في رأس غرفة النوم، مُسنَدا بطاولتين جانبيتين صغيرتين، على إحداهما أباجورة صغيرة، وعلى الأخرى جريدة الرياض يعود تاريخها إلى ما قبل 25 يوما ومفتوحة على صفحة الاقتصاد. الغرفة صغيرة نسبيا ومغطاة بفرشة بيجية مكحوتةِ الشعر بفعل الزمن. النافذة الكبيرة إحدى ستارتيها مشرعةٌ بفرجة مواربة تُسقط شمسا خافتة على السرير المقابل لها واللحاف الذي عليه، قطنٌ شتائي سكريُّ اللون ومنفوخ النسج، مبعثـرٌ ولم يرتب ولازال فيه أثر اليقظة المتلكئة من النوم. بين ثنيات اللحاف السكري الذي تسطع فيه الشمس، هنالك قميص كتاني أحمر، مثل نقطة دم ساحت وتفرقت فوق القطن. ملمسه يوحي بأنه لازال جديدا، وأنه ربما لُبس عدة مرات فقط، ضيّقٌ وململم ويغطي جسد امرأة صغيرة الحجم والطول. رفعته إلى وجهي، فيه رائحة غريبة، ليست عطرا أو عرقا، ولكنها تبدو مألوفة جدا. خلفي سلسلة أبواب متلاصقة لدولاب من ثلاث دفات يغطي نصف جدار الغرفة، خشبيٌّ غامق اللون ومنقوشٌ على سطحه بروزٌ مشجّر. إحدى الدفات مفتوحة على مصراعيها. صفٌّ من الثياب الرجالية ذات اللون الواحد، أربع ثياب مكوية ومعلقة، ثلاث شمغ، غترتان، وفنائل وسراويل على الرفوف الجانبية. الدفة الأخرى تحتوي صفا من الثياب النسائية المتنوعة الألوان والأشكال، فساتين وتنانير وبلوزات مرتبة بطريقة عشوائية وملابس داخلية مرتبة فوق الرفوف. على الشوفنيرة أصبع روج مفتوح تبرز منه تدويرة الرأس الأحمر المبروم، وبجانبه الغطاء الأسود ملقى على جانبه. فرشاةُ شعرٍ وأدوات مكياج وشمع جروح وبندول وحبوب مايدول لتخفيف آلام الدورة كما تشير الروشتة ومجلة هي وشال أسود متكوم على نفسه ومرآة مستطيلة بحواف خشبية مزركشة. جلست على كرسي الشوفنيرة. المكان يطوقه صمت كلي لا خدش فيه، تستطيع سماع انعدام الصوت الذي يشبه الوشيش بوضوح. السرير والألحفة والقميص الأحمر وأصبع الروج والدولاب المفتوح بدفته الوسطى. آخر لحظةٍ قبل الخروج، حيث تهمَل الأشياء في مكانها وتترك بقناعةِ وانطباعِ أنه سيتم العودة إليها، كل شيء في المكان يوحي أنه مكان ستتم العودة إليه في أقرب فرصة. في المطبخ مثلا لازالت قوارير السكّر والشاي والبهارات والملح والكمون تستقر بجانب الفرن على السطح السيراميكي الذي يمتد إلى المجلى حيث هنالك أوعية وُضعت على المنشّف ولم يتم إعادتها إلى دروجها. في الرواق الطويل الذي يربط الصالة الفوقية بغرفة الأطفال هنالك كأس بلاستيكي مرمي وفي قعره بقية عصير أصفر. في دورة المياه لازالت لمبة الصخانة تومض حمراء والماء ينسكب من الصنبور دافئا ومعطر الجو الليموني لازال يعمل. فوق أريكة الصالة التحتية هنالك لحاف صوفي مكوم بعشوائية بجانب طاولة الطعام التي يستقر عليها جهازا لابتوب مشبوكان بتوصيلة الكهرباء المفصولة. أشياء كثيرة في المنزل توحي أنه في أي لحظة سيتم فتح الباب والعودة إليه مرة أخرى.


——————–


قبل منتصف الطريق، ودون أن يتفوه بحرف واحد، أبطأ السيارة ليسلك مدخل قرية “جودة”. أول من انتبه كان الطفل ذو السبع سنوات، قال وهو يلصق رأسه في الزجاج: وين بنروح؟ حدقت الزوجة في المدخل ثم زفرت وقالت: لحّول يبي يودينا لذيك الديرة. فضحك باستمتاع متذاكٍ وهو يسلك المدخل. الطفلان كانا متحمسين، الابنة والزوجة لم يكونا كذلك. قال وهو يخترق الطريق: شوفوا ديرة أبوكم اللي عاش فيها أول ست سنين من حياته. كان متعلقا في الدركسون، ويبتسم طوال الوقت وهو يسير في مدخل القرية، يبتسم باستمتاع يجعل زوجته تضحك مستخفة به وهي تقول قسم بالله انك سقيم. فيضحك بكل قوته وهو يفتح فمه ويصدر صوتا حادا متقطعا من أقصى حلقه. تقول له بحيرة: يعني أنا ودي أفهم وش تبي من انك تدخل هنا؟ فيرد: أنتم يا حقين الرياض ما لكم جذور. فتسأله: كم لك ما جيت هنا؟ يتأوه بافتعال: أووووه عشرين سنة، أكثر، أكثر، مريته مع أخوي مرة.

يسير في القرية التي تتكون من مساحات فارغة ومسطحات خضراء ومخططاتِ بيوت متفرقة وعشوائية تتوزع في أرجائها مصانعُ عتيقة ورثة لإنتاج الأعلاف والقمح. في الشوارع حركة ناعسة في منتصف العصر. أناس تتحرك ببرود القرى الرتيب، وفضولهم الذي يتعلق بكل شيء يمر من أمامهم. بيوتٌ حديثة وقديمة متجانبة تستقر أمامها سيارات حديثة وقديمة أيضا. شوارع ضيقة وواسعة على حوافها أشتاتُ محلات يلوح منها أناس يبعثرون الوقت ويبدون على قدر من السعادة أو التعاسة ليس واضحا. يسألونه أسئلة متفرقة، خصوصا الطفلان، ولكنه غالبا لا ينتبه لها ويكتفي بإجابات كسولة يقطعها انتباهُه الكلي للمكان والبيوت والشوارع والأناس والرثاثة التي تبدو مألوفة. لقد سأله أخوه قبل أشهر إن كان يذكر القرية التي عمل فيها والدهما معلما لعدة سنوات، وسأله لأنه رأى حلما من ذكرى قديمة جمعتهم وهم ذاهبون إلى جبل “إبهام جودة” الذي يقف خلف القرية مربعا مثل إبهام حرفياً. فيخبره أنه يذكرها بشكل طفيف، وأنه يذكر صورا ضبابية، مثل كرسي في زاوية كانت تجلس عليه أمهما التي توفيت قبل عامين، وتظل القرية تراوده بين حين وآخر ويظل ذالك الكرسي الصباحي يأتيه أحيانا وتحديدا حينما يأتي ذكر أمه.

سلك عدة شوارع واخترق مساحات خضراء وأخرى ترابية وجارى منازل ومر من خلال سيارات حتى وصل إلى مكان ما في القرية، أوقف السيارة وهو يحدق فيه متفحصا. سألته زوجته: وش بعد؟ فأشار وهو يبتسم: ناه، هذا بيتنا. فحدقت في المكان وقالت: هذا بقالة! فرد: عارف، هذا بيتنا. فتح الباب ولم ينصت لاعتراض زوجته، سار عدة خطوات في منتصف العصر نحو البقالة الكبيرة المحفورة في بيت قديم تم تحويل دوره الأرضي إلى محلات. دخلها ووقف يتفحص المكان المبلط ببلاط قديم والمضاء بضوء مريض والضيق بشكل كاتم للنفس واختار زاوية منه واتجه نحوها. كان في الزاوية ثلاجة كبيرة لشركة المراعي، حدق فيها مبتسما ثم ضحك بكل قوته. أخذ منها ثلاث قوارير لبن واشترى أيضا شوكلاتة وشبسات واتجه ليحاسب عند العامل الهندي وهو يلتفت إلى الزاوية ويبتسم. أخرج المال وهو يسأله: هذا كان بيت صح؟ فهز الهندي كتفيه لامباليا. فأخذ الباقي وهو يقول إلا هذي الصالة. ثم ضحك بنفس الطريقة.

خرج من البقالة وسلم على رجل صادفه فرد السلام باستغراب. ركب السيارة فقالت له زوجته ساخرة: خلاص؟ فابتسم ضاحكا وهو يمد الكيسة لها وللأطفال: خلاص خلاص، مشينا. شغّل السيارة فقالت له وهو يبتعد عن صالة بيتهم القديمة: اربط الحزام. بدا وكأنه يتلكأ وهو يحدق في البقالة في المرآة العاكسة وهي تراقبه، قبل أن يقوم بربطه أخيرا.


——————–


غرفة الطفلين عبارة عن نقطة ضخمة من الأشياء التي تدل إما على نية الرجوع، أو بالنقيض على نية عدم الرجوع، ليس واضحا. فهنالك أشياء كثيرة مبعثرة في كل مكان تقريبا، توحي إما بأشخاص هربوا إلى الأبد أو أشخاص في معرض اختراع سياق مهم لا يجب العبث بفوضويته، ليس واضحا، ليس قابلا للتصنيف. ألعابٌ من أشكال متعددة، سيارات صغيرة وكبيرة ومكعبات وأوراق أونو وأموال مونوبولي وأغراض غير محددة مثل أصبع خشبي منتزع حتما من شيء ما ومشابكُ وفرشاة شعر وألحفة ومناديل وثياب داخلية على الأسرة ودواليب مفتوحة عن مجزرة قماش في الداخل. من الصعب تحديد عنصر مركزي يجمع كل شيء ليعطي إيحاء ما، فكل شيء مبعثر مثل مسرح جريمة انتقام، زحامٌ من الصور وانعدام لأي نقطة مركزية. جلستُ مقرفصا وأنا أريد بشدة أن أدخن، بينما يتصاعد صداع طفيف في مقدمة رأسي. الشمس الباهتة تهبط على الأشياء والألعاب والبقايا المهملة المتروكة أو الموضوعة بعناية ضمن سياق فوضوي، لازال الأمر ليس واضحا، وأحاول تصور لحظة ما قبل الرحيل، من الصعب اختزالها بسبب كثرة الصور، وهو ما يجعلها مثيرة للاهتمام. غرفة البنت كانت على عكس ذلك، على عكس البيت كله. لم يكن فيها شيء واحد متروك أو موضوع في مكان يوحي بنية الرجوع. سريرٌ مرتب جدا بطريقة شبه هندسية فوق فرشة بيجية نظيفة تغشّي الضوء. دفات دالوب مغلقة عن ثياب معلقة ومرتبة وفق الأحجام في بعضها والألوان في البعض الآخر. طاولة خشبية صغيرة وفارغةُ السطح تماما من أي شيء، فوقها مرآة مثبتة في الجدار بحواف مؤطرة بقلم أو روج أحمر، وفي دروجها أغراض مجمعة مع بعضها، أدوات تجميل وكتابان وسدادات قطنية نسائية وفارة كمبيوتر جديدة لم تفك. نبتة ميتة على حافة النافذة. أباجورة خربانة فيما يبدو فوق الدولاب.


——————–


يتجاوزون الكثير من المسطحات الخضراء والرمال الزاحفة والجِمال المتفرقة والمحطات التي تومض مثل قرى معزولة والمباني الغريبة لمعامل توليد أو غرف رعيٍ مهجورة. امتدادُ خط إسفلتي يختفي في مرأى البصر ويبدو في بعض الهضاب وكأنه يرتفع نحو السماء، إلى حيث بدأت الشمس في الانحدار، محوّطا بتلك المظاهر الغريبة الطارئة من تراب وصخر وحيوان.

يفك الطفل ذو السنوات التسع حزام الأمان ويسحب جسده ليجلس بين المرتبتين الأماميتين، ويحدق قدّامه في ذلك الخط الإسفلتي متكئا على مرتبة والدته. يحدق في الشمس تسقط فوق الإسفلت، ويرى الطريق من تحتها طويلا، ويسأل أمه متى سيصلون فلا ترد، ويلتفت متطاولا نحوها فيراها نائمة والجوال في يدها. ويسأل والده متى سيصلون فلا يرد، ويرى أنه يحدق أمامه ساهما بنصف إغماضة. ويشاركه التحديق برهة، ثم يعود ليرمي بجسده إلى الخلف، بين أخيه وأخته، الأول نائم، والثانية تلبس السماعات الموصولة بالجوال وتبدو نائمة أيضا. ويجلس هناك فوق حزام الأمان يحدق من بين المرتبتين في الشمس فوق خط الإسفلت، والصمت المطبق يخيّم على السيارة، ويترك كل المساحة لحفيف الهواء القوي الذي يضرب في الألمونيوم، صوتٌ مقعّر ومفخّم يشبه السقوط في هاوية عميقة جدا مثل هذا الطريق الممتد الطويل. ڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤ. يملؤ الأذن. ويشعر بالنعاس، ولكنه يقاوم، ويسحب جسده مرة أخرى إلى الفرجة بين المرتبتين، ويحدق في والده، لازال يطالع أمامه ساهما، ويرى في خده التماع خيط الشمس، ويرى خصلة من شعره منسدلة على امتداد صدغه، ويريد أن يسأله متى سيصلون، ولكن صوت الهواء يبدو قويا جدا ولا يترك مساحة لأي صوت آخر غيره، ڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤـڤ، ويكتفي بالصمت والتحديق في الخط الإسفلتي، والشمس الآن تلتصق به تقريبا، ويطالع السيارات المشابهة التي تمر مجاورة لهم بصمت، صناديقُ مسرعة تبرز منها هامات رؤوس غامضة بلا أجساد، ويعود ليلقي بجسده في المرتبة الخلفية، فوق حزامه، وينام.


——————–


جلستُ على كنب الصالة الفوقية. آخر العصر يتسلل من النافذة الكبيرة بنفس الضوء الظلالي الخافت الذي يوحي بغيم ومطر يوشك أن يحدث. المكان لازال يذكّر بيقظة الصباحات الباكرة الشتائية. جلست هناك أحدق حولي. الكنبُ السكري المدور والتلفازُ الكبير الذي لازال زر إطفائه الأحمر يومض على الحافة ورسيفرُ الجزيرة الرياضية المتروك على القناة السادسة كما تضيء شاشته والطاولةُ البيضاء الأنيقة والفرشةُ السوداء المزركشة ودولابُ الزجاج الطويل برفوفه المليئة بالأغراض والأدوات والأكياسِ والشجيرةُ الفارعة الواقفها في أصيصها عند الزاوية وكرتونُ الكوكيز المتروك على الطاولة الجانبية والمستلزماتُ البيتية المتفرقة فوق أسطح المكان. حينما أطفؤوا النار التي علقت في السيارة، كانوا جميعا باستثناء أحد الأطفال جالسين في أمكنتهم، وكأنهم جلسوا هناك باختيارهم واحترقوا. الطفل ذو السنوات التسع كان مرميا بين المرتبتين الأماميتين ووجهه ملتصق بطبلون المسجل، عدا ذلك، كل واحد منهم في مكانه. كانوا مثل فحم، تستطيع رؤية العظام المحترقة الى داخل النخاع. فحمٌ ملتصق بأسياخ المراتب المتمزقة. لم أرَ الحادث، كل ما شاهدته هو عثورة غبار كبير من مسافة عدة كيلومترات. حينما توقفت كان هنالك اثنان قبلي، يقفان أمام السيارة المحترقة بعجز وأحدهما ممسك برأسه، التفت نحوي حينما اقتربت وصرخ وكأنه يعرفني: شف شف! يحترقون! كنا نقف أمام السيارة، وليس باستطاعتنا فعل شيء. لا أصوات تصدر منها، ربما ماتوا من الانقلاب، ربما خنقهم الدخان، ربما قتلتهم النار سريعا. المهم أنه لم يكن هنالك صوت، وكنا نحن الثلاثة، نقف بذهول أمام حسيس النار ولهيبها الذي يتصاعد ومن ورائه السماء غائمة وصفراء. تش تش تش. تتردد بينما تخرج لسعاتٌ من أطراف النار وكأنها ألسنة ثعابين تصعد ثم تنطفئ، ونحن نقف أمام السيارة.

بعد دقائق رنّ هاتف البيت. كانت رنته مثل الهواتف القديمة، أشبه بجرس، ولذا اخترق الصمتَ والسكونَ مثل سكين. تْرن تْرن تْرن. من الذي يتصل؟ لم يعد هنالك أحد في هذا البيت. فكرت أنه ربما شخص لم يعلم، ولكن هذا بدا غريبا، فالحادثة لها أسبوعان والجميع لابد أنه علم بها. ربما التزامٌ وظيفي وحينما لم يُجب على جواله جرب الموظف المتورط الذي كان يتصل عليه طوال اليوم خط البيت للمرة الأخيرة. أو طلب – مثل كيكة أو غرفة فندق أو طرد بريد – حجزه في هذا الموعد لمناسبة ما ولجأ من يوفّـرُه للخط الثابت أيضا حينما لم يجب على جواله. تْرن تْرن تْرن، مثل سكين. قررتُ بعدما انقطع الخط أنني سأرفع السماعة حينما يتصل مرة أخرى، ولكنه لم يتصل. جلست قليلا في الصالة، وأنا أسمع أثر الجرس في أذني، وأراقب المكان وهو يتغلّف بالعتمة المزرقّة أكثر، ثم خرجت أخيرا، وأنا لا أنوي الكتابة عن أي من هذا.

___
آخر تعديل: 23-01-2017 الساعة : 00:46

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى