حيدر العايب - سؤال النهضة القلق والدلالة

- " النّهضة" و" التقدم" في سياق التجربة الغربية: شكّلت أطروحة " التقدم" روح عصر النّهضة في كلا السياقين الغربي والعربي على حدٍّ سواء، وإن كان للأوّل السّبق الفلسفي لهذا الطرح خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع فلاسفة الأنوار، لينتقل بعدها إلى ساحة الفكر العربي مع الجيل الأوّل من المفكرين التقدّميين والاصلاحيين المحافظين خلال القرن العشرين. إذ وجدت روح التقدم ما يعضدها في الفكر الغربي خاصة على مستوى فلسفة التاريخ وفلسفة العلوم. يقول ( مالك بن نبي): " ففكرة (التقدم) [...] قامت بدور رئيسي في تاريخ القرن التاسع عشر، لأنّ إشعاعها في ثقافة أوربا كان مؤيدا بفكرتين أخريين عاصرتاها هما: النظرية الوضعية لــ ( أوجست كونت)، ونظرية التطور لــ ( داروين). وقد وصل هذا الإشعاع العالم الإسلامي في مستهل القرن العشرين، حين نشأت رابطة سياسية في تركيا باسم ( الاتحاد والترقي)، كما نشأت نواد أخرى في الجزائر فيما بين 1920-1930 باسم (نادي الترقي)".
ففكرة التقدم مارست ثقلها على مجمل نشاطات الفكر العربي على مستوى الكتابة الفلسفية أو جمعيات المجتمع المدني وحتى الخطاب السياسي، عندها لا نستغرب لماذا حملت رسالة الأمير )شكيب أرسلان( عنوانا استشكاليا يعكس هاجس التقدم ومحاولة تجاوز حالة التخلف "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" (1931).
غير أنّ فكرة النّهضة في السياق الغربي لها ايحاءاتها الفلسفية وسياقها التاريخي، ما يجعلها تختلف دلاليا واستشكاليا عن مثيلتها في سياق الفكر الإسلامي، لذلك نجدها واجهت في السياق الأخير عوائق على صعيد المفهوم والتطبيق، بله وتناقضات، وليس أدل على ذلك من ادعاء بعضهم التقدم بالرجوع إلى التراث.
إنّ المتتبع لفكر وتاريخ عصر النهضة بداية من القرن السادس عشر يلحظ حصول تقلبات ثلاثة قلبت الحياة الأوروبية جذريا، مهّدت تلك التحولات لوضع ثقافي بله ورؤية جديدة للعالم، أولاها: الاكتشافات البحرية والجغرافية خاصة من طرف البرتغال والإسبان والتي أدت إلى ازدهار الحياة الاقتصادية وظهور البورجوازية الأوروبية. وثانيها: تطور النزعة الإنسانية ( الهيومانيزم)، وثالثها الإصلاح الديني. والنتيجة لكل اكتشاف؛ أنّ الاكتشافات الجغرافية ولدت نزوعا استعماريا وكولنياليا للعقل الغربي. أمام هذا الغنى المادي والتطور الاقتصادي والكشوفات تتموضع النزعة الإنسية التي تعطي ثقة عالية للإنسان وتفاءل بقدراته، بخلاف العصور الوسطى التي كانت تزهد بالإنسان وأن تحققه المادي والأرضي لم يكن مرغوبا فيه، لذلك كان البعد عن الحياة الدينية أهم ما تتسم به هذه النزعة الإنسانية، وعلى العموم لم يتم تجاوز العصور الوسطى إلى عصر النهضة إلاّ بعد تحولات مادية على الواقع.
مثل هذه التّحولات الجذرية هي ما أعطى لفكرة التّقدم روحا مادية خاصة بتحويل الرؤية المسيحية إلى الزّمن والتاريخ من صّيغتهما الميثية والدّينية إلى رّؤية علمانية منزوعة القداسة. صحيح أنّ ( أوغسطين) كان صاحب رؤية تقدمية، لكن نحو " مدينة الله" التي تقبع خارج التاريخ، أما علمنة التقدم فتعد فكرة طارئة على تاريخ الفكر الغربي تزامنت تحول الرؤية إلى العالم من مركزية الإله إلى مركزية الإنسان بداية مع عصر النّهضة لتكتمل صورته في شكلها النهائي مع الحداثة. غير أنّ هذا التّحول استحال لمجرد وهم وسط اضطراب الإنسان الحديث وفق ما تكشف عنه لا معقولية بعض الأحداث المعاصرة -على نحو ما سيأتي تبيانه-.
غير أنّ هنالك طارئ جديد تفصح فيه علمنة التقدم عن ذروتها، يتعلق الأمر بنزوع العصور الحديثة وتعلقها بـ "الجديد"، صحيح أنّ الحداثة لا تعني الجدّة، لكن الجديد على نحو ما كشف الفيلسوف الإيطالي (جياني فاتيمو Gianteresio Vattimo) في مقاربته الفنية للحداثة يمارس حضوره في فكرة "تحديث الوجود"، يقول: "أعتقد من المناسب الإقرار بما يلي: تبدو لنا الصلة الخاصة بين مركزية الفن والحداثة أكثر وضوحا مما هي لدى (نيتشه) استنادا إلى مفهوم دقيق لم يتوصل (نيتشه) إلى جعله موضوع تفكر؛ ألا وهو مفهوم قيمة الجديد أو الجدة بوصفها قيمة". بهذا الاعتبار تكون الحداثة عند (فاتيمو) الحقبة التي تصير فيها حقيقة كون "الوجود حديثا" ذا قيمة، بل والقيمة الأساسية التي تحال إليها كل القيم. "تحديث الوجود" يرتبط بروح آخر للحداثة بمعنى" الحداثة كعملية علمنة وتزمين" (Sécularisation) فتتحدد بوصفها إيمانا بالتقدم (أو الإيمان بهما معا: إيمان معلمن وإيمان بالعلمنة)، فمع بلوغ النّهضة ذروتها باكتمال تجربتي الحداثة والأنوار لم يعد للتقدم ما يربطه بماضيه ولا حتى بمستقبله كما تصوره الرؤية الدّينية المسيحية، وإنّما استحال إلى حاضر وراهن.
لذلك كان من مظاهر علمنة التقدم؛ "الإيديولوجيات اللاّدينية للتقدم" التي نابت عن الإيمان بتاريخ الخلاص في التصور الديني، وانحلال التقدم في روتينية التقدم التكنو-علمي والصناعي، وحتى الفنون عبر الهوس بالجديد والموضة.
وبتحليل فيلولوجي علائقي لمصطلحات الحداثة والعلمنة والجديد، يبيِّن الفيلسوف الفرنسي (إدغار مورانEdgar Morin ) من أنّ مصطلح الحداثة المأخوذ من الكلمة اللاتينية Modernus والتي تعني "الشيء الطارئ قريب العهد"، له صلة بالعلمنة Sacularus والتي بدورها تعد مصطلحا يصيب في دلالته معاني؛ التزمن، اللحظة، الحين أو الآن، ليتعمق ارتباط الحداثة بالعلمنة اسما واصطلاحا عبر تنصيصهما على الجديد.
كما يوضِّح (موران) من أنّ الجديد والطارئ لم يعتبرا فائقين خلال العصور السابقة عن الحداثة، وإنّما هي تركة ظهرت بوادرها في العصر الحديث، إذ ما هو مشاع من (روسو) إلى غاية (هيدغر)؛ أن الحديث يشكل انحطاطا للقديم (لم يكن مرغوبا فيه)، لكنه وفي نهاية المطاف ستصير فكرة اعتبار "الجديد" هي الأفضل وأن الحديث بما هو منتج/نتاج للجدة، هي من ستصير لها الهيمنة والقيمة العليا.
عموما فكرة التقدم التي مثّلت روح عصر النّهضة أخذت مشروعيتها من موقفها العَلماني للزّمن والتاريخ بعد عزلهما عن سياقاتهما الميثية والدّينية، وذلك بتبديل مفهوم "الخلاص" المسيحي فوق التاريخي بفكرة الخلاص الأرضي، لتعانق بذلك هذه الفكرة لاهوتا أرضيا قوامه التعلق بالمضارعة (Actualisation) والمحايثة (Immanence).
مرّ وأن ذكرنا كيف أنّ فكرة التقدم أبانت عن لا معقوليتها في بعض الأحداث المعاصرة، وبالفعل قد أفصحت عن تناقضات وانحرافات في التطبيق خاصة مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي على حد وصف (بن نبي) أصيبت فكرة التقدم بصدمة خلال حرب 1914-1918، ثم ضربة قاتلة خلال الحرب العالمية الثانية.
وعليه يميل الاعتقاد على أنّها ظلّت فكرة يوتوبية حبيسة تطلعات فلاسفة الأنوار، وقد ذكر (موران) كيف أنّ أطروحة التقدم التي قال بها (كوندورسيهCondorcet 1743-1794) هي من الأساطير الثلاثة المؤسسة للمشروع الحداثي، إلى جانب أسطورة التحكم في الكون التي قال بها كل من (ديكارتDescartes ) و(جورج دي بوفونBuffon 1707-1788) و(ماركسMarx ). ثم أسطورة السعادة.
وسمها بالأساطير لأنّها حملت مشروعا وهميا، فما تحقق هما الحربان العالميتان، وصعود الفاشية والستالينية، جعلت العقل الغربي يعيش أعظم انتكاسة له في تاريخ العقل البشري "وبات المستقبل نفسه اليوم في أزمة وانتفت كل إمكانية للتكهن وإن هي إلاّ فرضيات، بل هي سيناريوهات".
لهذه الاعتبارات جاءت فلسفة "ما بعد الحداثة Poste Modernité" معلنة عن إفلاس الحداثة فكرا ومفاهيما فيما يعرف بــ "موت السرديات الكبرى"، وبالتالي الولوج لعهد ثقافي جديد قوامه "العدمية". تعود مقولة "موت السرديات الكبرى" للفرنسي جان فرانسوا ليوتار (JOHN FRANCOIS Léotard) دلالة منه على "طرد المذاهب والمنظومات الواحدية التي ظل يحفل بها تاريخ الإنسانية طويلا، وقد أبعد عنه الخطابات الكبرى لتسويغ شرعية الواقع. وما موت الخطابات الكبرى سوى بعد أساسي وحاسم من تلك العدمية الشاملة بوصفها مرحلة روحية تعوزها الأهداف". فسرديات من قبيل؛ الإيديولوجيات، والتنوير، والتقدم، وفكرة تحرر المواطن، وغائية التاريخ، والفكرة الهيجلية عن تشكل الروح في العالم، أو دفاع الماركسية عن مجتمع لا طبقي وغيرها، كلها استحالت إلى مُخلَّفات بائدة وساد نزوع متفاقم من الشّك في غائية الوجود والنضال "إن فردوس الأيديولوجيات والطوباويات لن يفتح، كما نرى، أبوابه بعد وقت قصير. إنّه يدعنا عراة، محرومين من مباحث غائيات مُطَمئنة [...] العدمية وموت الإيديولوجيات يقودان إلى سلخ الشّرعية عن المبحث القيمي وما وراء الأخلاق".
2- النّهضة والتقدم في الفكر الإسلامي: إن كانت مقولة التقدم في السياق الغربي مثّلت قيمة عصري النهضة والحداثة بله وروحهما، وذلك عبر التوسُّل بآلية القطع مع التراث الدّيني القروسطي والتمثل لفكرة المستقبل بصورة معيارية عَلمانية، وإن كانت الفكرة ذاتها ارتبطت بتحول رؤى العالم إزاء عنصر الزّمن والتاريخ من فكرة الخلاص ما فوق التاريخية إلى المستقبل التاريخي، فما هي دلالة النّهضة وبالتالي التقدم في السياق المعياري الإسلامي؟
إجابة عن السّؤال نستحضر ما كتبه المفكر الفلسطيني المعاصر (فهمي جدعان) في أنّ "التّقدم" كان قيمة القيم التي شغلت العالم الإسلامي في خلال عصر النّهضة العربية ورأس المشكلات الحضارية كلّها، فقد همّ المسلمين فكرة التقدم ومواكبة ركب الأمم الأخرى الأوربية والشرقية أكثر من أيّ مشكلة أخرى. استحضار مفهوم التّقدم ومساعي استنباته في سياق النّهضة العربية هو ما يفرض فيما بعد سجالا مطولا حول مشروعية فرض النّهضة والاصلاح المرجوين.
وقوفا عند ذلك السجال تكون البداية بالتّأكيد على أنّ "النّهضة" -أيَّ نهضة كانت- هي من تنتج مفاهيمها بدل العكس، إلاّ أنّه في العالم الإسلامي والعربي بدى الأمر بخلاف ذلك، حيث أنّ فكرة التّقدم تبلورت بعيدا عن المشروع النّهضوي العربي، وهو ما جعل أحيانا مفهوم "النّهضة" مناقض لأبرز مقولاته ومقوماته وهي "التّقدم". نجد ذلك في الدعوى القائلة بأنّ النّهضة تكون بالعودة للنّموذج الأوّل وهم "السّلف"، وأنّ المتأخرين عنهم زمنيا، والذين من المفترض -وفق أطروحة النّهضة والتقدم أن يكونوا أكثر تقدما عنهم- هم "الخلف"، لكن ونظرا لما غلب على الخلف من "تقليد" فلا سبيل لنهضتّهم إلاّ بالرجوع لوضعية "الإسلام أو إسلام الفطرة" أي الإسلام على نحو ما جرى فهمه وتطبيقه لدى "الجيل الأوّل أو السّلف".
"فالإسلام عندهم هو الأصل، هو "الفطرة" وما عداه فهو تقليد [...] من هنا نفهم لماذا كان دائما المنطلق الأساسي لكل دعوى إصلاح اسلامية هو الرد إلى "إسلام الفطرة" هذا، وكيف أنّ كل دعوى إصلاح نجدها تدور حول هذا التضاد: الفطرة لا تساوي التقليد".
إنّ الإسلام في تصور الاصلاحيين الإسلاميين ولد متكاملا مصداقا لقوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[ المائدة: 03]. فالإنسان خلق مفطورا على الحق، غير أنّه في حياته الدنيا قد تغشاه حالة من الجهل والنسيان، لذلك كان كل تطور ينبغي أن يصب في سبيل العودة والرجوع بذلك الإنسان إلى تلك الفطرة الحق. فالتقدم مثلما يعتبره بعضهم "ليس "صيرورة becoming" أو "نشأة into being" ولا هو "حركة نحو ما سيكون"، ذلك أن فكرة "الغاية" وفكرة "الشيء المقصود" التي ينطوي عليها مفهوم "التقدم" لا يمكن أن تكون حقيقة وذات معنى إلاّ عندما تشير إلى ما هو بين وواضح، وما هو قائم وثابت ودائم، أي ما هو كائن. ولذلك فما هو كائن وثابت ودائم لا يمكن أن يعتريه التغير، وليس مما هو يندُ باستمرار عن الانجاز، أو يتجاوز البلوغ والتحقيق. ذلك أنّ مفهوم "التقدم" يعني وجهة واضحة ترتبط بغاية محددة يراد تحقيقها في الحياة".
نلحظ هاهنا مدى الاختلاف الجذري الحاصل في تصور التّقدم مفهوما وتجربة بين كلا التجربتين الغربية والإسلامية، فإن كانت الأولى أخذت تجربتها في التّقدم عبر القطع مع الماضي الدّيني، والتسليم بالسلطة الزمنية (زمنا وواقعا)، وبالتالي التطلع الدائم نحو المستقبل المتسارع الذي يفصح عن ذاته في "الجديد". فإنّه وبخلاف ذلك كلّه يتموضع التصور الإسلامي للتقدم -على نّحو ما تصوّره بعضهم- الذي يتحقق بالعودة والرجوع للماضي حيث الدين الأصيل، الرجوع إلى ما هو كائن (جاهز ومكتمل)، وأنّ معيارية "ما ينبغي أن يكون" هي في الماضي أو "فيما كان" وليس المستقبل أو فيما يجيء، هذا الرجوع هو بمثابة تطهير من شوائب التقليد الذي ران على عقل و وجدان الخلف من المسلمين بفعل تقدمهم الزّمني، فالجديد تقليد، ولا تجديد إلاّ بالرجوع للأصل والفطرة حيث ولدت التجربة الإسلامية مكتملة فلم تعد ترضى بمفاهيم التغيير والتقدم التطوير.
ذلك كان أحد وجوه التصور الإسلامي للتّقدم، تصور نابع من الاعتقاد "بأن الإسلام مكتف بذاته" بمعنى أنّ أي محاولة إصلاح لا تخرج عن الثقافة الإسلامية وأصولها.
في المقابل من دعوى الاصلاحيين، تسعى بعض المقاربات طرح فكرة النّهضة استنادا على تطبيقاتها الغربية، وهو الطّرح الذي رافع لأجله من وسموا فيما بعد بــ "التّقدميين"، نذكر منهم صاحب كتاب "ما النّهضة؟" (سلامة موسى)، فالأخير توقف عند عوامل انحطاط الحضارة الغربية خلال العصور الوسطى ثم عوامل نهوضها، ودور رجال العلم والأدب في النّهوض على التراث الدّيني اللاّتيني، كذا دور علوم العرب في النّهضة الأوربية، وعليه نلحظ أنّ الذي همّ (سلامة موسى) هي العلوم الحديثة وثورتها على التراث، وكذا الاقتصاد الجديد وثورته على الاقتصاديات والنظم الاجتماعية التقليدية في الغرب، والانتقال إلى نمط إنتاج زخم وفعال بفضل العلم والتكنولوجيا والإدارة، وتنظيم المجتمع (ترشيده) بطريقة قانونية تضمن الحياة الشخصية ومصالح الأفراد فيما بينهم والتحرر من كل ضغوط.
إذ من المعلوم أنّ الحياة الحديثة تتسم اجتماعيا بعقد الصلة بين الثقافة العلمية ومجتمع منظم، وأفراد أحرار، هذا كله بفضل العقل كأحد مرتكزات الحداثة، فالعقل هو من بات ينظم الصورة بين الفعل الإنساني ونظام العمل؛ من ضبط للعلم وتطبيقاته وتكييف الحاجات الاجتماعية، وبات هو المرجع في سيادة القانون والدّولة، في مقابل انصراف الدين أو فشله بسبب غائيته القائمة على الوحي.
فبعيدا عن التفسير الديني ارتضى (سلامة موسى) "التّفسير الاقتصادي للنّهضة الأوربية"، يقول: "وراء كلّ نهضة ثقافية حركة اقتصادية نبّهت إليها، ونحن نقنع الآن بأن نشير إلى أنّ ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة، فميدان الزراعة لركودها يقنع بما يشاكلها من ثقافة راكدة، بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم وتفتح الطرق للجغرافيا والتاريخ والملاحة والفلك، بينما الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية عن الكيمياء والطبيعيات وغيرها من العلوم".
وهو ما يفسّر استهجان هذا التيار دعوى "الرجوع للتراث" إذ "إنّ أسوأ ما نخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، أو ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة "عودوا إلى القدماء"".
تأثر هذا التيار بمفهوم التقدم بصورته الأوربية بدى جليا مع بدايات عصر النّهضة العربية مع أواخر القرن الثامن عشر من خلال الارساليات العلمية التي باشرها -ولو بشيء من التحفّظ لعوامل سياسية- (علي باشا)، بانشاء دور الطباعة والنشر، وكذا تبلور العمل الصّحفي والاعلامي، وحركات الترجمة خاصة للكتب العلمية والأدبية، وظهور الجمعيات العلمية كتلك التي بالشّام، وهذا كلّه يرجع للحملة الفرنسية على مصر ما بين 1798- 1801 التي قادها (نابليون بونابرت) مصاحبا معه فريق من العلماء الرياضيين والمهندسين والجغرافيين والأطباء، كذلك مطبعتين احداهما بالعربية والأخرى بالفرنسية.
قد يبدو هذا الرأي الأقرب إلى روح النّهضة والأوفى بمقولاتها وقيمها كقيم التقدم والتحرر والترشيد والتمدن الصناعي والعلمي والتقني في صورتها الغربية، غير أنّه يكفي التأكيد على أنّ هذا الموقف ظل وفيّا لآلية الاسقاط غير السّياقي، وهو ما ينافي المسلّمة السّابقة في أنّ النّهضة تنتج مفاهيمها انطلاقا من تجاربها، ناهيك عن قطع مقولة التقدم عن سياقتها الفلسفية والفكرانية في علمنة الرؤية للزمن عموما وفكرة الخلاص الدينية خصوصا.
وعليه وبحكم كلا التصورين وقعت النّهضة العربية عموما وسؤال التقدم خصوصا في اغترابين؛ اغتراب وجودي وآخر سياقي، الوجودي في اختزال الواقع المعيش ومسعى الرجوع به للواقع التاريخي توهما في ربط الحاضر الشريد بالماضي المجيد وهو الرّأي الذي استقر عليه التيار الأوّل، أمّا السّياقي في مسعى تفعيل النّهضة على روح تجارب الآخر المختلف تجربة وتاريخا مع القطع عن سياقاته الفلسفية خصوصا على النّحو الذي ارتضاه التيار الثاني. بين هذه المراوحة فرّخت النّهضة العربية أوهاما للنّهضة كان ختامها النكبة والنّكسة واحتلال فلسطين، لم يعد العقل العربي ووجدانه يكتب أو يستشعر وجود نهضة.
3_ النهضة في الفكر الإسلامي: من النّاحية الدلالية تتجاور إلى جانب مصطلح "النّهضة" مصطلحات أخرى من قبيل "التحديث"، "التجديد"، "الاصلاح" وغيرها. ولا شك أنّ تلك العبارات لم تأت اعتباطا، ولم تكن إلهاما يطرأ على صاحبه في لحظات خلوته، بل للأمر ولا شك علاقة بفهم وتشخيص ما عبّر عنه بعضهم بأزمة العقل المسلم، وما يستدعيه من إجراءات عملية ووصف الحلول، إنّ الأمر يبدوا سليل الهم المعرفيّ والقلق الوجودي الذي يكتنه الكاتب لحظات تفكره في الأزمة.
يقال ذلك مع العلم أنّ لكل واحد من تلك المصطلحات شروطه التّاريخية والنّفسية ودلالاته المعرفية، وكذا المنهجية، واللّغوية طبعا، وإن كانت الأخيرة ليست بمبرر كافٍ لبناء أطروحة، أو حتى نسق فكري عليها، فالذّي يختار مصطلح "التّحديث" مثلا، لا يكفي أن يسترشد بمعاجم اللّغة، ويستطرد في عرض اشتقاقاته اللّغوية، وإنّما سيعلل ذلك بأن يقول مثلا: أنّ التحديث هو إدخال التّراث ضمن سيرورة الحداثة، وهذا يستلزم عرض التّراث على المفاهيم والمناهج الحديثة، كما فعل الغرب مع تراثه، والأخطر من ذلك كلّه أنّ التحديث قد يشترط لدى بعضهم "القطيعة مع التّراث".
وليس مصطلح "الإصلاح" بأقل ريبة من "التّحديث"، إذ ستثار حوله شكوك قد تجعله موضع تمحيص أو حتى موضع رفض، وذلك لأسباب دينية وأخرى لمعطيات اجتماعية، منها، أنّ مقولة الإصلاح لها خلفية تاريخية بالإصلاح الدّيني الذي باشره الغرب كأوّل خطوة في طريق نهضته وحداثته. وأنّها تتضمن الإقرار بوجود أزمة بدائية في الأسس أو خللا متأصلا في الإسلام يتطلب إصلاحه. وأنّ دعوى الإصلاح في مثل هذه الظروف الراهنة التي يشهدها الإسلام ويعيشها المسلمون احتفائية موغلة في التّفاؤل، ذلك أنّ هذه الظروف التي يتخبط فيها العالم الإسلامي على رأسها عودة الأصولية وما ارتبط بها من إرهاب وعنف، مؤشر على أنّ دعوى الإصلاح لازالت بعيدة.
كما يضيف "طارق رمضان" أنّ كلمة الإصلاح قد تمثل لدى البعض "خطرا ثلاثي الحدود" ترتبط كلّها بالأبعاد الدّينية؛ فهي قد تبدو لبعضهم تغييرا للإسلام وتحريفا له بهدف تكييفه مع الأزمنة الحالية. وأنّها مقاربة مستوردة من التّقليد المسيحي. وأنّ تعاليم الإسلام صالحة لكل زمان ومكان فلا حاجة بنا للإصلاح. لذلك نجد المفكر المغربي (علي أومليل) يستهل كتابه (الإصلاحيّة العربيّة) بسؤال: "ما هو الاصلاح بمفهوم إسلامي؟"، محاولا رفع ازدواجية "الاصلاح المدني" في سياق "مجتمع معياري ديني" ففي نظره أنّه "من شروط اصلاح مدني محاولة التعرف بوضوح على الموروث الفكري الذي عليه أن يعمل داخله وفي مواجهته".
أمام التنازع الحاصل عن دعوى "الإصلاح"، تبدو أطروحة "التّجديد" لدى بعضهم الأقرب إلى المجال التّداولي الإسلامي، وأكثر رسوخا بحكم الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "يبعث الله على رأس كلّ مائة سنة من يجدد لهذه الأمّة أمر دينها"، زيادة لما يتضمنه هذا المصطلح من دلالات توحي بالقلب الجذري للقديم والابداع الأخلاقي وهو ما قد يجعل منه مصطلحا أكثر قبولا، يقول (طه عبد الرحمن): "اعلم أنّ الفعل "جد يجد الشيء جدة" معناه، لغة، حدث بعد أن لم يكن، [...] والواقع أن مفهوم "تجديد النظر في الشيء" بمعنى إعادة النّظر فيه من غير تكرار، هو الذي وضع له الاستعمال العربي عبارة "قلب النّظر في الشيء"؛ فكل "تقليب" هو تغيير لوضع سابق قد يصل إلى حد جعل أعلاه أسفله، وأوله آخره، أو ظاهره باطنه، والعكس بالعكس، فينزل الوضع الجديد منزلة الوضع "المقلوب"، أو "المنقلب"، أو "المنقلب إليه" بالنسبة للوضع السابق، بمعنى آخر أنّ التّقليب قد يبلغ النّهاية في التّغيير، فتكون حقيقة التّقليب أنّه "انقلاب"". زيادة على أنّ فعل التجديد يتضمن "تقويما" سواء بالتصويب أو التّخطئة، التّصحيح والتّنقيح.
وعليه يسعى من يتبنى أطروحة "الاصلاح" وتكييفها وادغامها بأطروحة "التجديد" باعتبار الأخيرة لها ما يعضدها في المجال التداولي الإسلامي بحكم الحديث السابق، لذلك سيجد (طارق رمضان) مثلا خيار التكامل بين المصطلحين (الإصلاح والتجديد) أنّه الأنسب، حيث أنّ "التجديد "يُعنى بالعلاقة بالنّصوص، في الوقت الذي يُعنى فيه "الإصلاح" بالسّياق، حيث لا انفكاك بين تجديد فهم النص وبين اصلاح الوضع الروحي والاجتماعي، كيما يضمن السير المتوازن بين النصوص والواقع، لذلك "يمكن القول إنّ مفهومي التجديد والإصلاح يصوران فكرة الإصلاح نفسها، ويكمّلان بعضهما في الوقت نفسه، لأن التّجديد يشير أصلا (لا حصرا) إلى العلاقة بالنّصوص، في حين يشير المفهوم الثّاني في الأساس إلى إصلاح السياق الروحي، أو الاجتماعي، أو السّياسي للبشر، وهذا الإحياء للإيمان والدّين من خلال مقاربة إصلاحية متواصلة لفهم النصوص (مقاربة تجديدية) وفهم السياقات (الإصلاحية) أمر لازم للشريعة الإسلامية".
فمن وسموا بالمصلحين خلال العصر الحديث في المغرب العربي أمثال (عبد الحميد بن باديس) و (محمد داود) و(علال الفاسي) و(الطاهر بن عاشور) وفي المشرق كـ (الأفغاني) و(محمد عبده) و(رشيد رضا) وغيرهم، وإن بدى حفاظهم على النّص التراثي واحيائه على حرفية تعاليمه غير قابل للمساومة، إلاّ أنّهم سعوا لتغيير الواقع واصلاحه بداية بمواجهة الاستعمار ومحاربة البدع والانحراف العقدي والقيمي والدعوة للنّهوض ضد العطالة الاجتماعية كيما تتهيّأ فيما بعد الأرضية لأطروحة تجديد النّصوص والفهوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى