أحمد الحقيل - “مبدأ الريبة”.. قصة قصيرة

“إنهم يعملون الآن بجرأة غير مسبوقة في الأزمنة القديمة. في الوقت الحاضر لم يعد هناك قانون فيزيائي واحد جدير بالثقة المطلقة، فكل وأي حقيقة فيزيائية قد تكون موضع خلاف. غالبا ما يبدو كما لو أن زمن الفوضى يقترب ثانية من الفيزياء النظرية”

الفيزيائي الألماني ماكس بلانك، في عام 1910

البروفيسور جورج مكليفقن، الملقب بالإسفنجة المبتهجة، 83 عاما، جامعة كامبريدج من 1865 وحتى 1927. كطالب في كلية ترينتي أولا، الزمالة في نفس الكلية، العمل ضمن الجيل الأول في مختبر كافنديش تحت قيادة جيمس كليرك ماكسويل وحتى وصول جوزيف جون تومبسون الذي كان قد أطلق عليه اللقب إياه، الانتقال إلى العمل في إدارة الجامعة لمدة ثلاثين سنة، ثم الاستقرار أخيرا كمحاضر في ترينتي منذ ثلاثة عشرة عاما، وهو القرار الذي اعترض عليه عدد من الفيزيائيين النافذين حينها (بما فيهم تومبسون الذي تولى رئاسة ترينتي بعد انتقال مكليفقن بسنتين ولم يستطع التخلص منه). تم ترشيحه ضمن قائمة المستحقين لوسام “فارس” في عام انسحابه من إدارة الجامعة 1914، ولكن ليس كفيزيائي، وإنما كإداري ساهم في انفتاح كامبريدج على نظريات الفيزياء الحديثة في مجالاتها النظرية والتجريبية والرياضية ولاحقا النووية والذرية (فهو ممن ترجموا لاحقا ورقات آينشتاين الخمس التي كتبها في 1905 وحاول استقطابه. وهو ممن ساهموا في دعم ونشر نتائج تومبسون رغم الحساسية بينهما. وهو ممن أقنعوا رذرفورد بالمجيء إلى كامبريدج، وحاولوا إقناعه لاحقا بنقل تجاربه عائدا إلى كافنديش من مانشستر (وهو ما حدث لاحقا حين عاد رذرفورد كخليفة لتومبسون). وهو أكثر من حاول مع نيلز بور (وقد وصف هذه المحاولات بأنها الأكثر إثارة للملل في حياته مع هذا الدنماركي “المراوغ المتصوف الشفهي” على حد تعبيره) ليقنعه بالجلوس في كامبريدج، وعاد ليتواصل معه بعد بحوثه عن تكوين الذرة (وهذا كان آخر تورط لمكليفقن). وهو من أوائل من ميز عبقرية ماكس بورن المنزوي المهزوز أثناء دراسته القصيرة في كامبريدج وظل على تواصل معه. بل وممن ساعدوا الرياضياتي ويتاكر أثناء فترته في في الجامعة ودعموا تلميذه ج.ه.هاردي أثناء فترته الأولى في الوقت الذي كانت فيه كامبريدج مكانا متأخرا في الرياضيات. رغم أن مكليفقن – وهنا تكمن غرابته المستفزة للجميع – لم يكن له رأي واضح في كل هذا تقريبا، وهو ما كان يثير حفيظة البعض الذين يتوقعون منه أن يكون عالما أولا قبل أن يكون إداريا، كبور مثلا، الذي قال ذات مرة لزملائه بلهجته البطيئة المغمغمة “لا أعلم، ولكن هذا الرجل يثير لدي شعورا بأنه يخدعني، أو على الأقل لايبالي بما لدي. إذن لماذا يفعل كل هذا؟!”). ولذا كان ترشيحه لوسام الفروسية مفهوما نوعا ما، وإن بدا مبالغا فيه لدى البعض. إلا أنه تم صرف النظر عن ذلك لملاحظات خاصة حول سلوكياته بشكل عام، وبعد استقالته وتفرغه محاضرا بشكل خاص.

في صباح الأربعاء الموافق للسابع من شهر نوفمبر عام 1927، قضى مكليفقن يوما اعتياديا في تدريس الفيزياء، وتحديدا الميكانيكا الكلاسيكية، واعتمد على نكته وأفّيهاته المسرحية المكررة التي لم تخسر جِـدّتها في تجنب أي تلميح جاد حول ما يحدث خارج نطاق ما يدرسه، وهو أمر يمارسه منذ أن استقال من منصبه الإداري في حصانة استسلامية لامبالية. وحينما عاد إلى مكتبه ماشيا بسرعته المعتادة كشخص يتجه إلى عمل طارئ (السمت الذي اكتسبه مذ كان إداريا يتنقل كثيرا) وهو يرمي هنا وهناك في أروقة الجامعة تعليقات تنكيتية ويضحك عابرا كعادته مع أشخاص لا يعرفهم، وجد على طاولته مسودة مكتوبا عليها بالألمانية التي يجيدها: مبدأ الريبة، وتحتها بخط أصغر: فيرنر هايزنبرق. بالإضافة إلى عنوان هامشي في الأسفل: وأيضا تلخيص ما جاء في مؤتمر سولفاي 1927، إلكترونات وفوتونات، ومبدأ التتامية لبور. موضوعة على الطاولة بطريقة موحية، وكأنها مرسلة من مكان غامض لا سبيل للتأكد من مرجعيته.

ظل مكليفقن جالسا على كرسيه، خاملا، يشرب الجن الذي يضعه في درجه، بصمت، وهو يحدق بنظرة ناعسة فاترة في المكان، ويشعر بسطوع ضوء النهار الغائم يغلف الأثير. اللوحات التي تستعرض شهاداته ومقالاته ودراساته الفيزيائية التي يعود أجددها إلى 1884 تلمع بانعكاس النور. الكبينة الزجاجية خلفه ستجد فيها عدة مسودات لم تُقرأ، بحوث لبور ودي بروي وشرودنجر وسمرفيلد وماكس بورن والشبان الجدد ديراك وباولي وهايزنبرغ نفسه وغيرهم، حيث أن أحدث البحوث لازالت تصله على افتراض مرجعيته القديمة المواكبة. يحك شعره الأشيب المبعثر بين حين وآخر، يلعب بشاربه الذي يجعله شبيها بمارك توين، يتلفت بخمول في المكان، وكأنه يبحث عن شيء ما يسحبه، يحدق في الباب، في النافذة، في الجدران، في أسطح الأثاث، ولكن لاشيء هنا ليسحبه. يترقب إن كان سيسكر، ولكن إسفنجيته كانت تمتص الشراب وتحوله إلى شعور عميق بالبلادة السلبية الخاثرة، التي هي في طريقها لتتحول إلى نعاس، وهو ما حدث أخيرا، أخذ يشخر متكوما فوق كرسيه، حتى تيقظ بعد ساعة. المسودة لم تختفي. أخيرا، سحب ثقل جسده من الكرسي، وأمسكها، وبدأ يقرأ.

———–

“نعم لقد اطلعت عليها، ولكني لم أرى فيها نفعا لي. إني لا أقول أن الاكتشافات لا تكون على هذه الشاكلة، فأنا أعتقد من المرجح أن تكون كذلك. غير أنها لا تناسبني”

الفيزيائي البريطاني جون ويليامز سترت “اللورد ريلي”، تعليقا على نظريات نيلز بور حول الذرة، مطلع القرن العشرين.

يجلس مكليفقن أمام رف البار الخشبي، أمامه جرعة الفودكا السابعة التي سكبها له الساقي. بجانبه شاب ملتحٍ بعينين حمراوتين وجفنين يتوردان في سكر متواصل يبدو وكأنه لم ينقطع منذ أيام. ملامح البروفيسور متهدلة، عيناه زائغتان. أكمل بصوت مكركب: وحتى لو كان هذا صحيحا، فمن يقول الصحيح ملك الملوك، هاه؟ توقف وقد نسي عن ماذا كان يتحدث، أغمض عينيه نصف إغماضة وكأنه يبحث عما كان يتحدث عنه أمامه، وحينما لم يجده التفت نصف التفاتة إلى الشاب الذي كان مندلقا على الرف يتكئ بمرفقه عليه ويتكئ برأسه على راحة يده: ماذا نتحدث كنا؟ هاه؟ الشاب في عالم آخر تماما، دمدم بما يشبه الزفرة البليدة: جااااان. فأكمل البروفيسور: نعم جان، جا. ولكنه توقف معترضا بعصبية متلعثمة: جان؟! لم نكن نتحدث عن أي جان لعينة، أبعد جان ذي، لا شأن هي لنا بنا نحن. ثم أطرق. استجمع أفكاره بصعوبة، وحينما همّ بالإكمال أدرك أن أفكاره لم تتجمع، وأن لا كلمات واضحة تقف على طرف فمه. وأمام هذا العجز، شعر أن لحظة الكشف قد حانت، ولذا أدخل يده في جاكيتته، أخرج المسودة، لكز الشاب دون أن يلتفت إليه، ورماها عليه. ثم دمدم: إقرأ إقرأ، قال إيش قال جان. ولكن الشاب لم يتحرك، ظل على وضعيته، في حالة انسكاب متيبس، وكأنه ثلج ذاب ثم تجمد من جديد. شرب البروفيسور جرعته، صرخ: أخرى. صب الساقي جرعة جديدة وهو يهز رأسه باستحقار مبتسم مألوف. أحس البروفيسور بحكة في مؤخرته، تراقص في الكرسي ليحكها دون أن يُدخل إحدى يديه في الموضوع. انتبه للمسودة على جانبه، أخذها وهو يقول للشاب: قرأتها هاه؟

ولكن الشاب همس بألم مكركب: جااااان

نعم جان. زفر البروفيسور وكأنه يحادث نفسه، متكئا بثقله على البار. هذا الألماني الكلب، هذا أكثر من اللازم، لقد تجاوزت ساعدت روجت ولكن هنا بس خلاص هذا جنون. ثم أضاف بتكشيرة وكأنه يطلق حكما على أشخاص بديهيين ليس في حاجة لإعلان أسمائهم: كلهم، كلهم زي بعض، الله يلعنهم. شرب الجرعة وصرخ: أخرى. قال للشاب: تعلم هذا يعنيه ماذا؟!

بدأ الشاب يئن: مممممممم

بالضبط ولا أنا. كل شيء سريع سريع متشابك فوضوي لاسياقي خرصي خرصي، لو كنت أعلم ما يعنيه أي شيء لكنت. وتوقف عن الكلام، وعلى وجهه ملامحُ من يبحث عن شيء بعيد اختفى فجأة، ثم انتبه ببطء إلى موقفه، وأدرك أنه لا يدرك أي شيء فعلا، وأن في عقله فراغا ساطعا من اللاوضوح الناعس. فهمس بقلة حيلة ذاهلة: بالضبط، لا أعلم، كلنا، لا نعلم، نخرص، نخرص. ابتدره هذا النعاس اللاواضح الثقيل، شعر برمشي عينيه يطبقان، بقشرة سواد تثخن في وعيه. خُيِّل له أنه يرى آلهة النوم التي كان يصفها لطلابه بتشدق شعري ليبرر لماذا ينعس كثيرا أثناء المحاضرات “إن لها هالة لامحددة مثل تدفق زبدي من الشوكلاتة. فور أن تراك؛ تتشظى منهمرة وتتحول إلى نهر، نهر لانهائي من الشوكلاتة، تسحبك معها لتعوم في هذا الزبد البني الشهواني المتخثر” يضحك الطلاب باستمتاع لا يخلو من نبرة استحقار مبطن، ويهز هو رأسه ويقول “واللعنة بديت أدوخ فعلا”. رآها الآن تجره إلى ذلك الهلام الشوكلاتيّ، وابتسم لها بحنان ابنيّ، باحتياجٍ مستنزَف، لم يرها منذ أيام، وريثما لمستها أطراف أصابعه، ارتعد فجأة. إنتـبَه. لازال في الحانة. الأشياء هنا جامدة مسننة، لا تتشظى ولا تعوم، كل شيء حاد، متشكّل، ثابت. حدق فيه بعداء متبادل، حتى مر بعينيه على الشاب، طالعه وكأنه يراه لأول مرة: وش أنت؟! كان أنين الشاب شبه النائم قد خَـفَت بصوت لامسموع تقريبا، مثل صفير طائر مجروح: ممممم. قرب البروفيسور جرعة الفودكا الممتلئة نحو الشاب وهو يقول متعاطفا: لا بأس ونّ، استمتع بالألم، قريبا لن تبالي وستنتهي وستحن إلى الألم. عاد ليحدق في المكان بعينين شبه مغمضتين، وكأنه يبحث عن ذلك الشيء البعيد. في زاوية المسودة، كان هنالك ملاحظة مكتوبة بخط قلم مكركب “حينما تؤمن بمبدأ ما فأنت لا تؤمن بالمبدأ وحسب ولكن أيضا بطريقته في رؤية وتفسير العالم. حينما ينهار فإن قناعتك به وبكل ما أنتج ليست وحدها التي تنهار، ولكن أيضا طريقة رؤيتك وتفسيرك للعالم! أنت لا تخسر المبدأ وحسب، ولكن حتى الرؤية! أنت أعمى! تذكر هذا يا مكليف!” هل هذا خطي فعلا؟! سأل نفسه، وغمرته انتباهةُ حقد فاتر. طرأت عليه فكرة غائمة غبشية، مجرد صورة تقريبا. لمح ساقي البار، أشار له أن يأتي بحركة خرقاء من أصابعه وانحنى فوق البار استعدادا لتواطئ سري حذر. اقترب الساقي بابتسامة مشاكسة: أنت بخير يا جدنا؟ كشّر البروفيسور متلعثما وقد خرج من سمت تواطئه: بسّك خرا، لا تكرر مثل هذا الكلام الفاضي، جَد، أي جد؟! اسمع اسمع اسمع، قال وهو يلوّح بيده وكأنه يمسح هذا الخروج الطارئ عن النص، أطرق لحظة ثم أكمل بهمس: هل يوجد راهب في هذا المكان؟

تريد راهبا؟ سأل الساقي دون استغراب تقريبا. أوكي هذا جديد، حتى عليك. راهب إذاً؟

نعم راهب. عارف؟ راهب. كاثوليك، اعتراف. راهب. عقدة ذنب، خطيئة، تحرش بالأطفال. أشياء كهذه. راهب.

زفر الساقي بإنهاك تقريبا: الله يرحم والديك ارجع للبيت، فكّنا من أي جنون تنوي القيام به. وابتعد. بينما ظل البروفيسور يطالعه بذهول حتى اختفى في غبشية عينيه السكرانتين. التفت إلى الشاب نصف التفاتة: هل تصدق هذا العجل؟! تركني كذا واختفى. ولكن الشاب كان قد سقط على الحد الخشبي، يشخر، ومن زاوية فمه يتدلى خطُّ لعاب لزج. متبطل قذر، دمدم البروفيسور بتكشيرة قرف. قام من مكانه، بحث في جيوبه لمدة طويلة، بدا وكأنه يخوض صراعا، حتى نجح أخيرا في إخراج ورقة نقدية، حملها بحذر ووضعها على الحد الخشبي للبار، وكأنه يضع قطعة قابلة للكسر. يدمدم راهب أحتاج راهب عن راهب أبحث. لمح زجاجة الفودكا الفارغ نصفها. تطلع حوله بحذر. لا أحد. التقط الزجاجة وخبأها تحت جاكيتته ثم ضحك ضحكة انتصار شريرة من طرف فمه. الساقي الذي كان يراقبه هز رأسه وهتف: يا غبي دفعت قيمة الزجاجة، لا حاجة لأن تسرقها. ولكن البروفيسور ظل يضحك ضحكة انتصار شريرة متقطعة من طرف فمه وهو يخبئ نصف الزجاجة الفوقي تحت جاكيتته بينما يتدلى النصف الأسفل واضحا. خرج من الحانة، تلفّت حوله. المكان معتم، الشوارع عليها قشرةُ لمعانٍ نقي. يدمدم لنفسه بعبارات لامفهومة. يشرب من الزجاجة ثم يخبئها تحت جاكيتته. لمح رجلا يسير متأبطا ذراع امرأة، صرخ له وأوقفه: الراهب وينه؟ تطلع الاثنان في بعضهما بابتسامة حائرة، يحدقان في العجوز بشعره وشاربه الأبيض المبعثر وملابسه المكركبة. راهب؟ سأل الشاب بنبرة استفسارية. تشوَّه فم البروفيسور بتكشيرة هادئة نافدة الصبر: بهيمة أنت؟ سأل بنبرة استفسارية أيضا، إيه راهب، لا تعرف راهب ما هو؟ حدقا فيه لحظة ثم انفجرا بالضحك أخيرا وتجاوزاه. طالعهما بنظرة مذهولة حانقة، نطق جملة سباب لامفهومة امتدت في غمغمة مكونة من حروف علة متشابكة ختمها أخيرا بكلمة راهب، هتف بها تقريبا، للا أحد، في المسار حيث اختفى الشابان، وكأنها قفلة التصريح السبابي اللاأبجدي. يمشي ببطء، يميل دون أن يترنح، مثل سكران محترف، يشرب، يخبئ الزجاجة. الشوارع امتدادٌ خاوٍ على عروشه، مكعبات إسمنت مخدّدة بخطوط إسفلت عريضة، عواميد إضاءة زيتية محدودبة برثاثة عتيقة تلفظ صفرة لا تخرج عن نطاق بقعةٍ محددة تحتها، ولذا الشارع مقلم بلطخِ ضوءٍ هندسية تفصل بينها عتمة ظلالية. آثار النهار المنصرم لازالت تنقع في المكان، تتخمر، تتخثر، آثار العرق والحركة والهرمونات والانفعالات والنشاط والخمول. من البيوت تصدر طاقةُ فتورٍ نائم ثقيل، تكاد تملؤ الأثير بالزبد الشوكلاتي المتموج الشهواني الشفاف. لا يسمع صوتا سوى تك تك تك، حذاؤه في الرصيف المحجّر، تك تك تك، تتردد نغمياً في الخلفية. أحس أنه يسير في لامكان، أو بمعنى أصح يسير في مكان توقف عن أن يكون مكانا، صار صورة، جمودا في الحركة، يسير في مكان بلا حركة، بلا زمن، لاشيء عدا صوت خطواته نفسه، تك تك تك، تصنع نمطا صوتيا منوما يتداخل مع منظر النوافذ الحيادية في عتمتها النائمة وحواف الظلمة التي تلفظها الأبواب المغلقة ومتاريس الإسمنت المتطاول الخامد على الحافتين. في وسطها، بناء متهدم. وقف باستغراب. حرب؟! سأل نفسه، هل عادت؟! مستحيل. ربما شب حريق؟! ولكن هذا ليس حريقا، إنه خرابة، إنه قد هوى بفعل قذيفة أو تقادم زمن. مهشم، محترق، مسنن الحواف، عليه قشرةُ سوادٍ أو غبار، قشرةُ تآكلٍ ما. يقف شاذا وسط صف البنايات المتراص، صغيرا متقزما. قَـطَع الإسفلت نحوه بترقب، بتوتر تقريبا. تك تك تك. نفس النمط الصوتي ولكن بنبرة مختلفة يفرضها قلق الانهيار الإيحائي في تلك الصورة. الصوت هو الذي يحدد الصورة أم العكس؟ فكر في ذلك بغموض. تك تك تك. حتى وقف تماما أمامه. الظلمة الغامضة في عمقه مغرية، مثل فم كهف أثري يستدرجك لتلجه. تلفّت في المكان، وللمرة الثانية لاشيء هنا ليسحبه من الموقف، كل شيء لازال متوقفا، لاحركي. حدق في فم الكهف الظلامي، وكأنه يرى تلك اللوحات الفنية التي لا يفهم سر هوس الناس بها، ولكنه هذه المرة يفهم، ويكاد يرعبه هذا الفهم المعتم الكهفي. أخذ جرعة من الزجاجة، تقدم خطوتان، دخل حافة الظلمة، ثم إلى قلبها. عتمة ظلالية، يداخلها ضوء، ولكنه ليس ضوء الخارج، وإنما ضوء باهت مطبوع في قشرة العتمة نفسها، وكأنه غطاء جوهري وليس أثرا خارجيا يكتسب وجوده من غيره، أو هكذا يبدو، يخدع، ربما يمتصه من مكان لا يمكن تحديده، ويكتسب بالتالي خاصية ليست فعليا فيه. آثار، مخلفات، أحجار، أوراق. المكان لا ينتمي إلى حالة آنيّة، ثمة عمق عتيق في مظهره، عدا طاولة خشبية نظيفة تماما، بلا ذرة غبار واحدة، تلمع في العتمة. واصل المشي في الداخل، كل شيء منهار، حطام، أثاثٌ مهشم، فتات إسمنت، نثار رثاثة مهجورة. هناك لطخة ضوء متمددة ولكنها تتسرب من فرجة أصغر من أن يتم تحديدها. هو الآن في غرفة، أو صالة، مغطاة بقطع الاسمنت المكسرة. لمح شكلا في الزاوية، شكل إنساني. طفلة ربما، منكفئة على نفسها، تضم ركبتيها إلى صدرها وتطوقهما بساعديها مطأطئة رأسها داخلهما. حفنة شعر. بدا وجودها هنا منطقيا لسبب ما، وبدا أنه مدفوع ليكمل دورا غير واضح، وهو أن يتقاطع معها. اقترب منها بحذر، يطأ أحجارا وملابس وآثارا بخشخشة مكممة. جثا أمامها. الصمت صار صوتا، اكتسب وجودا نغميا بانعدام نقيضه فصار صوتا، يسمعه، يتنفس بفحيح ناعم. يحدق في هامة الطفلة المطأطئة، ويترقب منها أن ترفع رأسها، كما هو متوقع. رفعت رأسها، وظهر وجهها. تراجع برأسه شعرة إلى الوراء، بفم مفتوح وعينين جاحظتين. همس بزفرة ذاهلة. كانت باهرة، كانت شيئا لم يره من قبل، لم يره أحد من قبل، لم توجد له كلمة أو معادلة حتى الآن. عيناه لا تطرفان، مثبتتان في اتساعهما المشدوه. الهواء يجرح غشاء الحدقة، ولذا اندلقت دمعة على خده. كانت تحدق بحيادية جامدة، لم يكن ثمة حسٌّ في تلك اللحظة. حدقا طويلا في بعضهما. رفعت يدها، ببطء، مسحت خط الدمعة التي تقشرت على خده، ثم نهضت ومشت ببطء نحو امتداد رواق مظلم اختفت في عمقه. ظل يحدق فيه مشدوها، قام أخيرا بتردد، اخترق الرواق المظلم فارتطم سريعا بجدار، عاد إلى الصالة، فوجدها، أو شكلا يشبهها، على نفس وضعيتها. شيء ما من الخارج أخبره أن اللحظة قد انتهت، وأن عليه أن يذهب الآن. تجاوزها بتردد، يشعر أنه مُنتزَع، أنه يترك شيئا لامكتملا، وأنه سيظل لامكتملا، وهو ما أثار فيه شعورا بكآبة وحشية. سار في عمق المكان، حتى صادف بابا، فتحه وخرج منه إلى بقالة. وقف لحظة، يتيقظ بثقل، بين أرفف البضاعات القرطاسية والمعلبة، التنظيم الحاد الساطع لمكان مصطنع. يستشعر تناقضا حادا يتطلب لحظة من التأقلم. وقف بنظرة حيرة مشدوهة أمام البائع، تطلع فيه لحظة، وكأنه يبحث عن إجابة ما. البائع العجوز كتلةٌ من فتور ليليّ خامل، بدا وكأنه قرر مجاراته في لعبة الصمت هذه، يدفعه مللُ شفت الليل الحاد، فبادله التحديق بترقب متبطل. البروفيسور بدا وكأنه مغيب عن المحسوس الذي أمامه، لا يراه، لازال يراقب وجه الطفلة في خياله، يستطعم ملامحها وهي تتفكك، تتآكل، تتلاشى، وتعيد بذلك حضوره إلى المحسوس أمامه، يتجسد حاليا في هذا البائع العجوز، الذي بدا غريبا جدا للبروفيسور. طَرَف بعينيه قليلا، قال بصوت لازال مشدوها: بعض الجمال شيء يصرع العقل، هاه؟ هز العجوز رأسه باتفاق متعاطف وقال: الكثيرون حينما يقابلونني يقولون هذا. أطرق لحظة، يسمح للنكتة أن تتسيد المشهد، ثم طفق يضحك عن فم مجوف بلا أسنان. ظل البروفيسور يحدق في العجوز بدهشة، لم يستوعب جيدا ما الذي حدث، وحينما فهم جزءا من الموضوع، وهو أن هذا الكلب يسخر منه بطريقة ما، هتف بذهول متفاجئ من وقاحة لامحددة: بس. صمت العجوز دفعة واحدة، بحيرة تقريبا، إذْ بدا هذان الحرفان اختصارا مخلا لما يبدو اعتراضا غاضبا يتطلب بالعادة تعبيرا شفهيا أكثر من حرفين فقط. ولكنه أراد تغيير الموضوع فقال باحتقار: ألا تريد شيئا يا صريع الجمال؟ فكر البروفيسور لحظة، ما الذي يريده بالضبط؟ صحيح، لقد خرج يبحث عن راهب. ولكن ما الذي يعرفه هذا العجوز السفلة عن راهب؟!فقط طالع وجهه، قال مكليف في نفسه، هذا وجه رجل مكانه الجحيم، وأن من خلقه لابد أنه ندم على ذلك. لاحظ مكليفقن بوضوح أكثر كم يبدو قبيحا هذا العجوز، ويجوز القول أنه ضاع في تفاصيل قبحه المذهلة. البشرة الكثيبية مثل رمال زاحفة، التصحر الذي أنتج شقوقا فحمية في الجلد، العينان الضيقتان تحت الجفنين المتكيسين، الفم الضخم بالشفتين المتشرمتين. إنه باهر في جانب مناقض تماما للفتاة، ويكاد لا يقل تأثيرا. إنه يجعلك ترى القبح بزاوية أخرى تماما: براعة الخلق السيء المتعمَّد حتما، هذه الدقة القبحية لابد أن تكون متعمدة. العجوز الذي لم يكن معتادا على مثل هذه النظرات المتفحصة الطويلة بصمت، تزحزح عن فوقية سلطته السابقة، تحرك بتوتر مترقب، ثم قال أخيرا بصراخ تقريبا: أنت وش فيك أنت؟! تريد شيئا والا كيف؟! انتبه البروفيسور، كشر تكشيرةَ من تم انتزاعه مرة أخرى من موقف لامكتمل، أومأ بحركة فاترة من يده خلاص لا تزعجنا. قال أعطني أرخص فودكا عندك. شرب بقية زجاجته الأولى ورماها في الزبالة، حاسب عن الزجاجة الجديدة، ثم أخذها وخبأها تحت جاكيتته وهو يضحك نفس الضحكة الشريرة اللصوصية من طرف فمه، بينما أخذ العجوز يطالعه باحتقار مستمتع. في الشارع لمعانُ صفاء متطرف، ذلك الذي يجعل حوافّ كل شكل واضحة بشكل حاد. سار وسطه، وهو يشعر أن كل شيء ينفصل في تشكله الخاص، أن هذا البيت له حواف حادة صافية جدا تكاد تفصله عن كل جسم آخر، وتُشكّله كجسم مستقل. حينما كان صغيرا، أخذه أخوه نايجل – الذي كان كيميائيا متمرسا – إلى معمل أستاذه المقرب مايكل فاراداي، وأخبره وهو يهيئه: استعد، ستقابل أعظم عالم الآن، ولن يبدو عليه هذا. كان جورج يعرفه سابقا من بورتريهاته، التي تجعل ملامحه حجرية متقشفة نوعا ما. حينما سلّم عليه، كانت يدا فاراداي مغطاة بسخام ما. ابتسم له مرحبا بدماثة، ثم حينما انتبه إلى أنه لطخ يد جورج اعتذر وكأنه ارتكب جريمة، وسحبه وهو يقول لا تقلق إنه ليس شيئا مضرا، وأصر على أن يمسح السخام عن يده. ثم أخذه ليشرح له إحدى تجاربه القديمة حول الكهرباء الساكنة استعدادا لمحاضرة الكريسمس السنوية التي سيلقيها في المعهد الملكي. يتجولان في معمله الصغير. هنالك بارٌ مصنوع من الطوب الأحمر، عليه قوارير محلولات، أرفف تغطي الجدران البيجية، مكدسة بزجاجات متراصة، بابٌ يؤدي إلى قبو يمتلئ بالأدوات اللازمة. وقفا في زاوية خلفية بانورامية، هما الاثنان فقط، لا يتجاوز طول جورج مرفق فاراداي، يتأملان “العلم” كما وصفها مكليف ذات لحظة رومانتيكية، لازال يحس بها أحيانا في عظمه حتى الآن، خصوصا حينما يحتاج تأكيدا على أنه سبق أن عاش لحظات عظيمة. أخبره فاراداي بنبرة اعتذارية أنه لا يجيد الرياضيات كثيرا، وسأله هل تجيدها؟ فهز جورج رأسه بخجل: قليلا. وحينما قادهما هو وأخوه إلى الخارج، قال له ربما إذاً أنت من ستكمل تجاربي بالرياضيات، هاه؟ حمل مكليفقن هذه المهمة إلى أن دخل كامبريدج ووجد أن أستاذه ماكسويل قد تكفل بها، وبدأ يضع تجارب أستاذه فاراداي رياضيا، وقد ساعده مكليفقن قدر استطاعته المحدودة. هذا كان أبرز إنجاز يذكره دائما. بعد سنوات طويلة، حينما كان رذرفورد – خليفة فاراداي في التجريبية – يشرح له تجاربه الإشعاعية الغريبة والجريئة، ظل مكليفقن يُبدي تحفظا حول النقاش في الأمر رغم دعمه له، سأله رذرفورد أخيرا بعصبية نادرة “لماذا أنت عالم إذاً يا رجل؟!” اعتذر رذرفورد المهذب بطبيعته سريعا، وضحك مكليفقن وكأن المسألة منسية لا تحتاج إلى اعتذار، ولكنه لم ينسى فعلا. كان قد وقف وهو يتطلع أمامه بجمود. ربما العينان فعلا، فكر بقلة وضوح، ربما العينان هما اللتان تبصران بصفاء/انفصال حاد، أم أنها الأجسام نفسها التي هي متطرفة الصفاء/الانفصال هذه الليلة؟ أحس بكآبة فاترة. يقف وسط الشارع، متهدلا، متكوما، يحدق في نقطة هامشية لاسياقية في الممر المرصوف. لاشيء هو فعلا إلا كما نراه ونؤثر فيه، فما هو الذي نراه فعلا؟ كيف تحدد شيئا خارج وجودك؟ لقد أخبره أستاذه مكسويل أن الفيزياء يجب أن تبقى في الفيزياء، لا تأخذها كاستعارات إلى خارجها. ولكنه لطالما وجد نفسه يأخذها معه إلى خارجها، بشكل يرعبه أحيانا. ولذا ربما الفتى الألماني اللعين صادق فعلا، ربما الأشياء تكتسب طبيعتها أحيانا من غيرها ويتم تحليلها على أن هذا المقتبس هو طبيعتها فعلا. ملامحه منطفئة، عيناه حزينتان، حدبةٌ في ظهره، وقفةُ جمود مستنزف. إنه لم يعد موجودا هنا، أحس بذلك، إنه صار جامدا مثل هذا المكان/اللامكان. ولكن من خلفه، ومن امتداد بعيد، زحفت أصواتٌ بشرية، تكممها المسافة فتُسمع كهسهسة نار. انتبه ببطء، التفت بحركة أوتوماتيكية عفوية. هناك نقطة في البعد، نقطة جسيمية صوتية، تتشكل أكثر، تُسمع أكثر. أشكال بشرية، أصوات بشرية. العشرات من الأشخاص، رجال ونساء، يتحدثون، أو يغنون، ليس واضحا. يمشون، أو يرقصون، ليس واضحا أيضا. ولكنهم يُحدثون ضجيجا يكسر السكون، ضجيجٌ يعيد الحركة للصورة، الصورة التي بدأت تفقد طبقة من لمعانها بإشعاعات الجسد الإنساني التي تشوه صفاء حواف الأجسام المتشكلة. استهلكت لحظةُ مراقبتهم وهم يقتربون مدة طويلة، أو هكذا أحس. بدا له وكأنهم يزحفون نحوه، تماما نحوه، متجهون له تحديدا، وأنهم سيطؤونه. وحينما أدرك ذلك أحس برعب متورط، تلعثم بأصوات عبثية لامنطوقة، تراجع خطوة إلى الوراء واحدودب قليلا في وضعية هجوم محتمل. الحشد يقترب، يضحك، يغني، يضج ككتلة واحدة. أراد أن يهرب، ولكنه لم يستطع. رفع يده الممسكة بالزجاجة أخيرا وكأنه يريد أن يوقفه، أو يشق له مسارا في وسطه، ولكن الحشد جرفه. لم يعد واضحا بالنسبة له هل هو يمشي الآن، أم أن الحشد يحمله. المهم أنه كان يتحرك، وكان جزءا من جملة أجسامٍ متلاصقة. هتف بصوته، ولكنه لم يسمع صوته أصلا، فكيف سيسمعه الآخرون. ظلوا يسيرون به ككتلة واحدة، يتلفت بصعوبة فيرى أوجه زملائه الأجسام الضاحكة بانفعال مشدوه احتفالي. ربما هو عرس، فكر بامتعاض متوتر. ولكن هذا غير منطقي. تطلع في أوجههم بتركيز أكثر، إنها حفلة عربدة، تمتم في نفسه، نعم، لابدّ أن تكون. ارتاح لهذه الفكرة أكثر، هز رأسه وهو يحاول أن يقنع نفسه، إنهم ثلة مجانين يحتفلون بأنهم لازالوا أحياء. نعم هذا مريح أكثر. ابتسم بانفعال، وبحث عن أدلة تثبت وجهة نظره هذه. الأوجه تبدو الآن متواطئة معه، تدعوه إلى الانضمام إليها، فيها الألفة التي تتميز بها الدعوة المتواطئة إلى شيء جنوني، ولذا حدق فيها باتفاق مشدوه وهو يهز رأسه موافقا، يسيرون أو يزحفون ليس واضحا ككتلة واحدة في الشوارع، يصدرون أصواتا نغمية لامنطوقة، حتى دخلوا منزلا كبيرا، قصرٌ ربما، أو قلعة. في الداخل صالة كبيرة جدا، حارة، تُشعُّ بضوء غبشي، وفيها حشد متلاصق آخر، لا أول له ولا آخر، يردح تحت موسيقى احتفالية صاخبة تأتي من بقعة ما. في المكان حالة جسدية وصوتية لامألوفة، تتحرك بإيقاعٍ كهربائي هذياني احتفائي. المكان حسي جدا. لقد أحس بجسده كما لم يحس به من قبل، أحس بنخاع عظمه ينبض، يغلي، أحس بأجزاء ميتة من جسمه تصحو، بأجزاء غير موجودة تتخلق. إنه سينفجر في أي لحظة، هكذا أحس، سينفجر إلى أجزاء ستظل تتجزأ إلى لانهاية. اندمج حشده الصغير بالحشد الأكبر، ثم جرفوه في رقصة لاإيقاعية متشابكة، حيث أن كل اثنان يتشابكان متقابلين بذراعيهما اليمنى مع اليمنى أو اليسرى مع اليسرى ويدوران على نفسيهما عدة دورات وسط الحشد المتراكم المتراص اللانمطي الذي يؤدي بالتوازي نفس الرقصة، ثم ينتقل كل منهما إلى أقرب شخص يصطدم به ويؤدي معه الحركة من جديد، في رتم هذياني ذاهل. انجرف البروفيسور أولا نحو فتاة شابة، كلاهما يبتسمان عن مغارة فمهمها الواسعة وعينيهما الزائغتين والموسيقى تضرب وترتفع وهما يدوران في طربٍ مشدوه لاشفهي. أطلقته وارتطم برجل أربعيني بنفس الابتسامة البانتوميمية المنتشية الواسعة والعينان الزائغتان، يدوران ويدوران وسط الحشد والردح الموسيقي اللانمطي. صرخ الرجل بنشوة اعترافية: أنا شاذ، ثم أكمل باحتفاء تلميحي وقح: إنني أحب الحيوانات. وهز البروفيسور رأسه مبتسما عن مغارة فمه وعينيه الزائغتين ثم أطلقه ليرتطم راقصا بحمار وسيم، أو هكذا بدا له، لابد أنه رفيق الرجل السابق إلى هذه الحفلة، نهق الحمار بعبارة لاأبجدية ثم أطلقه ليرتطم بآينشتاين ولكن في نسخته الستينية المشيبة، هتف البروفيسور بفرح من يقابل وجها مألوفا: هيه. فم آينشتاين يبرز في مغارة ابتسامته تحت شنبه الأبيض الكث وعينيه الضيقتين الزائغتين، يدوران ويدوران وسط الصخب النغمي الطربي، قال البروفيسور: جلدوك إذاً، هاه؟ فهز آينشتاين رأسه في حالة النشوة البانتوميمية اللاواعية نفسها، وأطلقه لينتقل إلى جون دالتون، نفس التعابير والحالة المعربدة المنتشية. أنت من الثوريين الأشاوس، الأشاوس، سامعني يا كلب؟! قال البروفيسور بحماس، ولكن لدي خبر سيء: الذرة قابلة للتجزئة، هيا ردد معي ألكترون وبروتون خمسين مرة. ويهز دالتون رأسه باللاوعي المشدوه نفسه الذي لا يناسب رصانة ملامحه. أطلقه لينتقل إلى رجل بشعر أبيض مسنن يؤطر وجهه بهيئة إغريقية نمطية، يتطلع فيه البروفيسور وهما يدوران باستغراب مستنكر: وأنت وش أنت؟! قال الرجل وكأنه يعرّف شيئا بديهيا: أرسطو. ضحك البروفيسور حتى خطّطت عروقه المنتفخة خريطة وجهه. أنت أغلبك غلط، عارف؟ وهز أرسطو رأسه باتفاق احتفالي لامبالٍ، ولكن البروفيسور أعقب بلكنة اعتذارية: لا أقصد الإهانة، أنت كنت عظيما ولازلت كمصدر معرفي أساسي، لكن نكون صريحين، لم تُبقي شيئا في حاله الله يلعنك، أنت وش كان فيك أنت؟! اركد. ثم أطلقه ليتكور بين الحشد إلى لا أحد، وسط الأجسام، وسط الهدير الجنوني للجسد والصوت، تلفّـت ينتظر الذراع القادمة، وحينما لم تأتي أخذ زمام المبادرة وأخذ يرقص وحيدا ملوحا بيديه إلى تحت ثم إلى فوق وكأنه يطالب جمهورا ما بالثورة. تقارب الحشد أكثر، الموسيقى تصدح عالية لدرجة أنها لم تعد صوتا وإنما أصبحت صمتا، تجوهرت في الحيّز حتى صارت هي انقطاع الصوت. والرقصُ أيضا، لم يعد رقصا وإنما تجوهر في الحيز حتى صار توقف الحركة. يلتصقون أكثر. لم يعد البروفيسور متحكما، إنه فقط رافع يديه، والحشد يبدو وكأنه يرقص/لايتحرك كقطعة واحدة. ولكن كل واحد منهم ينسل بين الأجسام. شيء ما يدفع البروفيسور مثل غيره بين هذه الأجسام، ينسلُّ دون أن يعرف من، أين، لماذا. كل شيء صار حياديا، كل شيء يحدث صار هو الجوهر حتى صار هو اللاحدث، كل شيء صار يكتسب صفة جديدة من خارجه. خرج أخيرا من ناحية ما، لفظه الحشد مثل بصقة، ووجد نفسه في رواق طويل ضيق. امتدادٌ ظلاليٌّ تُـقلّمه لطخات ضوء من نوافذ صغيرة على الجدار الجانبي، شبيهة بأروقة الجامعة. وجد نفسه واعيا بموقفه تماما، وكأنه لم يكن قبل قليل في حالة جنونية لاسياقية يحتاج الانتقال المفاجئ منها تأقلما معينا. لقد كان هو كما كان من قبل، سكرانا وخاملا ومفعما بخيبة غامضة. هنالك صمتٌ شبحي في المكان، ذلك الذي لا تجده إلا في الأماكن المهجورة أو المقابر. نظر زوَراً بنصف إغماضة إلى آخر الرواق، ثمة شكل هناك في الأخير. شخص، كرسي، وتد. ليس واضحا. هيه، هتف البروفيسور، ولكن لم يُجب أحد. عاد الصدى مكمما. التفت وراءه فلم يرى سوى الظلمة، فكر أنه ليس لديه حل سوى أن يمشي. مشى بخطوات حذرة، الشكل تتضح حوافه أكثر، ولكنه لازال مظللا. التفت وهو يمشي نحو النوافذ التي تباريه، هنالك أشجار تين ترسم زخارف ظلالية على الزجاج. وهنا خالطه شعورٌ غريب، شعورُ أنه ليس هو، أنه ليس هو الذي يمشي الآن، وإنما هو الشكل الذي يقف في آخر الرواق، وحينما أدرك ذلك وجد نفسه واقفا في آخر الرواق، يلمح شكلا ظلاليا يسير نحوه. ولأنه كان قبل قليل هو الشكل الذي يسير الآن في الرواق، فقد ظن أنه سيرى نفسه، أن جزءا منه لازال هو ذاك الذي يسير. ولكن لم يصل شيء. ووجد أنه يحدق في فراغ، وأنه لم يكن هنالك شكل يُحدَّق فيه أصلا. دمدم بشيء من الغضب المنهك. لا وقت لمثل هذه الألاعيب. التفت وراءه، كان هنالك باب، فتحه وخرج نحو الشارع. كان خاويا تماما، أصواتُ قطط، ريحٌ فاترة في الأشجار، رائحة نقاء انعدام الأجساد البشرية. مشى، أنهى الزجاجة ولكنه ظل ممسكا بها تحت جاكيتته. ظل يمشي، يتطلع. استوقفته لوحة خشبية على حافة محل مغلق، عليها أبجدية غريبة، ربما صينية أو عبرية. حكمة؟ موعظة؟ تخفيض؟ وقف يحدق بجمود ذاهل فاتر، لطالما لفته غموض المكتوب الأبجدي أو الرياضي الذي لا يفهمه. كيف يفهمه أشخاص ولا يفهمه آخرون. تذكر كلمة قالها لمدير كلية ترينتي هنري بتلر حينما أراد إقناعه بأن يسمح له بالعودة محاضرا يدرّس الميكانيكا الكلاسيكية، الكلاسيكية جدا، وهو ما لم يفهمه بتلر الذي قال لو ظننت أنك ستعود للتدريس فحتما ستعود إلى تدريس كل تلك النظريات التي جلبتها إلى هنا، فيحاول مكليفقن أن يشرح موقفه المشوش، ويختمه بالكلمة إياها: ربما سأدرّس نظريات بالية بل وربما خاطئة، ولكن هذا لا يهم، في العلم كل شيء تراتبي، متصل ببعضه يجب أن يُدرس ككتلة واحدة. يتذكر أنه قال هذه الكلمة تحديدا ليقنع بتلر، المتخصص في الكلاسيكيات، ولكنه ليس متأكدا إن كان لازال مقتنعا بما قال، يفكر أنه ربما يجب إحداث قطيعة، ربما كل شيء متطرف فعلا، ربما كل مبدأ جديد يتكامل ويتراكم بقوانينه ورؤاه ولغته الجديدة التي استُحدثت من مساراتِ القوانين والرؤى القديمة لإلغاء القوانين والرؤى القديمة نفسها كليا، وهو ما سيحدث له حينما يطرأ مبدأ جديد من مساراته بقوانينه ورؤاه ولغته التكاملية الجديدة ليلغيه كليا. ربما أنت تنفصل دائما لا لشيء سوى لتتصل من جديد تحت مظلةِ حراك علمي أكبر يتأسس متصلا مثلك بذلك المبدأ الرؤوي في دائرة لامنقطعة من الانفصال والاتصال. ربما لا يوجد مبدأ “خاطئ” أصلا، ربما لا يوجد “أفضل” أو “أكمل”، ربما يوجد زمن وزمن، كلّ واحد منها بلغته وسياقاته ومساراته التي لا يمكن القياس بينها أو التفضيل بينها، وأنت يا مكليف، ربما لست في زمنك ببساطة، هاه؟ يقول لنفسه، ربما هذا كل ما في الأمر، أنت لست في زمنك، هل هذا أقسى أم ماذا؟ اختر بين أن تكون مخطئا أو أن تكون حالة منتهية عاجزة. لقد حدث هذا منذ مدة، لقد انتهيت منذ مدة، لماذا لم تنتبه له إلا الآن؟! أنت متأخر حتى في الوصول إلى نفسك! يحدق في اللوحة، بجموده الذاهل الفاتر، وسط سكون الشارع الشبحي، وليس متأكدا إن كان لازال مقتنعا بما قال لبتلر. افتراضان يصدّعان رأسه بإزعاج. ربما مقتنع، ربما لا، ربما إيه، ربما مستحيل، ربما يمكن. ربما ربما ربما ربما. أو تدري؟ ربما طز! إيه طز! ضحك بفحيح متقطع استلّه من جدية تأمله الكئيب. كلمةُ تنفيسٍ فحسب، لو كانت تعني دلالتها فعلا لما سحب جسده ومشى وعلى هيئته مظهر إنهاك منهزم. يسير، يتطلع، لا حركة، لا حياة، فقط جمادات، ذرات، إلكترونات، بروتونات. ربما بولتزمان وجماعته مخطئون، ربما هي ليست عينية، ربما هي استعارات لغوية عقلية بالفعل، رموز رياضية بل وشعرية متخيلة، ربما لاشيء موجود خارج إطار حسية الإنسان، ربما الألماني الآخر المدعو هوسرل صادق. هؤلاء الألمان الملاعين، الملاعين عيال الكلب! يسير في وسط الطريق، يتطلع، يترقب، حتى أخذ يشعر بالملل. وحينها وجد نفسه أمام كنيسة. كانت مغلقة، ولذا ضرب الباب ووقف ينتظر. لم يستجب أحد، ولذا ضرب الباب مرة أخرى. إفتح يا كلب، سائلٌ محتاج يقف هنا. ولكن لا صوت. بدأ يغضب، أخذ يضرب الباب بقوة حتى خرج أحد الجيران، صرخ فيه: الراهب في البيت الملاصق للكنيسة يا منيوك، انقلع. لوّح البروفيسور بيده في حركة تعبر عن خلاص فهمنا لا تزعجنا. ذهب إلى البيت الملاصق، طرق الباب، فتحت امرأة سمينة بملامح طفولية تقريبا. سألته: مرحبا يا أخي، كيف أخدمك؟ فكر في كلمة مناسبة يقولها، واكتشف أنه لم يفكر، وأنه فقط يصمت، ولذا قرر أن يقول أول كلمة تطرأ عليه: راهب. ابتسمت الأخت بلهجة اعتذارية: إنه يأكل عشاءه، تستطيع أن تزوره غدا. فصرخ تقريبا بذهول طفولي: غدا؟! ثم أدرك بوضوحٍ أكثر كارثيةَ هذا الاقتراح فصرخ هذه المرة بغضب: غدا؟! الأخت التي بدت مذهولة، ويجوز القول مفزوعة، دخلت المنزل وهي تومئ مطالبة بالانتظار. بعد لحظات خرج الراهب، حدق في البروفيسور تحديقة واحدة، وزفر بورطة وهو يهز رأسه بنبرة مألوفة: ادخل ادخل. جلس على كنبة صغيرة، في صالة مضاءة بفانوس زيت. في المكان صفرة حميمية، تكاد تطرد بقية الخمرة من رأسه. جلس الراهب أمامه، ممسكا بصحن عشائه، وقال: لن تمانع إذا أكملت طعامي أمامك؟ فهز البروفيسور رأسه. وفكر في نفسه والآن ماذا؟ أنا الآن عند الراهب، ماذا أريد؟ إنه لم يفكر فعلا في ماذا كان يريد من الراهب، على الأقل ليس بوضوح شفهي، ورأى أن يبدأ أولا بعبارة تعريف عن نفسه. الحروف أكثر طواعية الآن، نوعا ما، وسط كل هذه البيتية التي تثير لسبب ما غثيانه هذه الليلة. قال: انا البرو ولكن الراهب قاطعه: أعلم من أنت، أنت البروفيسور مكليفقن من الجامعة، لقد تقابلنا ذات مرة. ثم أضاف هامسا: في حالة مشابهة. دمدم البروفيسور بصوت مفخم لا يناسبه: نعم نعم صحيح صدقت أها صحيح. انتبه فجأة إلى كلمتي بروفيسور وجامعة في رد الراهب، وأصابه ذلك بانقباض، بل وخجل، بروفيسور وجامعة، الخرا على البروفيسورية والجامعية، إننا نستحق بعضنا فعلا، كلانا خرا. انكمشت ملامحه، وبدا وكأنه في حالة جمود حيادي صخري. قرر أنه لن يتحدث، لا جدوى من الأبجديات بعد اليوم، الأرقام أكثر دقة، كل شيء يروى الآن بالأرقام. سيُخرج مسودة الفتى الألماني وحسب. أدخل يده في جاكيتته حيث وضع المسودة، ارتطمت يده بزجاجة الفودكا التي نسيها، لمسها، ولمس في طرفها جلدا وعظما، رفعها بيده اليمنى وإذا به يرى أصابع يد ممسكة بالزجاجة، وقد استغرب للحظة وبدا عاجزا عن حل اللغز، ثم أدرك أنها أصابع يده اليسرى وليست أصابع دخيلة تحتاج تبريرا لتواجدها هنا، فأطلق قبضة يده اليسرى التي يبدو أنها عادت إلى نشاطها العصبي الذي كان منفصلا، ووضع الزجاجة الفارغة على الطاولة بيده اليمنى أمام نظرات الراهب الحيادية باستغراب، وأخرج المسودة وقدمها له بصمت. أخذها الراهب الذي أنهى طبق الذرة، تصفحها بينما اتكأ البروفيسور على الكنبة، وكأنه انتهى من مرافعته ولا يحتاج إلى مزيد من الكلام وهو الآن جاهز بكل وقار للحكم النهائي. قال الراهب: ما هذا؟ حطم السؤال سمت البروفيسور الوقور الذي انتهى من مرافعته ولا يحتاج إلى مزيد من الكلام. تلعثم بنبرة غاضبة: إقرأ. فتح الراهب المسودة، أرقام، معادلات، تركيبات معقدة. تردد قليلا في أن يعيد السؤال، بل لقد شعر بالإهانة، وكأن البروفيسور قد أتى هنا ليهين عقله فقط، أنت لا تعرف العلم والفيزياء والرياضيات وإلخ من هذا الكلام. ولكنه قال بمداراة: المعذرة، ولكنني لا أفهم. اعتدل البروفيسور بطريقة شبه مسرحية، قال: اللايقين.

وما هو بالضبط؟

عالم جديد.

هز الراهب رأسه، حدق في المعادلات والأرقام، بدت مجرد رسومات. قرأ الأسطر الأولى، وشعر بمغص في عقله. طيب وبعدين؟ قال في نفسه. إنه يستقبل حالات مثل هذه أحيانا، أشخاص ضائعون محطمون. ولكن هذا بروفيسور واللعنة، إنه ليس كادحا تستطيع تهدئته بكلمة لا معنى لها تقريبا وتكتسب قوتها الإيحيائية المقنعة من أنّ لا معنى لها، هذا يجعلها أكثر غموضا وبالتالي أكثر ميتافيزيقية واحتمالية، هكذا تعمل الحكمة، أفضل الحكم التي يقتنع بها الساذج هي تلك التي لا تعني شيئا بتاتا. الراهب يعلم هذا جيدا. ولكن ما هو الوضع المثالي لتناول حالة خاصة كهذه؟ فكر قليلا. قال وهو يهز المسودة: لقد فهمت، نوعا ما، ولكن بروفيسور، ما شأن هذا بي؟ اتكأ البروفيسور بمرفقيه على ساعدي الكرسي، وتطلع في الراهب بسمت أكاديمي، بل لاهوتي تقريبا، وجمع كل قواه الشفهية المكركبة، ولكنه فجأة أدرك أنه لم يقرر، هل المسألة تتعلق بالخطأ أم بالزمن؟ وتذكر أنه قال “طز” للمسألة ومشى. استرجع صورة فاراداي في معمله العتيق، صورة مديره بتلر بلحيته المُسرَّحة وهو يناقشه، صورة أستاذه مكسويل بلحيته الشعثاء في كافيندش، صورة كافنديش في الثمانينات قبل تومسون، أروقة الجامعة قبل عشرين عاما حين كان يقطعها مهرولا تقريبا، وأحس بحنين لذلك الوقت، بحنين لقناعات ذلك الوقت، ولذا قرر بعاطفة ذاتية بحتة أن يعتبر المسألة تتعلق بالخطأ والصح، استعاد سمته الأكاديمي اللاهوتي، بينما لازال الراهب ينتظر لحظة الصمت الطويلة هذه باستغراب، وقال: ماذا لو اكتشفت أن ما تؤمن به خطأ؟ زفر الراهب وهز كتفيه بحيرة مصطنعة، لم تكن هذه أول مرة يسأل فيها مثل هذا السؤال المعلب: سيكون هذا أمرا مريعا ولكن. فكر البروفيسور باستغراب لماذا استخدم الراهب كلمة سيكون؟ ثم انتبه إلى أنه طرح السؤال بشكل خاطئ، فأوقفه بحركة يد خرقاء عصبية: اصبر اصبر اصبر، أنت لا تفهمني، أنا أقول: ماذا فعلت وأنت اكتشفت أن ما تؤمن به خطأ؟ تطلع الراهب باستغراب متورط، قال بحيرة: أنا لم أكتشف أن ما أؤمن به خطأ. تطلعا في بعضهما لحظة، البروفيسور يحدق بعينيه شبه المغمضتين، بحذر، وكأنه يحاول أن يكتشف ما إذا كان الشخص الذي أمامه يحاول خداعه. إنه لا يحاول خداعه، ولذا قال بعصبية: أنت لا تصدق كل هذا الخرا؟ بدا البروفيسور وكأنه يتحدث عن شيء محسوس، مما جعل الراهب المحتار يظن أنه قد عاد إلى المسودة الغامضة من جديد، فهزها: تقصد هذا؟ لا أعلم إذا. ولكن البروفيسور قاطعه بتكشيرة غضب: ليس هذا، ولكن هذا. وأشار إلى الصليب الخشبي الكبير المعلق في الجدار، ولكن أصبعه كان موجها بطريقة غير متقنة فبدت إشارته من زاوية رؤية الراهب وكأنها موجهة إلى صورة جان دارك المعلقة بعيدا عن الصليب، التفت الراهب، حدق في الصورة باستغراب، قال بلافهم: القديسة جان دراك؟! فاندفع البروفيسور: نعم جان دار. ولكنه توقف فجأة بذهول تقريبا: جان؟! أنت تعرف جان أيضا؟! وحينما همّ الراهب المشدوه بالإجابة حرك البروفيسور يديه أمامه وكأنه ينفض كل سوء الفهم هذا ودمدم: اسمع اسمع اسمع، أنت تستنزفني، طيب، أنت رجل مرهِـق وأحمق، مع احترامي، أو بلا احترام، لا يهم، فقط أخبرني ماذا فعلت؟!

ماذا فعلتُ حين ماذا؟!

حينما اكتشتف أنك خطأ.

أنا لم أكتشف أنني خطأ.
زفر البروفيسور بعذاب متململ: يا أبتي حرام عليك، إنني أتمزق هنا، إرمي لي شيئا، أي شيء. تطلع الراهب فيه، كان على ملامح البروفيسور تعبير ألم مستنزف حقيقي. تمتم بتورط: ما الذي يمزقك؟ فمد البروفيسور سبابته بتكشيرة طفولية نحو المسودة وهتف: هذا، هذا يمزقني، يقتلني. بدا صوته المرتفع غريبا عليه، وكأنه ليس له، وهو ما جعله يُحس أنه يُـنتزع من هذا المكان، أن سطوعا ما يوشك أن يبتلعه. أطرق لحظة وكأنه ينتظر إجابة ما، وحينما لم تأتي أكمل بنبرة خافتة وكأنه يحادث نفسه محدقا في الفراغ: كلهم مثله، في أبراجهم، كلهم. تقتنع وتروج وتَدرس وتُدرس وتبني ويقال أنه حقيقة ثم هذا. وأشار مرة أخرى بسبابته الاتهامية نحو المسودة، ولكن هذه المرة بفتور انهزامي لا غضب فيه. هذا، يخرج من لامكان، ويمحو، باح. عرك وجهه براحة يديه بقوة، وكأنه يمسح أثرا عالقا، بينما تتدفق حروفه بهذيانية أكثر. صدقني إنها مهنة قديسين وشياطين عقلك على كف عفريت كل شيء سريع سريع لا يمكن أن تتخيل سرعة ما يحدث سرعة ما يستجد سرعة ما يُتنبؤ به سرعة ما يجب أن تتخلى عنه أو ربما لا يجب أن تتخلى عنه إنها متاهة متاهة لانهائية لاسياقية لابديهية والآن هذا يقول أن الأمر هكذا إلى الأبد وأن المشكلة ليست في فهم الإنسان الذي لا يستطيع أن يَفهم وإنما في العالم الذي صُمم لئلا يُفهم صدقني، وهنا صمت دفعة واحدة ورفع رأسه، حدق بثبات مفزوع في الراهب: تنام في عالم، وتخاف أنك تصحو والعالم لم يعد هو هذا العالم. تطلعا في بعضهما، كلاهما، بترقب. الراهب في حالة ذهول متورط، البروفيسور معلق في تعبير عجز طفولي. هذه النوبة الصراخية كانت قد أعادت شيئا من تركيزه، شعر بذلك السطوع يطفو أكثف في رأسه. انكمشت ملامحه إلى حالة أقرب إلى الطبيعية، تهدل في جلوسه، على جسده سمْت استسلام مستهلك. اندلق إلى الوراء حتى اختفى في حضن الكرسي. تنحنح الراهب وكأنه يفعل ذلك لمجرد طرد الصمت المزعج، فلم يكن لديه شيء يقال. يحدق في الأرض، يبحث عن كلمة ما، جملة معلبة ما، أي شيء اعتاد قوله، أعطوني أي شيء، أين ذهبت كل تلك الحكم الميتافيزيقية اللامؤدية إلى شيء؟! رفع رأسه، فرأى البروفيسور نائما في الكرسي، يشخر، بفم مفتوح، غائص تقريبا في جاكيتته التي تبدو وكأنها تخنقه.


—————


“الأفراد الذين ينفصلون باختراع نموذج جديد هم تقريبا في الغالب إما شباب صغار السن أو حديثون جدا على المجال الذي غيروا نموذجه. هؤلاء هم الرجال الذين، بسبب التزامهم المحدود بالممارسات السابقة لقوانين العلم النموذجي التقليدية، سيرون على الأرجح أن تلك القوانين لم تعد تحدد دورا قابلا للعب، وبالتالي يبتكرون مجموعة أخرى تستطيع استبدالها … فرغم أن العالَم لا يختلف باختلاف النموذج، إلا أن العلماء بعد ذلك يعملون في عالم مختلف”

الفيلسوف الفيزيائي الأمريكي توماس كُون.

في صباح السبت الموافق للعاشر من نوفمبر 1927، وبينما لازال مكليفقن نائما على كرسي الراهب، في حالة تشبه الإغماء، دخل أحد عمال التنظيف الذين يستغلون عطل الويكند مكتب البروفيسور في الجامعة، فرأى منظرا يكاد يكون مفزعا، لم يره من قبل: أكوامٌ من رزم الأوراق البحثية، أكثرها مُشرعٌ مثل جناحي طائر، على الطاولة، وعلى الأرض، وعلى الكراسي. تستلقي هناك في مكانها، تبعث إيحاء غريبا بالرعب، وكأن شخصا ما قد أمضى كل حياته هنا، لا يفعل شيئا سوى أن يقرأ، وأن شيئا ما جعله يخرج أخيرا، ويترك كل شيء معلقا في حالة لااكتمال حزينة.

نتاجُ الأيام الثلاثة التي جلسها مكليفقن في مكتبه، يقرأ، قبل أن يخرج إلى الحانة، ويجلس بجانب شاب ملتح، ويعرف أن فتاة تدعى جان خدعته وكسرت قلبه ولاذت بالهرب إلى الأبد.


————

“مبدأ التتاميّة لدى نيلز بور يعني أن معرفة أحد جوانب منظومة ما، تحُول دون معرفة جوانب أخرى من هذه المنظومة. ومبدأ هايزنبرغ الارتيابي مثال على هذه التتامية: معرفة موضع الجسيم (أو اندفاعه) تحول دون معرفة اندفاعه (أو موضعه) … سأل أحدهم بور لاحقا: ما هي الصفة التتامية للحقيقة؟ فكر لبرهة ثم أجاب: الوضوح”

الفيزيائي الأمريكي ستيفن وانبرغ.

دورثي، لماذا تركت العمل في الإدارة وذهبت للتدريس؟

سأل مكليفقن ابنته بشرود، بينما كان يحدق في حوضٍ مزجج صغير تسبح فيه أسماك صغيرة، بنظرةٍ تكاد تكون ذهولا. الألوان الفسفورية والذهبية والأرجوانية لهذه الأسماك الصغيرة التي تعوم عشوائيا – كما يبدو له – تجعله يفكر في أماكن بعيدة، في أزمنة بعيدة.

أنت في السابعة والتسعين يا أبي، وتسأل عن أشياء حدثت قبل سنوات. النسيان طبيعي، لا تتعب نفسك.

له لحية كثة الآن، وجهه أكثر صرامة، أكثر حجرية، إنه يشبه الآن أستاذه جيمس كليرك ماكسويل أكثر من مارك توين. عيناه زجاجيتان برطوبة محمرة. لم يشرب كأسا منذ عشر سنوات. لم يقرأ شيئا منذ أكثر من ذلك. قال بفتور شارد: لم أنسى، لازلت أذكر لماذا.

إذاً ليه تسألني؟! قالت وهي منشغلة بطوي ملابسه وترتيبها. فتحت الباب، وهمّت بالخروج، ولكنها توقفت فجأة، التفتت بفضول، تتذكر السنوات الغريبة التي قضاها والدها محاضرا في كامبريدج بعد أن ترك العمل كإداري نافذ، كان فيها شيء غامض. سألت: إيه صح، لماذا تركت الإدارة؟!

يحدق في سمكة تركوازية، تصعد وتهبط وتقطع مسافة الحوض كاملة، تتوقف لحظة، تبدو وكأنها تحدق في شيء ما، ثم تعود إلى نقطة الصفر، وهي لم تفعل شيئا فيما يبدو له. همس وهو منهمك في متابعتها: لا أعلم.

ولكنك قلت أنك تذكر. قالت دورثي بنزق.

نعم أذكر. قال باستذكار وهو يُبعد عينه عن السمكة ويحدق بشرود في زرقة الماء الشفاف خلف الزجاج. أذكر، ولكنني لا أعلم لماذا فعلت ذلك، كنت أنوي فعل ذلك لسنوات، ولكن لماذا تلك اللحظة تحديدا؟ أطرق قليلا، على وجهه تهدُّل شخص منهمك في استرجاع شيء عتيق، ولذا صوته يخرج خافتا باستغراب منهزم، وكأنه يأتي من ذلك البُعد اللامفهوم: لقد حدثت، هكذا ذات صباح، فجأة قررت.

لاشيء يحدث فقط يا أبي. حتما هنالك سبب دفعك لأن تقرر.
ولكنه لم يُجب. عاد ليتابع السمكة التركوازية، تؤدي حركة شبيهة بسابقاتها. تتحرك، تسبح، تعوم، ثم تعود إلى نقطة الصفر، وهي لم تفعل شيئا فيما يبدو له.


————

“إن حقبا مشهورة في العلم يفخر بها علماء وفلاسفة، بل وعامة الناس، لم تكن “عقلانية”، فهي لم تحدث بطريقة عقلانية، حيث أن العقل لم يكن هو القوة المحرك لها، ولم يتم الحكم عليها بصورة عقلية” “فالعلم أساسا مشروع فوضوي: الأناركية النظرية أكثر إنسانية ومن المرجح أن تشجع التقدم العلمي أكثر من قواعد وقوانين العلم الممنهجة البديلة … فلكل المنهجيات حدود نهائية، والقاعدة الوحيدة التي تصمد هي: كل شيء مقبول”

الفيلسوف الفيزيائي النمساوي بول فييرابند.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى