عدي الحربش - التاريخ الحقيقي لإرم ذات العماد

"إرم، في خاطري من ذكرها ألم. حلم صبايَ ضاع، آهِ ضاع حين تمّ."
(بدر شاكر السياب)

1
عندما هبط آدم بخطيئته إلى الأرض، فعل و معه صورة الجنة؛ ذكراها، ما يخزنه داخلَ عقلهِ من ألوانِها و أصواتِها و أرواحِها و نسائِمها، صورة تكاد تكون متطابقة مع الأصل العلوي لولا تعذرها على الإمساك و التثبت. نقل آدمُ الصورةَ بعنايةٍ إلى أبنائِه، و نقل الأبناءُ الصورةَ إلى أبنائِهم، و هكذا، و مع تصرم السنين، و تراكم الآثام، أخذت الصورة تتلاشى، و الذكرى تتمنع، إلى أن أصبحت فكرةً مجردة، خاوية، خاليةً من أيّ لونٍ و أيّ صوت، أيّ رائحةٍ و أيّ طعم، فكرة ما كان لها أن تتجسم في مخيلة حامليها لولا اقترانها بمفهومي الخلود و اللانهاية. تباينت ردود أفعال كل جيل مع هذا الفقد المُفجع، هناك من نسي الجنة كليا لينشغل بالأرض و ما عليها من نعماء و آلام، هناك من قنع بالمفهوم المجرد للجنة و أخذ يعمل حثيثا كي يصل إليه بعد مماته، و لكن شداد بن عاد، و الذي لم يكن يفصله عن ذكراها سوى ثمانية عشر رجلا، لم يرتضِ النسيان سبيلاً و لا قنع بالزهد، و إنما أخذ يسعى حثيثاً كي يبني نموذجا مُعاينا لجنة أجدادِه على الأرض.

كان شداد بن عاد ملكاً شديد البطش، عريض اليد، بسط سلطانه على غيره من الملوك، و اتخذ له في صحاري عدن عرشا و مستقراً. اختار شداد أرضاً وعرة ذات صخورٍ و جبال كي ينحت فوقها جنته الأرضية، شجعه على هذا الاختيار ما لقيه من صفاء جوّها و عذوبة نسائمها. عهد إلى مئة من الأمراء أن يبنوا له مدينة إرم، كل واحدٍ من هؤلاء كان يملك تحته ألفا من الرجال يعملون تحت رايته و يأتمرون بأمره. نقل شداد إلى الأمراء تصوره لمدينة إرم: أبراج و قباب تطاول السماء في علوها، أعلام و رايات تتصافق مع الرياح و ترحب بالقادمين، أرض من التبر تتلامعُ دون أن تؤذيَ رجلَ واطئيها، جدران و حيطان مسبوكة من الزبرجد و المرجان و العسجد و اللؤلؤ.

بدأ الرجال بناء مدينة إرم، و انكبوا فوق سقالاتهم طرقاً و نقلاً و نحتاً، و هكذا استفاقت المدينة المزموعة من سباتها الصخري، و أخذت تصغي إلى خواطر بنائيها و تسترق النظر نحو رؤاهم و الصور التي تتشكل في أذهانهم. هناك، رأت المدينة من الصور ما خلب لبها و أطاش صوابها: رأت الأطفال و هم يتراكضون صائحين في أزقتها، و رأت الرجال آناء الليل حين يرجعون كي يعاشروا خليلاتهم، رأت حفلات الرقص و الأعياد و الزواجات، رأت الأسواق و الدكاكين و ما تعجّ به من ضجيجٍ و حياة، رأت كل هذا و أكثر، و بدأت تحلم و تتطلع إلى ذلك اليوم الذي ينتهي به الرجال من بنائها، اليوم الذي يجيئ به الرجال بنسائهم و أطفالهم كي يعمروها و يحققوا فوقها كل هذه الرؤى الرائعة التي اختمرت في عقولهم.

جاء ذلك اليوم، و فرغ الرجال من وضع آخر معدنٍ نفيس في سور المدينة، و غادروها متجهين إلى صحاري عدن -حيث يسكن ملكهم- كي يزفوا إليه البشرى السارة. أسبغ شداد بن عاد العطايا النفيسة على الأمراء المئة، و أمر كل واحدٍ منهم بتوزيع المال و الثياب على من معه من رجال. دقت الطبول احتفالاً بيوم الرحيل الموعود، و اشتغلت النساء في جمع المتاع كي ينتقلن إلى ما يفوق بيوتهنّ بآلاف المرات كما حُدِثن، و شدّ الرجال أمتعتهم فوق كل دابة يملكونها، إلاّ أن شداد بن عاد وقع في خطأ جليل لم يحسب حسابه عندما بنى جنته، لقد التزم بمفهوم اللانهاية أثناء بنائها، أمر أن يجنح الرجال إلى كل ما هو أكثر و أفضل في كل شيء يبنونه، غير أنه تعامى عن مفهوم الخلود، تناسى أنه قد يبني ما يخال أنه يقارب الجنة كمالاً و طموحاً إلا أنه لن يستطيع أن يعيش فيه أبداً.

خرجت القافلة بدوابها و أمتعتها و رجالها و نسائها متجهة نحو إرم. عندما انتصف الطريق سنحت ظبية ضامرة أخذت تجري و تتقافز أمام شداد بن عاد مما جعل الدم يفور في عروق الملك الصياد. نخز شداد حصانه كي يعدو خلف الظبية، و سحب قوسه و نشابه صارخاً برجاله أن ظلوا هنا حتى أرجع. مالت الظبية يمينا و أخذت تنهب الصحراء في خطوات تكاد لا تلامس فحصَ الأرض، بينما أخذ حصان الملك يجدّ في العدو إلى أن اشتد به الإنهاك ليسقطَ صريعاً على جنبه. ارتمى الملك على وجهه و هو يلعنُ حظه العاثر و الحصان و الصحراء و الظبية. التفت وراءه فاستيقن أنه أبعد الجدّة، و تطلع حوله فلم يجد إلا فضاءاً بلقعاً تمتدّ على مد النظر، و سرابَ ماءٍ يُذكره بعطشِه دون أن يرويَه. اختار شداد وجهة معينة يخالُ أنها تؤدي إلى قومه، و لكن أنّى له أن يصل و عزريل ينتظره وسط الصحراء! سقط الملك العظيم على وجهه صريعَ عطش، و سكن إلى الأبد في بطون الظباع و العقبان بدل أن يسكن جنته الأرضية، أما قومه، فلقد أدركتهم الصيحة و هلكوا في نفس المكان الذي أمرهم ملكهم أن لا يَبرحوه.

بقيتْ إرم تنتظرُ وسط الصحراء قدوم آهليها دون جدوى. بقيت تحلم بابتسامات الأطفال، و قبلات الأزواج، و حفلات الأعياد، و ضجيج الأسواق، بقيتْ تستمعُ إلى النسائم و تستخلصُ منها أي نبهةٍ و أي همسة يمكن أن تشابه الأصوات البشرية التي عهدتها من بنائيها البشر. عندما طال انتظارها بدأت تحِنّ و ترزمُ رزيم الناقة و هي تعاين ذبحَ ابنِها الحوار. كم من شاعر و مسافر ليليّ مروا قريبا من إرم و سمعوا رزيمها وسط الليل فحسبوه أصوات جنٍ و غيلان تلعب في الظلام. بعد تصرّم ما أحسبهُ شهوراً أو سنينا، لم يعد بإمكان المدينة الإنتظار أكثر، فتمطّت بظهرها، و انتفضت من قواعدها، و بدأت ترزحُ بهيكلها المهيب ناهبة الصحراء، باحثة عن أي بشرٍ يمكنُ أن يعمرها أو يسكنَ فيها.

تتحدثُ الروايات الإسلامية عن رجلٍ أنصاري يُدعى عبدالله بن قلابة، خرجَ يطلبُ إبلاً له، و عثر على مدينة إرم بالصدفة. ما تخطئ الروايات في توضيحه هو التالي: لم يكن ابن قلابة من عثر على المدينة، المدينة هي من عثرت على ابن قلابة.

2
كان ابن قلابة آخر من عثرت عليه المدينة في تجوالها المستمر، و لكي أستطيع أن أسمي هذه القطعة تأريخاً يجب أن أبدأ بأول من عثرت عليه: بذاك التاجر النبطيّ الذي هام على وجهه غرباً بعد أن انفصل بالخطأ عن قافلته المتجهة إلى اليمن. كان الرجل النبطيّ يمسك بزمام ناقته و يمشي مجتهداً قاطعاً الصحراء رغم حلكة الظلمة، ذلك أنه استشعر الخطر بعد أن نفد ماؤه، و عزم على أن لا يتوقف عن المسير ليلا أو نهارا إلى أن ينتهي بواحةٍ أو بئر.

تحتَ ضوء البدر الساطع، تنبهت إرمُ من سِنتِها و اشرأبت نحو النبطيّ القادم تجاهَها. كادت أن تجري إليه لولا خشيتها أن ترعبه. قامت بكل هدوء بفتحِ أبوابِها و أسلمت نفسَها بطواعيةٍ و كأنها امرأة تستقبل زوجها الغائب. توقف النبطي مذهولاً أمام سور المدينة، أخذ يصيحُ على أهليها دون أن يسمع رجعاً لندائه. دخل النبطي بوابة المدينة. أخذ يمشي بناقته في دروبها دون أن يلتقي أحداً. عندما أشرقت الشمس، انعكست أشعتها على رمال المدينة الذهبية، و رأى النبطيّ المذهول النادر من الزبرجد و الياقوت و الفضة و الجوهر يرتمي في كل مكانٍ و كأنه الحصى. أخذ النبطيّ يعدو مذهولاً و هو يصرخ من الفرحة. رجع إلى ناقته، أنزل بضائعه، و بدأ يثقل سنام ناقته بما ينزعه من حيطان المدينة من الجوهر الثمين و المعدن النادر. ملأ النبطيّ قربته من الماء المتفجر من سواقي المدينة، و عزم على أن ينام ليلته في إحدى غرفها الخالية، حتى إذا انبلج الصباح غادرها باحثاً عن أقرب مكان يستطيع أن يبتاع منه رواحل أخرى، علّه يرجع إلى مدينة الكنوز هذه، و يمتاح منها قبل أن ينتبه إلى وجودها و يشاركه خيراتها أحد غيره.

أطبق الظلام، و نام النبطي في إحدى الغرف المزخرفة، و أخذت إرم تراقب الرجل النائم و تسمتعُ إلى أنفاسه و هي حائرة في أمرِها. ما بال الرجل انقضّ على جدرانها ينزعُ و يكسر بدل أن يبني و يعمر؟ ما باله ربط أمتعته و حزمها في كتلة واحدة و كأنه ينوي مغادرتها و عدم المكوث فيها كما كانت تأمل؟ أصيبت المدينة بالذعر من هذا الهاجس، أرادت الاحتفاظ بهذا البشري النائم كي يحقق فوقها كل ما شاهدته منذ سنين في مخيلة بنائيها. أرادت أن تصغي إلى رجع أنفاسه و أن تتأمله إلى أبد الآبدين. و هكذا، و في هدأة الليل، و على غفلة من النبطيّ النائم، قامت المدينة بإقفال باب الغرفة التي ينامُ فيها. أغلقته، و أقفلته، و حولته صخراً فوق صخر، و كذلك فعلتْ مع الشرفة المتواجدة بالأعلى.

استفاق النبطيّ مع أول ساعات الفجر، و توجه بخطى ناعسة إلى الباب متلمسا طريقه وسط العتمة. عندما عثر عليه حاول دفعه، إلا أن الباب تمنع عليه و وقف جامدا كالصخر. طار النوم من عيني النبطي، و أحس بالانزعاج يقبض على قلبه. من أقفل الباب أثناء الليل؟ من أقفل الباب وسط هذه المدينة المهجورة؟ من هذا الذي يتربص به؟ حاول أن يدفع ثانية، و انكب بكتفه ثم بكامل جسده على الباب إلى أن أحس بالخور. أخذ ينادي مستصرخا دون فائدة. لقد علق، و لن يمر كثير وقت قبل أن يشعر بالعطش و الجوع و يموت وحيداً. بكى النبطي بكاءاً مراً، بكى و أخذ يصرخ و يشتم و يرمي برأسه فوق الحائط، فعل هذا و المدينة البِكر تسمع و ترى، خائفة منزعجة، و كلما زاد الرجل صراخه كلما زاد خوف المدينة و تمنعها و انقباض مفاصلها و أبوابها. بعد صراع ثلاثة أيام، سكنت حركة النبطي، و سكتت أنفاسه، و أخذت المدينة تتأمل بأسى -دون أن تفهم- جثة أول ضحايها. أخذت تتأملها و هي تتعفن و تنتفخ ببطء، ثم أخذت تتأملها مزيداً و هي تتفسخ و تتحلل، إلى أن أصبحت عظاماً بالية، تختلط بتراب الغرفة، و عندما آيست المدينة أن يأتي الفرج عن طريق هذه العظام الهامدة، عاودت شأنها الأول، فتمطّت بظهرها، و تحررت من قواعدها، و أخذت ترزح بهيكلها الحزين عبر الصحراء بحثاً عن آهلين.

الضحية الثانية كان حية من حيات العرب، و واحداً من صعاليكها، أصاب دماً في حيٍ من بني ذبيان، و هرب جنوباً بعد أن سرق فرس القتيل و عتاده، و أخذ يقطع فيافي الليل مبتعداً عن موضع الدم إلى أن اشتد به النعاس و ناله التعب، و عندها أوقف الحصان، و افترش الأرض، ثم أغمض عينيه و نام. عندما استيقظ، لم يرع إلا بسور المدينة الشاهق يقف فوقه، و أعلامها الحمراء تخفق فوق أبراجها العالية. تعجب الرجل كثيراً مما رأى، و شكّ في عقله، إذ أنه حينما نام، فعل و هو مستيقن أن الأرض التي اختارها فراشا له أرض خلاء جرداء، تلعب فيها الريح دون حاجتها أن تتوقف تحت جدار أو جبل. من أين أتت هذه المدينة المهيبة؟ كيف لم يرها وسط الليل؟ لا بدّ أن التعبَ بلغ به أقصاه ليلة البارحة كي ينام دون أن ينتبه إلى هذه المدينة الشاهقة الأبراج. لم يخطر بباله أبداً أن المدينة هي من عثرت عليه نائماً وسط الصحراء، و أنها هي من توقفت فوق رأسه و أخذت تراقبه و تنتظر استيقاظه.

اقترب الفارس الصعلوك بحذرٍ نحو المدينة و قرع بوابتها. عندما لم يسمع جواباً قام بدفع البوابة، فإذا بها تتحرك منصاعةً إلى الداخل. ما إن وقعت عينا الفارس على رمل المدينة العسجدي و حصاها العقياني حتى فقد صوابه. انطلق يجري بحماس وسط ساحتها دون أن يتنبه إلى حركة البوابة و هي تنقفل بهدوءٍ خلفَه. أخذ الفارس يتطلع فيما حوله و هو لا يصدق ما تراه عيناه. لقد سبق أن زار أسواق مكة و يثرب و الحيرة، و لكنه لم ير قطٌّ في حياته مدينة كهذه! كانت النسائم تلعب ممهلة في ساحاتها، و كان الماء يتدفق بعذوبةٍ في سواقيها، أما البيوت و المباني فلقد كانت كنوزا و تحفاً تملأ العيون بهجةً و دهشة. أكثر ما استعصى على الفارس الصعلوك خلو المدينة من السكان. أمضى الصعلوك نهاره و هي يتجول فيها و يشرب من سواقيها و يطعم من أشجارها. عندما أطبق الليل نام في أحد بيوتها. استلقى على ظهره و أخذ يتطلع إلى القمر عبر شرفةٍ عالية. حدّث نفسه: "يالهذه المدينة العظيمة! من أين هبطت و كيف عثرتُ عليها وسط الصحراء؟ من بناها و لمَ ترك كل هذه الكنوز داخلَها؟ أين ذهب بشرُها، و أين ذهبت حيواناتها؟ سوف أتخذها سكناً، و ستنقضي أيام التيه و الجوع و الخوف، و ليقضِ الله أمراً كان مفعولا."

هكذا اعتقد الفارس المسكين، دون أن يدري أن الإنسان لكي يحيا يحتاج إلى معاشرة غيره من الناس. انقضى اليوم و اليومان، الأسبوع و الأسبوعان، و بدأ الفارس يتململ و هو يدور في دروب المدينة الصامتة، و عندما قرر أخيراً أن يخرج كي يُحضر إلى مدينته امرأة يستأنس بها و أصحابا يسامرونه ليله، إذا به يكتشف أن البوابة التي كانت منصاعة سابقاً قد تمنعّت، و أنها –مهما حاول جاهداً أن يحركها أو يحطمها- جامدة صامتة. كاد الفارس الصعلوك أن يُجنّ، و هكذا تحوّلت حياته الوادعة إلى هاجسٍ محموم للخروج من هذه المدينة المهجورة. طاف بأسوار المدينة المرة تلو المرة، و حاول مع سائر أبوابها ما حاوله بدايةً مع البوابة الرئيسية دون جدوى. في الأخير، عندما آيس الخروج من أبوابها، قرر أن يتسلق سورها الشاهق، و أن يقفز فوقه هارباً، و بعدها لن يضيره إن استطاع أن يرجع إلى الباب ليفتحه أم لا، لقد أصبحت المدينة في خاطره سجناً، و كل ما يهمه الآن هو الخروج منه.

عثر الفارس على مجموعة حبالٍ في إحدى أركان المدينة، و اضطر أن يشدها ببعضها كي يصنع طولاً معقولاً يمكنهُ من الوصول إلى أعلى السور، و بعد أن اختار موضعاً منه يحسبهُ الأدنى علواً، قذف بحبله أكثر من مرة إلى أن أنشبه بأحد أحجار السور الثمينة، و أخذ يصعد بحذرٍ و نفسه تحدثه بقرب النجاة.

عادت إلى إرم نفس الهواجس التي تخطفتها في ليلتها الأولى مع النبطي، و أحست بشعور الأم الثاكل و هي تشاهد آخر أولادها يغادرونها، شعور الزوجة المطلقة و هي تشاهد زوجها يهجرها. كانت كل خطوة يضعها الفارس المتسلق على سورها طعنة يغرزها عميقاً في خاصرتها. لم تستطع المدينة أن تقف مكتوفة اليدين، أرادت الاحتفاظ بفارسها، و لكنه لن يعدم حيلةً يصنعها كي يغادر حضنها الخانق، و ها هو يكاد أن يصل أعلى السور، و هكذا، و بانتفاضةِ ذعرٍ مفاجئة، أفلتت المدينة الحجر الثمين الذي كان الحبلُ يلتف حوله، و تردّى الفارسُ من علوه الشاهق إلى القاع، لتندّق عنقه، و ليتحول مباشرة جثة هامدة تحت أنظار المدينة المنكوبة.

كم من ضحايا سقطوا في تاريخ هذه المدينة الحزينة؟ لمن كل هذه العظام و الجماجم التي تملأ ساحاتها و تنتثر في دروبها؟ هل يتوجبُ عليّ أن أذكر قصة كل واحد منها كي تغدو هذه القطعة تأريخاً؟ لا أظن! إذ أنّ أهم ما بالتاريخ بدايته و نهايته، أما ما بين البداية و النهاية فلا يعدو أن يكون سلسلة من المحاولات البشرية المكرورة و المحكومة بالسقوط. هل يعني هذا أن نزهد بالتاريخ؟ إطلاقا! إننا نحتاج إلى هذا السجل الطويل من المحاولات الفاشلة كي نتمعن فيه و نبني منه علومنا و حضارتنا و فلسفتنا التي تجيب أسئلة الحياة المُلحة. مِن هذا التاريخ الطويل من الضحايا صنعت مدينة إرم فلسفتها. لم تعد تتفاعل سلباً مع كل ضحيةٍ تسقط كما في أيامها الأولى، بل أسلمت إلى التفكير و التأمل و التفلسف. و هكذا، وقعت إرم على جوهر المسألة، و استنتجت أن لبّ المشكلة هو الآتي:

.. أنها -أيام تخلقها- أيام بنائيها الضخام الأوائل- كانت حُلماً، حُلما يدور في مخيلاتهم.. أما الآن، فلم تعد كذلك، بل أصبح أولائك الرجال هم الحلم الخاص بها.. و بين أن تكون حالماً، و أن تكون أنت الحلم، كل الفرق!..

هكذا فلسفت إرمُ مشكلتها، و بهذا المزاج استقبلت عبدالله بن قلابة الأنصاري، لتسمح له بعد أن طاف في دروبها و جمع من كنوزها أن يخرج من بوابتها سالماً معافى لأول مرة. قطع ابن قلابة الصحراء بحمولته و بالصور التي تتزاحمُ في عقله، و انتهى إلى مجلس الخليفة معاوية بن أبي سفيان، و حكى له و لضيوفه كل ما شاهده عيانا من عجائب تلك المدينة الفريدة، ثم أخذ يعرض عليهم الجواهر الثمينة التي اقتلعها من حيطانها و جمعها من أزقتها. استفاقت ذكرى قصية في عقل اليهودي كعب الأحبار، و أخذ يؤكد ما جاء على لسان الأنصاري، و هكذا، و بعد أن تسامع الناسُ بقصة هذه المدينة العجيبة، بدأوا يلهجون عنها في مجالسهم، و يحلمون بها عندما يستلقون فوقَ مضاجعهم.

ماذا حدث لإرم بعد ذلك؟ يطيبُ لي أن أتخيّلَ أنها –و بمجرد أن اختفى ابن قلابة عن أنظارها- تداعتْ، هكذا و بكل بساطة، تداعتْ بأسوارها العالية و أبراجها الشاهقة و مبانيها المزخرفة. تداعت و تلاشت و ارتضت أن تحيا إلى الأبد كحلمٍ يخلدُ و يكبر في مخيلات معشوقيها البشر، إذ ما حاجتها بالحياة المادية و بالوجود الحقيقيّ إذا لم تستطع أن تحيا خارج عقلها الذاتي؟ أحياناً أخرى، أتخيلُ أنها ما زالت تذرع الصحراء بحثاً عن ساكنيها، و أني –ذات يوم- سوف أعثر عليها أو ستعثر عليّ. أحياناً أخرى، أحاول أن أوفقَ بين الفكرتين، فأتخيلُ أنها تذرعُ الفضاء العقلي بعد أن ذرعت الصحاري و القفار عقودا و قرونا، و أنني كلما أردتُ أن أكتب قصة ما، أطرق بابها، و أعلّ من مائها، و أتفيأ بظلالِها.

قد تلجّ عليّ أيها القارئ الكريم مُعترضاً: "تتخيل! قلتها ثلاث مرات، ثم تتجرأ و تسمي قطعتك هذه تأريخاً." استميحك العذر أيها القارئ، و لكن الأحداث لم تكن لتجري –و لا ينبغي لها أن تجري- إلا بهذه الطريقة. هذا هو التأريخ الحقيقي لمدينة إرم ذات العماد، لمدينة ابتغى بناؤوها الأوائل أن يجعلوها صورةً للجنة، لكنها لم تتحول كذلك إلى أن وقعت هي أخيراً على المعنى الحقيقي للجنة: معنى أن تحيا في عقولِ حالميك.


عدي الحربش
May 01 / 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى